شبح نصر الله يطارد لبنان
المفاجآت التي وعدناكم بها ستبدأ الآن، وذلك بعد يومين من اشتعال حرب يوليو 2006، بين مليشيا حزب الله وإسرائيل. وبعد ذلك، وصل الصوت إلى أسماعنا جميعًا: صوت انفجار هزَّ أرجاء شقة والدي في بيروت.

ترجمات – السياق
في خضم المشاحنات السياسية، التي اشتعلت في أعقاب اغتيال الملياردير السُّني اللبناني رفيق الحريري، ألقى زعيم مليشيا "حزب الله"، حسن نصرالله، خطابًا. كان ذلك منذ 16 عامًا، ورغم تشوش الذكرى في ذهني، فإني ما زلت أذكر وجه الرجل المعمَّم وهو يبتسم أمام الكاميرا ويقول: "هل أقول لكم مزحة؟".
اليوم، لا يسعني تذكر المزحة التي قالها، لكن أتذكر جيدًا أنني عندما توجَّهت إلى المدرسة اليوم التالي، شعرنا نحن الشيعة، بأننا نتشارك في سِر في ما بيننا، فقد استمع آباؤنا وأمهاتنا إلى خطاب نصرالله، وأدركوا مغزى المزحة. في المقابل، غاب هذا المغزى عن أغلبية أصدقائنا.
ولم تنج مدرستي الخاصة في بيروت، ذات الطراز الغربي، من الانقسامات الطائفية التي مزَّقت أوصال البلاد عام 2005. وقبل كل امتحان رياضيات خضته ذلك العام تقريبًا، كان يقع تفجير سيارة مفخخة، وألقي باللوم على نصرالله عنها جميعًا، وإلى حد ما، ألقى علينا نحن الشيعة اللوم كذلك.
وباعتبارنا أقلية، كنا نتعرَّض لمضايقات، لكن المزحة التي سخر نصرالله خلالها من خصمه، أمدتنا بسلاح كان باستطاعتنا استخدامه في وجه مَنْ يتحرَّشون بنا. ومنذ ذلك الحين، بدا وكأن حياتي أصبحت تحت سيطرة الخطابات التي يلقيها نصرالله، خصوصًا أن هذا الرجل كان الحاكم الفِعلي للبنان.
من جهته، كان زعيم مليشيا "حزب الله" بارعًا في إقامة الاحتفالات وإلقاء الخطب. والواضح أن قائد أقوى جماعة مسلحة، غير تابعة لدولة معينة على مستوى العالم، يملك حسًّا مسرحيًّا قويًّا يجعله قادرًا على التأثير في الجو العام، على نحو أشبه بالسِّحر.
وفي أحد الأيام، خرج ليعلن: "المفاجآت التي وعدناكم بها ستبدأ الآن"، وذلك بعد يومين من اشتعال حرب يوليو 2006، بين مليشيا "حزب الله" و"إسرائيل". وبعد ذلك، وصل الصوت إلى أسماعنا جميعًا: صوت انفجار هزَّ أرجاء شقة والدي في بيروت.
وخرج صوت نصرالله عبر شاشات التلفزيون ليقول: "انظروا إليها تحترق"، وكان الانفجار نتيجة هجوم شنته مليشيا "حزب الله" ضد بارجة إسرائيلية، كانت تقف خارج سواحل بيروت. وكان نصرالله قد أصدر أوامره بتنفيذ الهجوم، في بث حي عبر التلفزيون، وهو تصرُّف لم يكن ليتخيله أحد من مليشيا، كان يجري النظر إليها قبل ذلك، باعتبارها مجرَّد مجموعة من المزارعين الذين يحملون أسلحة.
وبصوت هادئ ومحترف، أعلن نصرالله أن "هذه البداية، وقبل النهاية، سيكون لنا حديث طويل".
وعلى امتداد المواجهات، التي استمرت شهرًا، هلل الكثيرون في أرجاء العالم العربي بنصرالله ومليشياته، لما أنزلوه بالإسرائيليين من هزيمة. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، دعا نصرالله "أبناء شعبنا" للعودة إلى ديارهم وقدَّم تعويضات للكثيرين منهم، عن الأضرار التي لحقت بمنازلهم وممتلكاتهم.
إلا أن أبطالنا في العالم العربي، لا يبقون أبطالًا في أعيننا إلى الأبد... ونصرالله ليس باستثناء.
ولم يسقط "نصرالله" عن عرش البطولة دفعة واحدة، وإنما ظل يتعثَّـر ويتخبَّط في طريقه نحو السقوط على امتداد أكثر عن عقد، وبعد ذلك اصطدم بالأرض بقوة. عام 2008، شنَّت مليشيا "حزب الله" وحلفاؤها حملة هجوم للسيطرة على بيروت، وبدا الأمر برمته غريبًا.
جاء الهجوم والاحتلال الذي أعقبه، ردًا على قرار الحكومة بإخضاع شبكة الاتصالات عن بُعد الخاصة بمليشيا "حزب الله" لسيطرتها. وادَّعت المليشيا، أن هذا القرار يشكِّل عدوانًا عليها وهدَّدت بقطع يد كل من يجرؤ على المساس بشبكة اتصالاتها. وبعد قتال مرير بالأسلحة، سيطر "حزب الله" على المقر الرئيسي لحزب منافس.
وبمرور الوقت، اتضح أنه حتى أنصار مليشيا "حزب الله" وقفوا عاجزين عن تبرير أعمال القتل الدائرة في الشوارع. وشعر هؤلاء بصدمة بالغة، لاعتقادهم بأن هذه الأسلحة كان الهدف من ورائها مواجهة المعتدي، وليس استخدامها في الداخل.
بيد أنه اتضح لي لاحقًا، أن العدسة التي نظرت من خلالها للأمر، كانت رديئة. لقد غزت مليشيا شيعية منطقة تخضع لنفوذ "حركة المستقبل"، وهو حزب سُني داخل مدينة "سُنية"، سعيًا إلى فرض إرادتها على الدولة. ولاحقًا، جرى استخراج جثتين من مدخل مقر الحركة، بين 110 قتلى أسفرت عنهم أعمال القتال.
ورغم أن هذا الصراع بدا بسيطاً، مقارنة بالصراعات الأخرى التي تورَّطت فيها مليشيا "حزب الله" ودفعت به إلى مستنقع الطائفية، فإنه اتسم بأهمية فريدة في نظري، ذلك أنه كان البوابة التي قادتني إلى الحقيقة القاسية أن "حزب الله" لا يضم الأخيار، حتى وإن كانوا من أبناء جلدتنا، وكان عمري وقت مواجهتي هذه الحقيقة 17 عامًا.
بعد نهاية الصراع، أعلن مليشيا حزب الله وحلفاؤها النصر. أما القوى الإقليمية، كعادتها، فاحتشدت معًا لطرح حل لأزمة لبنان. ومن هنا، خرج اتفاق الدوحة عام 2008 إلى الوجود.
ونعمت لبنان بالسلام بعض الوقت، بل وقال البعض إنها ازدهرت بين عامي 2008 و2011.
بعد ذلك، اجتاحت انتفاضات شعبية أرجاء العالم العربي، وذلك لرغبة الشباب الساخط في العدالة والديمقراطية. وخرج الشباب إلى الشوارع ليطالبوا بهما. وهنا، تداخلت مصالح إقليمية ودولية، وتحوَّلت ثورات إلى حروب أهلية.
من جانبه، أجَّج "حزب الله" حمام الدماء الطائفي الإقليمي، عندما أرسل مقاتليه لدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وبرَّر "حزب الله" قراره برغبته في حماية أضرحة مقدَّسة في دمشق ومصالح استراتيجية لها. وحذَّر "حزب الله" من خطر تنظيم "داعش"، لكنه تجاهل دور نظام الأسد، في تمكين مليشيا "حزب الله".
الواضح أن "حزب الله" بنى مصداقيته السياسية على جهوده في مجال المقاومة، واستقى قوته من تاريخه. والآن، سعى "حزب الله" لاستغلال خبرته القتالية داخل ميدان سوري، ما أسفر عن تشريد أكثر من نصف سكان البلاد.
وبدا من الصعب في هذه اللحظ،ة إغفال المقارنات بين "حزب الله" والكيان الذي ادَّعى مقاومته له، خصوصًا مع مشاهدتنا جميعًا لـ"حزب الله" يفعل بالشعب السوري، مع ما فعله الآباء المؤسسون لإسرائيل بالفلسطينيين، أثناء النكبة.
وجاءت الفظائع التي ارتكبها "حزب الله" في سوريا لتشوِّه أي ادعاءات له بالمقاومة، لكننا سألنا أنفسنا ذلك الوقت: ما البديل؟
في ذلك الوقت، هيمن تنظيما "داعش" و"جبهة النصرة" (كانت تابعة آنذاك لتنظيم "القاعدة"، والمعروفة اليوم باسم "هيئة تحرير الشام") على ميدان القتال.
من جانبه، عمد "نصرالله" وحلفاؤه إلى تأجيج هذه المخاوف، وروَّج للفكرة التي طرحها النظام السوري، والتي تضع جميع فصائل المعارضة و"القاعدة" و"داعش" في خانة "التكفيريين".
من هنا بدا نصرالله، وكأنه قبة من الحماية، تخرج وتغطي لبنان وتغطينا جميعًا، سواء كان ذلك يروق لنا أم لا. في بعض الأحيان، شملت هذه القبة الحمائية حتى خصومه السياسيين.
في 17 أكتوبر 2019، كان لبنان على موعد مع حواجز على الطرق وإطارات سيارات محترقة، تُعَدُّ السلاح المفضل لدى ضعفاء لبنان. وبدأت بعض هذه القلاقل في أحياء تقع تحت سيطرة "حزب الله"، وسرعان ما انتشرت نيران الغضب إلى البلد كله. وحتى "حزب الله" لم ينج من غضب الجماهير.
بدأت القلاقل كردود فعل لضرائب مقترحة على الاتصالات التي تجري من خلال تطبيق واتس آب الشهير، لكنها فتحت الطريق أمام غضب متراكم على مدى عقود، إزاء مَنْ يحكمون لبنان، الذين ينتمي بعضهم إلى عائلات تهيمن على البلاد منذ مئات السنين. وأطلق النشطاء على انتفاضتهم، ثورة، وسعوا إلى إسقاط هؤلاء الحُكام.
كنت حينها في الـ28 من عمري، وأشعر بأن الأيام الثمانية الأولى من هذه المظاهرات، كانت أجمل أيام عمري حتى الآن. كان الأمر كحلم يتحقَّق أمام عيني. من قلب بيروت القاحلة ظهر مجتمع مترابط، وكنا نأكل ونتعلم ونغني معًا. وكنا نبيت في الخيام معًا، وتعرَّضنا لإطلاق الغازات المسيلة للدموع من الشرطة. ومنذ أن ولدنا، سمعنا كثيرًا عن الأشياء التي تفرِّقنا، ومع ذلك وقفنا معًا وعرفنا الأشياء التي تجمعنا، وغمرتنا السعادة لذلك.
وخرج نصرالله وبدا أنه يبارك الحشود، فقد أقر بعفوية تحرك المتظاهرين وصدقهم.
أما ترسانة "حزب الله"، فكانت مناقشة مؤجلة إلى يوم آخر، وكان الجميع مدركين، لأن هذه مناقشة أكبر من لبنان نفسه. في ذلك الوقت، ظهرت تقارير تفيد بأن "حزب الله" يدرس الانحياز إلى المتظاهرين، نظرًا لالتقاء الكثير من مطالب المتظاهرين بمطالب الجماعة.
وفجأة في 25 أكتوبر، أفسد "حزب الله" كل شيء أمام نفسه والجميع، وذلك عندما هاجم أنصار للجماعة النشطاء في قلب بيروت، لضمهم نصرالله في الهتافات التي كانوا يردِّدونها ضد قادة لبنان. وكان من الهتافات: "كلهم يعني كلهم، ونصرالله واحد منهم"، وكانت هذه رسالة من المتظاهرين لنصرالله، بأنه هو الآخر متورِّط في نهب البلاد وإفقارها.
في نهاية الأمر، خرج نصرالله عبر شاشات التلفزيون، ليمارس حيله السحرية ويوجِّه أنصاره للرحيل من المشهد، مذكرًا إياهم أن طريق العنف متاح، إذا ما قرر أن يسلكه.
وشرح نصرالله كيف أن المظاهرات بدأت في مسار سليم، ثم بدأت الآن تنحرف عنه، ويجري استغلالها من جانب "عناصر مريبة" و"عملاء أجانب". وقال وهو يلوِّح بإصبعه في الهواء: "أنا لا أهدِّد أحدًا. ولو كان هناك شخص خائف، فليخف".
كان نصرالله غاضبًا من كمية السباب والشتائم التي أطلقها المتظاهرون بحق حلفائه والنُّخبة الحاكمة. والواضح أن النخبة كانت غاضبة، وجاء نصرالله ليقدِّم وجهًا معبِّــرًا عن هذا الغضب. وبعد أن كانت خطابات نصرالله مصدر أمل لنا منذ أمد بعيد، الآن أصبحت تقتل أحلامنا.
لقد قتل نصرالله وحدة صفوفنا، بالدق على الطبول الطائفية، وصوَّر المظاهرات باعتبارها واحدًا من التحديات الكثيرة التي تهدِّد وجود جماعته. وبدا واضحًا أن روح التضامن الصادق، التي خرجت من رحم مظاهرات بيروت، كانت مستعصية على قدرة النُّخبة على الإدراك.
وجاء حديث نصرالله منفصلًا عن الواقع، ففي الوقت الذي كان يعمد فيه وحلفاؤه إلى تجويع المراكز المدنية في سوريا وقمع انتفاضة هنا، كان الرجل يخرج على الملأ، ليدعي أن قواته هناك لحماية الأضرحة الشيعية المقدَّسة.
وأثناء مظاهرات 2019، وبعد مهاجمة أنصار "حزب الله" المتظاهرين بمختلف أرجاء لبنان، لجأ شباب لبنان لأفضل ما يمكنهم فِعله: السخرية. وظهرت على جدران الشوارع رسوم غرافيتي وعبارات على شاكلة: "فلسطين تقول: مَنْ يقمع بيروت لن يحرِّر فلسطين." وبذلك، تعرَّت آثام نصرالله أمام الجميع.
في يوليو 2020، قال نصرالله بأحد خطاباته: "7/7/2020"، بينما كان يرسم بإصبعه دوائر في الهواء. ولم يكن واضحًا ما إذا كان هذا الإصبع ذاته، الذي استخدمه في تهديد المتظاهرين قبل أشهر. وأشار نصرالله إلى هذا التاريخ، باعتباره بداية ما وصفها بـ"مرحلة جديدة" على الصعيد الاقتصادي للبنان، أشبه بجهاد زراعي واقتصادي.
والآن، فإن الشيخ الذي كانت خطبه الدينية، تلهب حماس الرجال وتدفعهم إلى السير بخُطى ثابتة نحو موت محقَّق أمام عدو أقوى بكثير، يطلب الآن من رجاله توجيه الطاقة ذاتها، نحو العمل مزارعين بمناطق حضرية. وقال: "لو اضطررنا للزراعة في الشرفات وعلى أسطح المنازل، فلنفعل".
ومع ذلك، فإنه مثلما الحال مع "المقاومة الوطنية للفساد" التي أعلنها نصرالله عام 2019، لم تؤتِ الدعوة الجديدة ثمارًا تذكر.
عام 2020، انكمش إجمالي الناتج الداخلي اللبناني بـ 20%، ما يعني أن خُمس الإنتاج الاقتصادي تلاشى في عام واحد. وكان ذلك العام عصيبًا على الجميع، وبجانب جائحة فيروس كورونا، عانى أبناء لبنان أكبر انفجار غير نووي في التاريخ، ليفقدوا معه مدخراتهم ويعاينون قيمة عملتهم تهوي إلى الأرض.
ورغم المصاعب التي ألمت بلبنان، لا يزال أنصار "حزب الله" يعلنون عشقهم الأزلي لنصرالله، عبر اللافتات والعبارات المعتادة. ويجري الترويج لهذا العشق دونما توقُّف، عبر جيش خفي من المقاتلين على شبكات التواصل الاجتماعي، بالتعاون مع كتيبة إضافية من "المؤثِّرين" التابعين لـ"حزب الله".
ومن الهاشتاقات التي روَّج لها هذا الجيش: "لن نموت جوعًا". المفارقة أنه بعد أشهر من العمل الدؤوب، للترويج لمثل هذه الشعارات، أعلن لوغان بول، أحد "المؤثِّرين" عبر شبكات التواصل الاجتماعي، عجزه عن الحصول على لبن أطفال، بعد أن نفدت علب لبن الأطفال كالكثير من السلع والمنتجات الأساسية الأخرى في لبنان. وبعد أن تملَّكه اليأس، خرج على الآلاف من متابعيه، ليطلب منهم علبة لبن أطفال، ليرد عليه البعض "لن نموت جوعًا".
وجاء مقتل الناشط السياسي لقمان سليم، الذي كان من منتقدي "حزب الله"، ليثبت لنا جميعًا أنه لن يتسامح مع أي منتقدين له، خصوصًا لو كانوا من داخل دائرته، ولذلك، قررت أن أكتب هذا المقال باسم مستعار.