لماذا يكره الجميع مراكز البحوث والدرسات؟

باختصار، عائلاتنا تحبِّنا، لكن يكرهون وظائفنا، وأسوأ جزء هو أننا نعرف وِجهة نظرهم، بعد كل شيء.

لماذا يكره الجميع مراكز البحوث والدرسات؟

ترجمات - السياق

إذن "ما وظيفتك؟" هذه هي  تقريباً بداية أي محادثة، في كل مكان نكون فيه، بشكل مزعج، في واشنطن.

سؤال قاتل للمحادثات، في وجبات العشاء العائلية، المعضلة هي أننا خبراء سياسيون محترفون ، والأسوأ من ذلك، خبراء يعملون في مراكز التفكير، ذلك يعني أننا نرتدي بدلات فاخرة، ونتحدَّث إلى وسائل الإعلام في مواضيع معقَّدة وخطيرة، مثل الأمن الأوروبي والأسلحة النووية. وتماماً مثل باقي الخبراء ، لدينا صفوف من الشهادات الأكاديمية على جدران مكاتبنا، وبالطبع  شبكات اتصالات رفيعة المستوى، في واشنطن وخارجها.

ورغم كل ذلك، لا أحد في المناسبات العائلية، يعتقد أن أياً من ذلك، يمنحنا رؤية خاصة أو ثاقبة، فلدى أقاربنا أفكارهم الخاصة عمّا يحدث في العالم، وما يجب على الولايات المتحدة فِعله، حيال ذلك.

إنهم لا يرون لماذا يجب أن تؤهِّلنا الحروف، التي تظهر قبل أسمائنا، أو مجموعاتنا الفِكرية، لاتخاذ خيارات سياسية أفضل، لا يعاني المحترفون الآخرون ذوو التعليم العالي، هذه المشكلة، لا ينظر أبناء العمومة من الدرجة الثالثة عادةً في عيونهم ويقولون: "نقطة مثيرة للاهتمام، لكن لدي آرائي الخاصة عن كيفية إجراء جراحة القلب".

باختصار، عائلاتنا تحبِّنا، لكن يكرهون وظائفنا، وأسوأ جزء هو أننا نعرف وِجهة نظرهم، بعد كل شيء.

إذا كان خبراء مؤسسة الفِكر والرأي، يتمتعون بمثل هذه الرؤية العظيمة في السياسة، فلماذا النتائج رهيبة جداً في الكثير من الأحيان؟

خلص استطلاع للرأي، أجرته شركة"Cast From Clay"، ومقرّها بريطانيا، إلى أن 20 في المئة فقط من الأمريكيين، يثقون بمؤسسات الفِكر والرأي، وللأمانة عائلاتنا ليست من بينهم.

وفي ظِل أزمة الثقة هذه، حتى من أقاربنا، حان الوقت لنواجه حقيقة أن مؤسسات الفِكر والرأي، لديها مشكلة سُمعة خطيرة، وهي تستحقها .

لماذا هذا الحال؟

الناس لا يكرهون العاملين في القطاع العام، إنهم يقدِّرون المستجيبين الأوائل -كخدمات الإطفاء والطوارئ الطبية- وأحياناً على مضض، الشرطة، ولديهم احترام كبير للجيش بالزي الرسمي.

يقدِّر الأمريكيون، الذين يرسلون شيكات الضمان الاجتماعي، والذين يحافظون على تشغيل المتنزهات الوطنية، حتى عندما يشتكي الناس من خدمة البريد أو مصلحة الضرائب، لا تسمعهم يقولون "إنهم يفضِّلون تسليم خطاباتهم الخاصة"، بعبارة أخرى، تؤدي أغلبية أجزاء الحكومة وظائف، يفهم الناس العاديون أنها ضرورية، حتى لو لم يُحِبوها.

مقارنة بتلك المهن النبيلة، فإن مجموعة فِكرية نخبوية للحكومة، تقوم بعمل له  أهميته في واشنطن، يوصف ويشرح أبعاد الأمور، لمسؤولي الدولة بالحكومة الفيدرالية الأمريكية، ومع ذلك يحصل هذا المجهود على أكثر من مجرَّد التجاهُل، في بقية الولايات المتحدة.

كما قال أحد الزملاء، لا تحظى مؤسسات الفِكر والرأي بالاحترام، إلا من برامج المسافر الدائم، أومن بعضها (وبفضل كوفيد-19، لا تحترمنا شركات الطيران الآن).

خارج هذا الوسط المحدود، يُنظر إلى خبراء السياسة، على أنهم جزء من مؤسسة واشنطن الكبيرة المسرفة، التي قد تضر أكثر مما تنفع، وبالنسبة للعديد من الأمريكيين، فإن الغرض الوحيد، الواضح للمراكز البحثية، هو توفير "الهراوات" التي يستخدمها السياسيون، لضرب بعضهم، في معارك حزبية، لا نهاية لها.

في القرن الماضي، صُمِّمت مؤسسات الفِكر والرأي، كآلية لجلب المبادئ العلمية والصرامة إلى صُنّاع السياسة، فهي مثل الجامعات، تراكم  المعرفة بمرور الوقت، وتعمل  كمراكز للخبرة، وحاضنات للأفكار الثورية المحتملة، ومن خلال تنوّعها ، تتحدى هذه المؤسسات بعضها، لإحداث عملية تداولية تنافُسية، وحتى عدائية، لكنها لا تزال قائمة على الحقائق، لتطوير أفكار السياسة، التي من خلالها ستظهر الحقيقة، أو على الأقل أفضل الممارسات، نهاية المطاف.

ومثل أصحاب رأس المال الاستثماري الفِكري، يستثمرون في الذين قد يظهرون، نهاية المطاف، لتولي مناصب حكومية مهمة.

كل هذه الوظائف، تستمر بدرجات متفاوتة، لكن كما يبدو، لا أحد يصف الواقع السائد للمؤسسات الفِكرية اليوم.

في الواقع، تطوَّر نموذج عمل مؤسسة الفِكر والرأي، في اتجاهات مقلقة، وبتوسُّع هذه الصناعة، أصبح المجتمع من حولها أكثر استقطاباً، ومع تزايُد حِدة المنافسة على التمويل، أصبح بعض مؤسسات الفِكر والرأي مجموعات مناصرة، أو حتى جماعات ضغط، باسم آخر.

الأحزاب السياسية تريد دعاية مخلصين، لا مضايقات ومراوغة الأكاديميين، ويريد المتبرِّعون المحتملون، من القناصين المخضرمين، إطلاق رصاص سياساتهم على الهدف الصحيح، في اللحظة المناسبة.

كشفت سلسلة من التحقيقات، التي أجرتها صحيفة نيويورك تايمز من 2014-2017، انجراف نموذج عمل مراكز الدراسات -بشكل مقلق- نحو بيع التأثير، وبالنسبة للبعض، لم يَعُدْ الهدف توليد أفكار جديدة، ولا توجيه عملية التداول، بل بالأحرى بيع الأفكار، التي تعزِّز مصالح المموِّلين، إنها معاملة مباشرة وليست جديدة.

تفجَّرت أعمال مراكز الضغط في واشنطن، على مدى العقود الثلاثة الماضية، إذ لجأ القطاع الخاص والأثرياء، وحتى الحكومات الأجنبية، إلى سماسرة السلطة في واشنطن، لمساعدتهم في شراء قوة التأثير على القضايا التي تهمهم.

ويُعَدُّ المموّلون ضروريين، لبقاء المؤسسات الفِكرية ونجاحها، لكن يمكنهم بسهولة، أخذ أموالهم إلى مكان آخر، لذا تتعرَّض المؤسسات الفِكرية لضغوط حقيقية، لمنحها ما تريد، حتى أن بعض الممولين، استغنى عن الوسيط، إذا جاز التعبير، أنشأوا مراكز أبحاث خاصة بهم لهذا الغرض.

إذا كانت مطاردة التمويل هي المشكلة، فإن الثقافة السياسية الحزبية القبلية الشديدة لواشنطن، وغرفة الصدى المحيطة بها، هي الطريقة.

في غابة انتشار وسائل الإعلام الجديدة ووسائل التواصُل الاجتماعي والمعلومات المضلِّلة الصريحة، تتصارع مؤسسات الفِكر والرأي، للسيطرة على الرسالة، التي يجب نشرها على أوسع نطاق، لذا يجتمع خبراء السياسة في فرق، مثل الأحزاب السياسية، حتى أن بعض المجموعات، مثل مؤسسة "هيريتيج" على اليمين ومركز "التقدُّم الأمريكي" على اليسار، أنشأت أذرع ضغط، لتنفيذ أعمال المناصرة للرسائل.

في الواقع، هناك عدد لا يُحصى، من الاستثناءات المُشرِّفة، والجديرة بالثناء لهذه الاتجاهات المخيفة، والكثير  من العمل الرائع، في ورش السياسة، في واشنطن وخارجها.

لكن عندما تنخرط مؤسسات، في الترويج للتأثير والدعوة طوال الوقت، وتقريباً جميع المؤسسات تفعل ذلك، في بعض الأحيان، فإن ذلك يجعل من المستحيل على المواطن العادي، أن يفصل أو يفاضل بين المؤسسات البحثية الصادقة وغير النزيهة، ونتيجة لذلك، يصبح المجتمع السياسي مستنقعاً كبيراً يُلوَّث فيه بائعو النفوذ، حتى أكثر مفكِّري السياسة معرفة واستقلالية.

لهذا السبب، تواجه المؤسسات الفِكرية مشكلة، في صورتها أمام الرأي العام، حيث توصَّل تقرير صادر عن معهد كوينسي للحوكمة، المسؤولة عن حال صناعة المؤسسات البحثية، إلى استنتاجات مماثلة.

ودعا التقرير إلى مجموعة من الإجراءات، لتخفيف تضارُب المصالح الواضح، وزيادة الشفافية، في مراكز الفِكر.

وزعم التقرير، أن فوائد المزيد من الشفافية في التمويل، ستفوق أي ضرر قصير المدى بالسُمعة، وفي حال التمويل الأجنبي، نصحت مؤسسات الفِكر والرأي بالتسجيل كـ "وكلاء أجانب" كما يقتضي القانون.

وقال أيضاً، إن المؤسسات البحثية يمكنها فِعل المزيد، لتوقُّع تضارُب المصالح الواضح، في ما يتعلق بالتمويل أو المشاريع أو الأفراد، والكشف عنها، للمساعدة في تبديد أي مخالفة.

هذه كلها أفكار جيدة، ستساعد إلى حد ما، لكن مشكلات مؤسسات الفِكر والرأي، مع المؤسسات الحزبية، واستغلال النفوذ، عميقة.

البعد الآخر هو ببساطة، انتشار عدد أكبر من مؤسسات الفِكر والرأي والمنظمات ذات الصلة، في العقود الأخيرة، وكلما زاد عددها، زاد تنافسها على دولارات المانحين، الأمر الذي ينقل بدوره ميزان القوى، من الخبراء العاملين في مراكز الأبحاث، إلى المانحين الذين يدفعون أموالهم.

مع زيادة الاستقطاب السياسي، يطلب المانحون أدلة على الولاء لهم، من أجل الاستمرار في التمويل، ناهيك عن التنافس والازدهار، إذ تتعرَّض مؤسسات الفِكر والرأي، إلى ضغوط حقيقية، لوضع المصالح الحزبية والمانحين في المقام الأول، ولن يتعامل أي قدر من الشفافية مع هذه المشكلة المالية الأساسية.

تشير إحدى نظريات عِلم الاقتصاد البديهية، إلى أنه إذا  كان أحد أطراف العلاقة (هنا نقصد  المُتبرِّع والخبير)  يتمتَّع بكل القوة ، فإن العرض والطلب سيكونان خارج نطاق السيطرة.

وإذا كان هناك عدد أقل من مؤسسات الفِكر والرأي، فقد يكون المانحون أقل قدرة، على فرض وِجهات نظرهم الحزبية، أو المصالح الخاصة، على الخبراء.

لا يوجد حل واضح، لكن حان الوقت لمؤسسات الفِكر والرأي، لبناء  السُّمعة والمصداقية، ربما التفكير بجدية في أن تمنح المؤسسات الفِكرية تصنيفاً لقائمة مؤسسات التفكير ، على غرار "ستاندرد آند بورز" أو "موديز" في الصناعة المالية، أو ربما أقرب إلى تصنيف الجامعات .

والأهمية في تصنيف المؤسسات البحثية، تكمن في تقييم قدرتها، واستعدادها لاتباع ممارسات البحث الجيدة، وتقديم توصيات سياسة مستقلة.

يجب أن يكون شرط الحصول على التصنيفات، على الأقل بالنسبة للمؤسسات، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، متطلبات الإفصاح الصارمة، وتسجيل قانون تسجيل الوكلاء الأجانب، والامتثال لأفضل الممارسات الأخرى للجمعيات الخيرية العامة، المعفاة من الضرائب.

كما لا يُشجع المستثمرون على الاستثمار في السندات منخفضة التصنيف، سيجد المانحون المحتملون، من مؤسسات الفِكر والرأي، أن التصنيفات اختصار مفيد، للابتعاد عن مؤسسات التمويل، التي لا تتبنى أفضل الممارسات.

حتى مع وجود مثل هذا النظام، سيتعيَّن على الحكومة، تطبيق قواعد أكثر صرامة، لحماية المصلحة العامة، من التأثير غير المبرَّر وأنشطة مؤسسات الفِكر والرأي، كما أنها ملزمة بفِعلها مع جماعات الضغط المسجَّلة.

نظراً لأن الإدارات  الجديدة ، تقوم بتعدين مراكز الفِكر المتوافقة أيديولوجياً مع  سياساتها، على سبيل المثال، يجب عليها إخضاع هؤلاء الموظفين إلى مستوى دقيق  من التدقيق، والمتطلبات الأخلاقية.

إذا كان أصحاب مؤسسات الفِكر والرأي، حصلوا على تمويل، من شركة أو حكومة أجنبية، فينبغي ألا يوضعوا في منصب في الحكومة، للتأثير في السياسة المتعلِّقة بهذا المموِّل.

أخيراً، تحتاج الحكومة الأمريكية والمراكز البحثية، إلى إعادة النظر بجدية، في ما هو مناسب، عندما يتعلَّق الأمر بالتمويل الأجنبي.

السؤال الأصعب هو: لماذا وما إذا كان ينبغي السماح للحكومات والشركات الأجنبية بدفع رواتب الأمريكيين المؤثرين، الذين سيشغل بعضهم ربما في يوم من الأيام مناصب حكومية عالية، وقد يروِّجون  لوجهات نظر تم التاثير فيها؟!

لا توجد ديمقراطية أخرى في العالم، تقدِّم مثل هذه الآلية الفاعلة، التي تسمح للأجانب بالتأثير  في قرارات السياسة.

وبطبيعة الحال، فإن التمويل الأجنبي يمتد، من الحكومات الصديقة والحليفة، التي تقدِّم مِنَحاً شفافة تماماً، إلى الأنظمة البغيضة وغير الديمقراطية، وحتى المعادية الصريحة، التي توجِّه الأموال إلى واشنطن، عبر القطاع الخاص.

هذه الاختلافات مهمة، وقد يكون من الصعب للغاية، السيطرة على قاعدة الخط اللامع، بين التمويل الأجنبي الجيد والسيئ.

لكن على الكونغرس على الأقل، أن يفكِّر في منع المؤسسات الأمريكية المعفاة من الضرائب، من قبول التمويل الأجنبي، لأن عملها يهدف إلى التأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

هل هناك فرصة لتبني أي من هذه الأفكار، من مراكز الفِكر أو صُنّاع السياسات؟

ربما، يفضِّل البعض على الأقل، إصلاحات كهذه، لأنهم سيجدون فرصة في نظام تصنيف وتنظيم، الضوابط الموجودة لديهم بالفِعل، من خلال إشراف مجلس الإدارة وعمليات التدقيق المنتظمة.

سيساعد نظام التصنيف، مراكز الأبحاث هذه، في إثبات نياتها الحسنة، للمموِّلين والحكومة والجمهور الأوسع، وسيرفض الآخرون الفِكرة، وقد يستمرون، إما بالانتقال إلى المساحة الرمادية، بين جماعات الضغط الهادفة إلى الربح والأبحاث المعفاة من الضرائب، أو يتعارضون مع القواعد الجديدة، ويعانون عواقب قد تضر بالسُّمعة، وحتى من المحتمل أن تنهار، وتقرِّر قوى السوق والتفضيلات الفردية مصيرها.

_________

بقلم ماثيو روجانسكي وجيريمي شابيرو