لا تنظر من زاوية ضيقة لما يحدث في غزة
لماذا يحدث كل هذا الآن؟ الحروب والمناوشات لا تحدث من فراغ، إنها نتيجة تراكُم الأفعال وردود الأفعال، على مدى سنوات، إن لم تكن عقوداً.

ترجمات-السياق
في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هناك روايتان تتنافسان على الصدارة، إحداهما، تدافع إسرائيل ببساطة فيها عن نفسها، ضد هجوم جديد، والثانية يُعَدُّ قصف إسرائيل لغزة فيها، أحدث مثال على الرغبة في معاقبة الفلسطينيين وإذلالهم.
هاتان الروايتان، غير قابلتين للتوفيق، ما يجعل المناقشة المنطقية تمريناً بلا جدوى، لكن أي حُجَّة مُعقَّدة، يجب أن تتعامل مع الفترة التي تسبق الأزمة الحالية، وتجيب عن سؤال: لماذا تعود الحرب في غزة الآن؟ ولماذا تعود دائماً بإصرار عنيد ومتكرِّر؟
رغم تحرُّك الحزب الديمقراطي ببطء، نحو الجناح اليساري، في قضايا السياسة الداخلية والخارجية، فإن إدارة بايدن تراجعت عن الصيغ المعتادة لتصريحاتها، وقدَّمت تلاوات آلية لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، إذ قال الرئيس جو بايدن، إنه لم يرَ أي "رد فعل مبالَغ فيه" من إسرائيل، بينما فشل في ذكر كلمة واحدة عن مقتل الفلسطينيين.
وبذلك، منح إسرائيل ما يرقى إلى الضوء الأخضر، لتكثيف حملة القصف.
البيت الأبيض حرص على تسليط الضوء على "دعم بايدن الثابت" لإسرائيل، الأمر الذي يثير التساؤل عمّا قد يمكن أن يتسبَّب في أي تراجُع لدعم أمريكا للحكومة الإسرائيلية، ولو بشكل طفيف.
يستحق هذا السؤال طرحه عاجلاً أم آجلاً، حيث قُتل الآن أكثر من 120 فلسطينيًا، ربعهم من الأطفال، كل ذلك في غضون أيام قليلة، وفقًا لمسؤولين فلسطينيين.
يميل مؤيدو الوضع الراهن، إلى التركيز على حقيقة، أن حماس بدأت إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وهم يجادلون بأنه ليس أمام إسرائيل خيار سوى الرد، كما تفعل أي دولة أخرى.
حتى أن البعض يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي تاريخياً، لا مثيل لجهوده في تجنيب المدنيين الخسائر، ومع ذلك، فإن هذا الخط من الحجج، لا يميل إلى تقديم الكثير من التفاصيل، عن كيفية حدوث هذا الحريق الهائل الأخير.
لماذا يحدث كل هذا الآن؟ الحروب والمناوشات لا تحدث من فراغ، إنها نتيجة تراكُم الأفعال وردود الأفعال، على مدى سنوات، إن لم تكن عقوداً.
يُتهم من يبرِّر أعمال حماس، أو يدعمها غالباً، لكن لا بد من ملاحظة أمرين في وقت واحد، الأول أن حماس مصنَّفة منظمة إرهابية، من الولايات المتحدة، هذا ليس موضع شك، وعلى حد عِلمي لا توجد حركة شعبية كبيرة لإلغاء هذا التصنيف، فصواريخ حماس عشوائية، ومصمَّمة لإرهاب المدنيين الإسرائيليين، وقد تضرب المدارس أو المستشفيات، وقد لا تفعل ذلك، وهذا النقص في المعرفة هو ما يجعلها "فعالة"، رغم عدم دقتها، وهذه جرائم حرب، كما وثقتها "هيومن رايتس ووتش"، أما الثاني فمن الممكن أيضاً إدراك أن الصراع الحالي في غزة، لم يظهر من دون سابق إنذار، ونتاج الصدفة العشوائية.
إذا أردنا منع حدوث أعمال عنف أو نشاط إرهابي في المستقبل، علينا أن نفهم، ما الذي يحفز العنف أو النشاط الإرهابي؟
إذا أردنا منع حدوث أعمال عنف أو نشاط إرهابي في المستقبل، علينا أن نفهم ما الذي يحفِّز العنف أو النشاط الإرهابي. هذه ملاحظة مباشرة ، وإن كانت مشحونة. بعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر ، اتهمت محاولات فهم ماحدث بأنها دفاعات عن الإرهاب. ومع ذلك، ذهب الباحثون والمحلِّلون في مجال التطرُّف العنيف، إلى بحث العوامل السياقية، التي تجعل اللجوء إلى العنف أكثر أو أقل ترجيحًا من الاعتماد على تفسيرات عقائدية... الهدف هو فهم ما هية الأمور، ومن الناحية المثالية، محاولة معالجتها.
ضع في اعتبارك أنه حتى إدارة جورج دبليو بوش، قدَّمت حُجة معقَّدة إلى حد ما، وأصيلة إلى حد ما، لـ "الأسباب الجذرية" لهجمات 11 سبتمبر.
جادل الرئيس بوش وكبار مساعديه، بأن المواطنين أكثر عرضة للجوء إلى العنف، عندما يفتقرون إلى الوسائل السلمية والبناءة للتعبير عن مظالمهم.
وعليه، لم يحدث الحادي عشر من سبتمبر، لأن العرب احتقروا حريتنا، بل لأن البيئة السياسية الخانقة في الشرق الأوسط، ولَّدت الغضب والإحباط والكراهية، نهاية المطاف.
كان تعزيز الإصلاح الديمقراطي والحقوق السياسية الأساسية، جزءاً من الحل طويل الأمد.
وفي وقت لاحق، عندما برز تنظيم الدولة عام 2013، ظهرت مؤلفات عن الأسباب والمظالم، التي أدت إلى صعود التنظيم.
وعندما قتل شخص متعصِّب للبيض 50 مسلماً في كرايستشيرش بنيوزيلندا، في مارس 2019، جادلتُ لصالح تقييم الحجج والدوافع، في بيانه المكوَّن من 74 صفحة، ليس لإضفاء الشرعية على تلك الآراء، كما يخشى البعض، لكن لفهم دوافع التطرُّف.
في الوضع الحالي في غزة، ليس الهدف إجراء تقييم دقيق لـ "مظالم" حماس، فسلوك المجموعة ليس غامضاً.
يرى قادة حماس الغضب ضد البناء الإسرائيلي، بين الفلسطينيين العاديين، ويرون فرصة لاستخدامه كسلاح، يرسلون الصواريخ عبر الحدود ويدعون إلى التدمير، لأنهم يرغبون في إبراز أهميتهم، وحشد الدعم المحلي، بعد سنوات من تضاؤل الشعبية.
حماس ليست حِفنة من فاقِدي العقل، إنما يتصرَّف قادتها بأنانية، وحُب الذات، ومتعجرفون تجاه حياة الفلسطينيين، يتصرَّفون وفقًا لنموذج الممثِّل العقلاني التقليدي، سواء أحببنا ذلك أم لا، فهم يعتقدون أنهم سيستفيدون من الأزمة، وقد يجدون أنفسهم في الواقع، في وضع أقوى، عندما ينتهي هذا الأمر.
هذه خطوة واحدة في التحليل، لكنها ما زالت لا تخبرنا بسبب تصاعُد الغضب الفلسطيني، في المقام الأول.
يميل الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، إلى تأكيد "المصدر" الأصلي للعنف الحالي، هذا المصدر ليس سِراً أيضاً.
إذ قالت صحيفة نيويورك تايمز: "بدأت الاضطرابات، عندما شنَّت الشرطة مداهمة عنيفة للمسجد الأقصى بالقدس، ما أثار ردود فعل فورية".
ومع ذلك ، بينما كانت مداهمة الشرطة تتكثَّف بالفِعل، خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان، في مثل هذا الموقع الحساس، لم أجد سوى الحد الأدنى من التغطية في المنافذ الرئيسة.
وبدلاً من ذلك، اعتمدت على حسابات التواصُل الاجتماعي عبر "تويتر" و"إنستغرام" و"فيس بوك" التي كانت تغطي الغارة وتداعياتها في الوقت الفِعلي، رغم فرض الرقابة على "المحتوى الحسّاس".
المأساة، على مآسٍ أخرى، هي أن العالم يبدو وكأنه ينتبه للفلسطينيين فقط، عندما يستخدمون العنف.
في الواقع، كانت التوترات تتصاعد منذ أشهر، مع التهديد بإجلاء العائلات الفلسطينية، من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، ونمت الاحتجاجات الأصغر في المنطقة.
لكن حتى هذه التفاصيل، لا تعبِّـر عن السياق الأوسع، ما المهم في الشيخ جراح؟ ولماذا تواجه العائلات الفلسطينية الإخلاء، في المقام الأول؟
كما ذكرت شبكة إن بي سي نيوز، أن "توسيع المستوطنات اليهودية في الشيخ جراح، يساعد في تشكيل الحلقة الأخيرة في دائرة الاستيطان المحيطة بالقدس الشرقية، وهي منطقة يأمل الفلسطينيون أن تكون عاصمة لدولة مستقبلية".
هذا الطموح مهم، ولكن على ما يبدو ليس كثيراً بالنسبة لأولئك، الذين يرون أن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، القضية الوحيدة البارزة حقاً. وفي غياب الضغط الدولي، يملك اللاعب الأكثر قوة، حوافز قليلة، لتقديم تنازُلات جوهرية للطرف الأضعف.
تتصرَّف إدارة بايدن، وكأن سنوات عدة ماضية (أو عقود) لم تحدث، إنها تكرر أخطاء سابقاتها نفسها، بينما تأمل أن يؤدي وقف إطلاق النار، إلى إنهاء الأعمال العدائية، والعودة إلى الهدوء.
ولكن إلى أن تُعالَج المظالم الأساسية، لن يستقر الوضع، سيثبت عدم ارتياحه، ربما هذا مناسب، رغم أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك.
____
مترجم عن "ذا اتلانتيك"