الجُرم النووي الفرنسي في الجزائر... 6 عقود من العذاب ولم ينته

بعد مرور نحو 6 عقود، اجتاحت أوائل فبراير 2021، رياح قوية الرمال الصحراوية، من جنوب الجزائر إلى البحر المتوسط، ثم بعد ذلك بقليل، وصلت هذه العاصفة الرملية إلى أجزاء من أوروبا، حيث فرضت سماء برتقالية مخيفة، ما استدعى البحث عن حقيقتها.

الجُرم النووي الفرنسي في الجزائر... 6 عقود من العذاب ولم ينته

ترجمات - السياق

أجرت مجموعة الأبحاث الدولية، بحثًا ميدانيًا، مؤخرًا، لكشف مدى خطورة بقايا التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر، وذلك بعد ستة عقود، من إجراء فرنسا -القوة الاستعمارية آنذاك- أول تجربة نووية لها في الصحراء الجزائرية، إذ لا تزال المنطقة تعاني آثار تلك التجربة، التي لم تُوثق بشكل كاف، وتجعل الجرح غير مندمل.

ففي 13 فبراير 1960، فجَّر الجيش الفرنسي قنبلة تزن 70 كيلو طناً في الجو، وهو ما يعادل أربعة أضعاف قنبلة هيروشيما، في عملية سُميت حينها "اليربوع الأزرق" بمنطقة "رقان" الصحراوية جنوبي الجزائر، تبعتها بعد ذلك ثلاث تجارب أخرى، في سماء الصحراء الجزائرية خلال العام نفسه، رغم أن المنطقة لم تكن فارغة من السكان، إذ أصيب أكثر من 40 ألف نسمة بالإشعاع، بين عامي 1960 و1966.

والآن وبعد مرور نحو 6 عقود، اجتاحت أوائل فبراير 2021، رياح قوية الرمال الصحراوية، من جنوب الجزائر إلى البحر المتوسط، ثم بعد ذلك بقليل، وصلت هذه العاصفة الرملية إلى أجزاء من أوروبا، حيث فرضت سماء برتقالية مخيفة، ما استدعى البحث عن حقيقتها.

ما ثبت -حسب البحث الميداني لمجموعة الأزمات الدولية- أن الأوروبيين شككوا في أن هذه الرمال، قد تكون حاملة لتركيبات غير طبيعية تضر بالبيئة، وهو ما كشفته تقارير وسائل الإعلام، من أن الرمال تحمل مستويات عالية من الإشعاع.

وحملت الرياح رمالاً ملوثة من الصحراء الجزائرية، حيث أجرت فرنسا تجارب نووية أثناء الاستعمار وبعده، وأدت إلى تفاقم الجدل الدائر عن المرحلة الاستعمارية، والعلاقات الحالية بين الجزائر وفرنسا.

أخذت وسائل الإعلام الجزائرية والفرنسية، تغطية العاصفة الرملية في ضوء الخلاف الدبلوماسي الحالي، بين فرنسا ومستعمرتها السابقة. 

فبعد غزو الجزائر عام 1830، حكمت فرنسا الجزائر أكثر من قرن، ولا يزال جزء كبير من الأرشيف، الذي يغطي تلك الحقبة تحت سيطرة الإليزيه (المقر الرسمي للرئيس الفرنسي).

ولا تزال الجزائر تطالب بتعويضات، إلا أن باريس لم ترد على مثل هذه الأمور، رغم أن الجرح مازال مفتوحًا ولم يندمل.

 

خطوة جريئة ولكن!

خلال زيارة إلى الجزائر العاصمة، في خضم حملته الرئاسية عام 2017، كان إيمانويل ماكرون جريئًا، لا سيما بالنسبة لمرشح رئاسي لم يصل السلطة، لإعلانه التاريخي أن الاستعمار الفرنسي للجزائر كان "جريمة ضد الإنسانية".

ووصف ماكرون الرحلة بأنها "زيارة صداقة وعمل"، كما تحدَّث عن تعذيب الجيش الفرنسي وقتله لنشطاء الاستقلال والمقاتلين، خلال الحرب الجزائرية، مثل موريس أودين.

ووعد الرئيس المستقبلي لفرنسا، بفجر جديد، في علاقات فرنسا مع الجزائر.

في مارس الماضي، بدا أن ماكرون يفي بهذا الوعد، جزئيًا على الأقل، عندما أعلن مزيداً من رفع السرية عن أرشيفات الحرب، التي كانت على مدى عقود، من المطالب العليا للجزائر، ومع ذلك، فشل الإليزيه في رفع السرية عن الملفات المتعلِّقة بالتجارب النووية الفرنسية، في الصحراء الجزائرية. 

جاء القرار بعد وقت قصير من إصدار تقرير، طالب بإصداره ماكرون نفسه، على أمل تحقيق اختراق في الدبلوماسية الفرنسية الجزائرية، من خلال الاعتراف ببعض الفظائع التي ارتكبتها فرنسا إبان فترة الاستعمار. 

وعندما سُئل بنجامين ستورا، الكاتب الفرنسي للتقرير، عن سبب تركيز تقريره على الفترة ما بين 1954 و1962 وليس على فترة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، من 1830 إلى 1962، كان رده: "هذا الكتاب ليس عن الاستعمار".

ورغم أن التقرير عرض قائمة من المقترحات، مثل إنشاء "لجنة الذكريات والحقيقة" وتحويل معسكرات الاعتقال إلى مواقع تذكارية، إلى جانب نحو 30 إجراءً آخر، فقد عارض بشكل صريح تقديم اعتذار رسمي عن الاستعمار.

عملية "اليربوع الأزرق"

في صباح 13 فبراير 1960، فجَّرت فرنسا أول قنبلتها الذرية، المسماة اليربوع الأزرق، في منطقة رقان، جنوبي الجزائر.

ثم فجَّرت القنبلة الثانية، اليربوع بلانش، في 1 أبريل من العام نفسه، وفي اليوم ذاته، كان نيكيتا خروتشوف زعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك، في زيارة رسمية إلى فرنسا.

كانت رسالة الرئيس الفرنسي شارل ديغول واضحة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا، التي أثبتت قدراتها النووية أكثر من عقد من الزمان، حيث أثبتت استعدادها للانضمام إلى الطاولة العليا للقوى العسكرية عالميًا.

عام 1945، بعد أسابيع قليلة من تفجيرات هيروشيما وناغازاكي، أنشأ ديغول، الذي كان لا يزال قائداً في الجيش الفرنسي، لجنة الطاقة الذرية الفرنسية، التي أبقاها سِراً عن البرلمان الفرنسي حتى عام 1958، عندما انتُخب رئيسا. 

أثناء حكم مرحلة ما سميت "الجمهورية الفرنسية الخامسة" عند تولي ديغول منصبه، جعل السعي وراء التطلعات النووية الفرنسية أولوية قصوى، وسلَّمت لجنة الطاقة أول قنبلة ذرية في البلاد، بعد 15 عامًا من إنشائها.

حتى في ظِل المحرقة النووية، وفي خضم الحرب الجزائرية (1954-1962)، ظلت فرنسا مصممة على أن تصبح القوة النووية التالية في العالم.

كانت تلك مفاجأة للسوفييت والأمريكيين والبريطانيين، الذين سبقوا فرنسا إلى المجتمع النووي.

كان ديغول يعتقد أن دولته متخلفة عن القوى العالمية الأخرى، من حيث الطاقة والقدرة العسكرية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن ثم ضاعف اهتمامه بإنشاء أول مختبر نووي على الأراضي الجزائرية، بمنطقة رقان، ما أدى إلى مقتل أكثر من 40.000 من السكان، الذين كانوا يعيشون في إحدى المناطق القريبة.

 

حجم الضحايا

وفقًا للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، تعرَّض أكثر من 24000 شخص كانوا على مقربة من الانفجار الأول لإشعاعاتها، حتى الآن، لكن فرنسا لم تكشف عن الخسائر الحقيقية للتلوث، ولم تكشف عن إحداثيات الموقع لجميع مواقع الاختبار والنفايات النووية، التي نثرت في مناطق مختلفة، أو دفنت على بعد بضعة أقدام تحت الأرض.

على سبيل المثال، لم تزوِّد فرنسا الجزائر بخرائط حقول الألغام، التي زرعتها في جميع أنحاء البلاد خلال الحرب، إلا عام 2007، حتى مع مقتل أو إصابة عدد من المدنيين الجزائريين، بمن فيهم الأطفال، بجروح خطيرة إثر انفجار ألغام.

تم إجراء التجارب النووية -التي لم يتم تأكيد عددها- بإهمال شديد لدرجة أن النشطاء أطلقوا عليها "المتدربين السحرة" وكان العديد منهم غير مدربين، وفي لحظة التفجير لم يرتدوا حتى ملابس واقية. لا تزال العائلات في فرنسا ترفع قضاياها إلى المحكمة، وتطالب بتعويض الأسر التي وقعت ضحية سعي فرنسا المحموم للحصول على الطاقة النووية. حتى أن العديد من هؤلاء حُرموا من الحصول على سجلاتهم الطبية، التي تحتوي على تفاصيل عن تلوثهم إشعاعيًا، التي اعتبرتها فرنسا مضرّة للغاية، بحيث يتعذَّر نشرها على الملأ.

الاختبارات الأخرى، في منطقة عكر وأماكن أخرى جنوبي الجزائر، لم تكن أفضل، وألحقت أضراراً فادحةبالسكان، الذين كانوا في الغالب عُمّالًا أو يعملون في الحقول.

وفقًا لروايات أفراد من مراكز التجارب، استخدم الجيش الفرنسي في رقان السكان المحليين، بالقرب من نقطة الصفر، للتفجير النووي، كخنازير تجارب من خلال توزيع مقاييس الجرعات، بحجة أن هذه الأدوات ساعدت في تطهيرها، بينما تمت دعوة آخرين للوقوف في طابور أمام "خزانات التطهير" التي تم استخدامها أيضًا لمسح مستويات تعرُّض السكان المحليين للإشعاع.

على مر السنين، أظهرت الدراسات أن السكان، الذين يعيشون بالقرب من مواقع الاختبار، لا يزالون يعانون آثار ما بعد تلك التجارب، مثل العيوب الخلقية والأمراض الخطيرة، التي تنتقل عبر الأجيال، إضافة إلى العديد من السرطانات، علاوة على ذلك، لم تقتصر تلك الآثار اللاحقة على الناس، بل امتدت إلى المياه، التي يعتمد عليها البدو أثناء عبور الصحراء، وكذلك تأثَّرت الماشية والحياة البرية بالإشعاع.

 

مأساة حقيقية

لم تقتصر التأثيرات الإشعاعية على الصحراء الجزائرية ولا الجزائر ككل، بل بلغت حد المأساة الحقيقية.

ففي عام 2014، نشرت صحيفة Le Parisien الفرنسية وثائق تكشف أن مساحات أكبر بكثير مما ادعى الإليزيه أنها تعرَّضت لتأثيرات إشعاعية، في الصحراء الجزائرية والمحيط الهادئ، حيث أجرت فرنسا عددًا أكبر من التجارب النووية.

على سبيل المثال، غطى الإشعاع من اليربوع الأزرق وحده، منطقة تمتد من الجزائر إلى ليبيا وموريتانيا في الشمال، وكذلك مالي ونيجيريا في الجنوب، حتى أن أجزاء من إسبانيا وإيطاليا سجَّلت مستويات عالية من الإشعاع بعد نحو أسبوعين من الاختبار الأول.

رسمياً، أجرت فرنسا 17 تجربة نووية في الجزائر، كان آخرها 16 فبراير 1966، أي بعد أربع سنوات تقريبًا من حصول الجزائر على استقلالها في 5 يوليو 1962، حسب اتفاقيات إيفيان الموقَّعة عام 1962 من الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الجزائرية وجبهة التحرير الوطني وفرنسا، لكن في وقت لاحق، ظهرت أدلة على أن التجارب النووية والكيميائية الحيوية، كانت تجري في الجزائر حتى عام 1978، بموجب اتفاقية سرية أخرى، بين ديغول والرئيس الجزائري هواري بومدين، الذي تولى السلطة عام 1965.

 

فضائح فرنسية

عام 1997، صدمت المجلة الفرنسية Le Nouvel Observateur الجمهور عندما نشرت تحقيقًا فضح زيف المزاعم الرسمية الفرنسية (والجزائرية) بأن التجارب النووية انتهت عام 1966، كما تم الاتفاق عليه في البداية. 

وقدَّرت المجلة أن جميع مراكز التجارب الأربعة في: (رقان، وعكر، وكولومب-بيتشارد، وحماغير) استمرت حتى عام 1978، وهو العام نفسه الذي توفي فيه بومدين في ظروف غامضة، وذلك يعني أن الجيش الفرنسي أجرى أكثر من 17 تجربة نووية تم الكشف عنها جنوبي الجزائر.

وهكذا كشف التحقيق الذي نشرته Le Nouvel Observateur عن كذبتين حكوميتين في آنٍ واحد: أن اتفاقيات إيفيان سمحت بإجراء المزيد من التجارب النووية السريرية (بشرط إجراء هذه الاختبارات في محطات تحت الأرض) وأن بومدين، الذي كان متحمسًا علنًا في نفوره من فرنسا منح الجيش الفرنسي، في سرية تامة، حريات واسعة في الصحراء الجزائرية.

خلال الستينيات من القرن الماضي، كانت البحرية الفرنسية لا تزال تسيطر على قاعدة المرسى الكبير البحرية في وهران (غربي الجزائر)، وكان بومدين، الذي كان حذرًا بشأن مكانته العامة، على الأقل بعد توليه مقاليد البلاد إثر انقلاب عسكري، منزعجًا من الوجود الفرنسي هناك. في الواقع، منحت اتفاقيات إيفيان سِرًا لفرنسا سلطة على قاعدة المرسى الكبير، إحدى أهم القواعد البحرية في البحر المتوسط، حتى عام 1977. وقبل أن يغادر الجيش الفرنسي القاعدة حصل على تمديد جديد، وبذلك استمر في عمليات التجريب النووية في الصحراء.

النقطة الثانية، كما هو الحال مع رشيد بنيل، وهو جنرال جزائري متقاعد رأس المرسى الكبير سنوات بعد إخلائه، التي تم الكشف عنها لاحقًا في مذكراته ("Dans les arcanes du pouvoir")، هي أن تلك التجارب -بما في ذلك التجارب الكيميائية الحيوية والبكتريولوجية - لم يتم وقف العمل بها حتى منتصف الثمانينيات، أي ما يقرب من عقد من الزمان بعد وفاة بومدين، بل إن الادعاء بإيقافها عام 1978 كان مرتبطاً فقط بوفاة بومدين.

هذه الروايات تضيف إلى الخلافات المتعددة بين البلدين، تجذرًا للأزمة، ورغم تعهدات ماكرون، فإن إحجام فرنسا عن التصالح مع حكمها الاستعماري، في الدولة الواقعة شمال إفريقيا، مازال مستمرًا.

 

تراث استعماري

بينما كلَّف ماكرون، ستورا بتتبع تاريخ هذه الفترة، رشَّح نظيره الجزائري الرئيس عبدالمجيد تبون، مستشاره عبدالمجيد الشيخي، لمتابعة فترة الاستعمار الفرنسي.

كان على المؤرخين أن يتعاونوا على "التوفيق بين الأحداث المتباينة"، لكن حتى لقاؤهم أدى إلى تصادم مفاجئ، بينما كان يُنظر إلى تقرير ستورا على أنه متسامح للغاية مع الاستعمار، أثبت مسعى الشيخي أنه غير مكتمل، وعلَّق الشيخي على ذلك قائلا: "كيف يمكننا العمل على تاريخنا، إذا كان معظمه لا يزال مغلقًا في فرنسا؟".

مقارنة بأسلافه، قطع ماكرون وحكومته خطوات أكبر نحو المصالحة حتى الآن، ومن ذلك: الكشف عن التعذيب، ووصف الاستعمار بما هو عليه بالفِعل، وإعادة القطع الأثرية التاريخية التابعة للجزائر.

ومؤخراً، أصدر أمر برفع السرية عن أجزاء من المحفوظات السرية، لكن مع ذلك، لم تقدِّم فرنسا تعويضات ولا حتى اعتذارًا رسميًا.. إذ يبدو كما لو أن فرنسا تفضِّل نسيان تلك الفترة.

خلال زيارة ماكرون للجزائر عام 2017، واجهه أحد المارة الجزائريين، الذي صرخ وسط الحشد: "على فرنسا أن تتصالح مع ماضيها الاستعماري في الجزائر". أجاب ماكرون: "لكنك لم تعرف الاستعمار قط، لماذا تزعجني بذلك؟".

في ساحل العاج وبوركينا فاسو، واجه ماكرون أسئلة مماثلة وأجاب بالمثل، معترضًا على أن هؤلاء الناس لم يعيشوا تحت الاستعمار. وبعيدًا عن إظهار التعاطف، يكشف رد فعل ماكرون الكثير بشأن فشل فرنسا في حساب مدى ما تركه تراثها الاستعماري الأليم.