قيرغيزستان... كيف تحولت من بلد يحتقرها الروس إلى ملاذهم الأول؟
رغم فقر قيرغيزستان إلا أنها تستقبل الوافدين الروس في أفخم الفنادق وبيوت الشباب

ترجمات – السياق
جوانب خفية وغير معروفة باتت تكشفها الحرب الأوكرانية، ومنها ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بخصوص تحوُّل قيرغيزستان من دولةٍ طالما اعتبرها الروس جارةً فقيرةً، توفِّر لبلدهم عمالة رخيصة، ويعاملونها باحتقار، إلى أن أصبحت ملاذهم الأول والأهم للفرار من التجنيد، وذلك بعد أن أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء الآلاف من القوات الإضافية للقتال في أوكرانيا، حسب تقرير الصحيفة.
وأشارت الصحيفة إلى أنَّ الهجرة الجماعية للروس الأثرياء نسبيًا إلى آسيا الوسطى أدت إلى زيادة الإيجارات وملء بيوت الشباب، ولكن حتى الآن، لا تزال قيرغيزستان ترحب بالزائرين.
حيث انتهى المطاف بعشرات الآلاف من الرجال في أماكن مثل قيرغيزستان، وهي إقليم سوفييتي سابق، والتي عادةً ما تستقبل عددًا قليلاً من اللاجئين، إلا أنها باتت مؤخرًا قِبلة الفارين من التجنيد في روسيا.
"المنفى الاختياري!"
ووصفت نيويورك تايمز، أوضاع الفارين الروس المأساوية في قيرغيزستان، بالقول: "إنهم يسيرون في شوارع العاصمة بيشكيك بلا هدف، وفي حالة ذهول مما وصلوا إليه، بعد نفيهم المتسرع الذي فرضوه على أنفسهم إلى بلد فقير ناءٍ".
ورغم فقر هذا البلد إلا أنَّ الصحيفة الأمريكية، بيَّنت أنها تستقبل الوافدين الروس في أفخم الفنادق وبيوت الشباب.
وأشارت إلى أنَّ أوضاع هؤلاء الفارين تبدَّلت تمامًا، إذ إنَّ كثيرًا منهم ترك وراءه وظيفته- ذات الأجر العالي- وعائلته في موسكو، خشية الانجرار إلى القتال في أوكرانيا، فاتخذوا من دول آسيا الوسطى ملاذًا وملجأ.
ورأت الصحيفة، أنَّ تدفق الفارين الروس إلى قيرغيزستان، حوّل بلدًا طالما احتقروه، كمصدر للعمالة الرخيصة والطرق المتخلفة إلى ملاذ غير محتمل، في رغبة يائسة في الهروب من الوقوع في فخ حرب بوتين في أوكرانيا.
ونقلت الصحيفة عن "دينيس"، وهو أحد منظمي انتقال الروس إلى قيرغيزستان، قوله: "أنظر إلى السماء الصافية كل يوم وابتهج لأنني هنا".
وكان دينيس قد انضمَّ إلى عشرات من زملائه الروس في حانة في بيشكيك للابتهاج بهروبهم من الحرب.
"الثورة البلشفية"
ووصفت الصحيفة هذه التجمعات الاحتفالية في العاصمة القيرغيزية بأنها "مَوْلِد مجتمع روسي جديد"، مشيرة إلى أنَّ هذه التجمعات تمثل جزءًا صغيرًا من هجرة جماعية ضخمة للروس إلى آسيا الوسطى وأرمينيا وجورجيا وتركيا وقائمة متقلصة من الأماكن الأخرى التي لا تزال على استعداد لاستقبالهم فيها، خلال ما أصبح أكثر اندلاع هجرة في بلادهم منذ الثورة البلشفية عام 1917.
وحسب الصحيفة، فقد بدأ التدفق في فبراير الماضي، مع مغادرة مئات الآلاف من الأشخاص بعد غزو روسيا لأوكرانيا، لكنه تسارع منذ 21 سبتمبر الماضي، عندما أعلن بوتين "تعبئة جزئية" ردًا على الهزائم في ساحة المعركة.
وذكرت صحيفة نوفايا غازيتا الروسية المستقلة أنه خلال أيام أربعة فقط، قُدر أن نحو 261 ألف رجل في سن التجنيد قد غادروا البلاد.
وربطت الصحيفة بين فرار الروس، وما سمته "الاندفاع الفوضوي" لملايين النساء والأطفال الأوكرانيين الذين فروا إلى بولندا ودول أوروبية أخرى بعد اندلاع الحرب، لكن مع اختلاف كبير، لأن النساء والأطفال الأوكرانيين فروا من الحرب بسبب ضعفهم، بينما الرجال الروس يفرون من الخدمة في جيش بلادهم.
"يأس وهروب"
ومن ثمّ فإنه بينما تفاخر بوتين -أثناء إعلانه ضم أربع مناطق أوكرانية جديدة أمام الكرملين مؤخرًا- بأن حربه منحت روسيا ملايين المواطنين الجدد الذين تم انتزاعهم من أوكرانيا، فإن الصراع يدفع مواطنيه الحقيقيين إلى اليأس والهروب.
ورغم ذلك -حسب الصحيفة- إلا أنَّ الروس الذين تجمعوا في الحانة في بيشكيك، لا يأخذون إعلان بوتين الأخير- أنه سيضم أربع مناطق من أوكرانيا، وتعهده بأن الأوكرانيين الذين يعيشون هناك سيصبحون من الآن فصاعدًا روسيين إلى الأبد- على محمل الجد.
وفي ذلك، يقول "ألكساندر"، -وهو طالب جامعي يبلغ من العمر 23 عامًا من الشرق الأقصى الروسي-: "عندما بدأ كل شيء، اعتقدنا أنه سيؤثر فقط على الجنود المحترفين وعائلاتهم، ولكن قرار التعبئة أثر علينا جميعًا"، وأضاف أن البقاء في روسيا يعني "إما الذهاب إلى السجن أو الالتحاق بالجيش".
فيما قال مواطن آخر يدعى "يوري"، وهو فنان يبلغ من العمر 36 عامًا من سيبيريا: إنه قبل شروعه في رحلة بالحافلة والقطار لمدة ثلاثة أيام إلى بيشكيك الأسبوع الماضي، كان يدير شركة صغيرة لتصميم أغلفة ألبومات لفرقة موسيقى الميتال الأمريكية والقيام بأعمال فنية لعملاء أجانب آخرين، إلا أنه تبدل حاله الآن وبات ينام في غرفة نزل مكتظة يتشاركها 19 شخصًا آخرين.
ورغم ذلك، إلا أن يوري يؤكد أنه "على الأقل يشعر بالأمان هنا في بيشكيك بعيدًا عن الحرب".
وعكس الأوكرانيين الذين يعانون منذ نحو سبعة أشهر جراء الحرب، لا يشغل بال الروس الفارين إلا معاناتهم من سوء حال السكن، وقلة المال، والعادات غير المألوفة في قيرغيزستان.
"القيرغيزيون اليائسون"
أما القيرغيزيون فإنهم بعد عقود من معاملتهم كأبناء عموم روسيا الفقراء واليائسين، باتوا يشعرون بالسعادة -بمن فيهم رئيس البلاد، صادر غاباروف-، بعد رؤية الشبان الروس داخل أراضيهم.
وقال غاباروف: "هذه ظاهرة جديدة جدًا بالنسبة لنا"، مشيرًا إلى أن أكثر من مليون قيرغيزي يعملون في روسيا ويُعاملون بشكل طيب، مضيفًا: "وبالتالي فإنَّ المواطنين الروس من مبدأ المعاملة بالمثل يمكنهم المجيء في أي وقت والتصرف بحرية، ولا داعي للخوف من ترحيلهم إلى بلادهم".
وأوضح، أنه لا يعرف عدد المتهربين من التجنيد الروس الذين وصلوا إلى بلاده، لكنه أضاف أن تدفق اللاجئين سيساعد بلاده اقتصاديًا، خصوصًا مع رفع أسعار الإيجارات في المنازل والفنادق.
"أسعار مضاعفة"
وأشارت الصحيفة الأمريكية، إلى أن العديد من القيرغيزيين عمدوا إلى رفع أسعار الإيجارات، حتى إن بعض الملاك أقدموا على طرد المستأجرين القرغيزيين لإفساح المجال للروس المستعدين لدفع ضعف أو ثلاثة أضعاف أو أكثر للسكن.
وبيَّنت أنه على النقيض من أزمة الهجرة في أوروبا عام 2015، والتي شملت السوريين والأفغان وغيرهم، فإن العديد من الروس الباحثين عن ملاذ آمن في قيرغيزستان حاصلون على تعليم عالٍ ولديهم وظائف جيدة في أوطانهم، غالبًا في مجال التكنولوجيا أو الثقافة.
وأفادت بأنه لطالما شعرت قيرغيزستان ودول آسيا الوسطى الأخرى بالقلق من تدفق اللاجئين من أفغانستان المجاورة، لكن، كما قال يان ماتوسيفيتش، وهو باحث أمريكي روسي المولد يبحث عن الهجرة في بيشكيك، "لم يتوقع أحد في أحلامهم تدفقًا من اللاجئين الروس يومًا ما".
"لا حاجة للمال"
ولم يتوقف الأمر عند استغلال القيرغيزيين للروس برفع أسعار الإيجارات، إذ إن قيرغيزيين آخرين أبدوا استعدادهم لاستضافتهم دون مقابل، ومن هؤلاء سيدة تدعى "دينارا" تعيش في مدينة أوش، -ثاني أكبر المدن في البلاد-، والتي نشرت رقم هاتفها عبر الإنترنت وعرضت استضافة الروس المفلسين في منزلها، قائلة: "سأكون سعيدة لمساعدتكم.. لا حاجة للمال، بما في ذلك تقديم الوجبات".
ورأت الصحيفة الأمريكية، أن هذا الترحيب الكبير أجبر بعض الوافدين الروس على إعادة النظر في الصورة الذاتية لبلادهم كقوة حضارية كبيرة تتفوق على الأجزاء الأقل تطورًا في دول الاتحاد السوفييتي السابق، وخصوصًا قيرغيزستان التي كان ينظر لها بعض الروس باحتقار.
وخلصت نيويورك تايمز تقريرها بالقول: إنَّه مع ارتفاع الحجوزات في الفنادق والمنازل للمواطنين الروس الفارين من التجنيد في قيرغيزستان، يتوقع أن يستمر هذا الوضع لفترات أطول، خصوصًا بعد الخطاب العدواني الذي ألقاه بوتين الجمعة الماضية، بشأن ضم أجزاء جديدة من أوكرانيا.