الخائفون في الغرب من الثقافة الإسلامية ينسون أنها ألهمت أوروبا بأساسيات النهضة
تحكي رواية ابن طفيل، قصة فتى نشأ وحيدًا في جزيرة مهجورة مع الحيوانات، وعندما كبر أصبح يستخدم حواسَّه وعقله، لفهم طريقة عمل قوانين الطبيعة

ترجمة: السياق
وثَّقت صحيفة نيورك تايمز الأمريكية، حقيقة ثقافية، غائبة عن مُعظم دارسي العلاقات الراهنة المأزومة، بين العالم الإسلامي والغرب، وذلك بالكشف عن أن واحدة من أشهر الأعمال الأدبية الغربية، هي رواية "روبنسون كروزو" التي صدرت في القرن الثامن عشر، تدين بالفضل لرواية "حي بن يقظان" التي نشرها الكاتب الإسلامي الأندلسي، أبو بكر محمد بن طفيل، في القرن الثاني عشر.
لكن لماذا هذا الكشف، أو التذكير بهذه الحقيقة الثقافية شبه المنسية؟!
الإجابة تتلخَّص فيما أرادت "نيويورك تايمز" إيصاله بإن أصحاب الرأي والقرار في الجانبين، يركِّزون على ظواهر القلق والغضب والخلافات، بين الغرب والعالم الإسلامي، وينسون أن هذا الوضع طارئ، وأن في العلاقات التاريخية، بين الحضارتين الإسلامية والغربية، مساحات واسعة للتعاون والتبادل الثقافي، تحتاج مَنْ يحفّزها.
روبنسون كروزو استلهم قصة حي بن يقظان
ويعرض كاتب العمود في "نيويورك تايمز" مصطفى أكيول، نموذجًا لذلك، بالكيفية التي استلهم بها الأديب البريطاني دانيال ديفو فكرة روايته الشهيرة "روبنسن كروزو"، التي تدور حول رجل تقطَّعت به السُّبل بمفرده على جزيرة، من رواية عربية أندلسية، سبقته بستة قرون، هي "حي بن يقظان" لابن طفيل.
وتعيد "نيويورك تايمز" تسجيل معلومة، لا يعرفها كثيرون، هي أنه قبل 11 عامًا "أي عام 1708"، من كتابة ديفو روايته الشهيرة، ترجَّم سايمون أوكلي، الباحث المستشرق في جامعة كامبريدج، ونشر رواية "حي بن يقظان" التي تأثَّر بها ديفو، وظهرت بصماتها في روايته "روبنسون كروزو"، وهي معلومة تتبَّعها ووثَّقها مارتن وينرايت، المُحرر في صحيفة الغارديان.
الحقيقة والأخلاق باعتماد الملاحظة والتفكير
تحكي رواية ابن طفيل، قصة فتى نشأ وحيدًا في جزيرة مهجورة مع الحيوانات، وعندما كبر أصبح يستخدم حواسَّه وعقله، لفهم طريقة عمل قوانين الطبيعة.
وفي هذه الملكة الفكرية والحسية، ابتكر بطل رواية "حي بن يقظان" نظريات أصل الكون، وطوَّر حسًا أخلاقيًا، في تعامُله مع الحيوانات والنباتات.
ثم يغادر "حي" جزيرته، ويزور جمعية دينية، ليجد أن تعاليم العقل والدين مُتوافقة ومُتكاملة، ومع ذلك، لاحظ أن بعض مدَّعي التديُّن قد يكونون فظين، بل وحتى مُنافقين.
وبعد ذلك عاد إلى جزيرته، إذ وجد الحقائق الكبرى، وطوَّر مفاهيمه، عن الحقيقة والأخلاق، من خلال الاعتماد على الملاحظة والتفكير.
ويخلص تقرير "نيويورك تايمز" إلى القول: إن رسالة ابن طفيل، كانت واضحة وجريئة جدًا في زمانها، ومفادها أن الحقيقة يمكن أن تأتي بالتديُّن، كما يمكن أن تتحقَّق بالعقل والضمير من الداخل، أي أنه يمكن للناس أن يكونوا حُكماء وفاضلين، حتى مع اختلاف الديانات.
مستلهمو نظرية بن طفيل
وقد صدرت في أوروبا ترجمات عدة، لرواية حي بن يقظان، الأولى إلى اللاتينية، بقلم إدوارد بوكوك عام 1671، ثم إلى الإنجليزية، من جورج كيث عام 1674، وثالثة إلى الإنجليزية، من سيمون أوكلي عام 1708.
وحظيت رواية حي بن يقظان، بإعجاب لافت، من فلاسفة عصر التنوير، باروخ سبينوزا وجوتفريد فيلهلم ليبنيز وجون لوك، الذين كانوا يحاولون تعزيز الشعور بالكرامة الإنسانية، في عالم مسيحي عذَّبته الحروب الدينية والاضطهاد الطائفي.
كما كان بين المعجبين بالرواية، طائفة الكويكرزر البروتستانتية الجديدة، التي تؤمن بأن كل إنسان لديه "نور داخلي" بصرف النظر عن العقيدة أو الجنس أو العرق.
هذا التلاقُح الفكري، بين رواية بن طفيل والكويكرز، كانت له تأثيراته العميقة، إذ أصبح الكويكرز، في غضون بضعة قرون، قادة في حملات لتغيير العالم، بإلغاء العبودية، وتحرير المرأة، وغير ذلك من القضايا الجديرة بالاهتمام.
بريطانيا... المعقل الأوروبي للإخوان المسلمين
دور ابن سينا
ويشير تقرير "نيويورك تايمز" إلى أن طائفة الكويكرز تأثَّرت بشكل بالغ، بأعمال أبي الوليد محمد بن رشد، المعروف أيضًا باسم "ابن سينا".
فمن موقعه، الذي شغله ابن طفيل، وهو منصب الوزير في بلاط الخليفة الإسلامية، كلَّف ابن رشد بكتابة تعليقات على الفلسفة اليونانية القديمة، وهي التي أصبحت المصدر الرئيس لإعادة اكتشاف الإغريق في أوروبا، ما أكسبه احترامًا كبيرًا في الغرب.
ويوضح التقرير، أن فلسفة ابن رشد سعت إلى مواءمة الفلسفة مع الشريعة الإسلامية، وأنها ورواية حي بن يقظان، اعتمدتا القناعة، بأن الدين والعقل، مصدران مُستقلان للحِكمة.
وطبَّق ابن رشد هذه الرؤية، على الجدل بشأن الجهاد، مُنتقدًا المُتطرِّفين في عصره، الذين دعوا إلى الجهاد "حتى يقتلعوا ويُهلكوا تمامًا مَنْ يختلف معهم".
ورأى أن هذا الموقف يعكس "جهلًا من جانبهم بقصد المُشرّع".
ويؤكِّد التقرير أن هذا التيار المتسلسل، من ابن طفيل إلى ابن رشد، بذل قصارى جهده، لتعزيز وِجهات النظر الأكثر ملاءمة للمرأة في الفقه الإسلامي، بتبيان أن للمرأة الحق في رفض تعدُّد الزوجات، والتمتُّع بحقٍ متساوٍ في الطلاق، وأن تصبح قاضية.
كانت المُساهمة الرئيسة الأخرى، لابن رشد في أوروبا الحديثة، هي دعوته للنقاش المفتوح، إذ يُعبِّـر عن الآراء بحرية ويقيسها بعقلانية، وهي المبادئ التي التقطها الحاخام جوداه لوف من براغ، في القرن السابع عشر، وجون ميلتون، وجون ستيوارت ميل.
ومع ذلك، كره المحافظون في إسبانيا الإسلامية، انغماس ابن رشد في الفلسفة، واتهموه بأنه مُشرِك، بعد أن استشهد بفيلسوف يوناني، كان من عابدي كوكب الزهرة.
فكان أن تعرَّض ابن رشد للإذلال والنفي، والحبس المنزلي، كما أُحرقت كتبه في الفلسفة، وضاعت أغلبية النُّسخ العربية الأصلية.
ويخلص تقرير "نيويورك تايمز" في المقاربة بين العالمين الإسلامي والغربي، إلى أن السير إلى الأمام، بالنسبة للعالم الإسلامي، يكمن في التوفيق بين الإيمان والعقل، وفي المقابل على العالم الغربي، إدراك أن ما بينه وبين الثقافة الإسلامية، أعمق وأقوى، من موجات الفوبيا والتشويه العارِضة.