غزو بوتين لأوكرانيا... يظهر فشل سياسة الردع الأمريكية
الحرب الباردة في استخدام الإكراه لقمع العدوان إحدى المهارات التي يحتاج قادة الولايات المتحدة لإعادة تعلُّمها

ترجمات - السياق
رأى المؤرخ الأمريكي هال براندز أن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كشف فشل سياسة الردع الخاصة بنظيره الأمريكي جو بايدن.
وقال براندز، في مقال لشبكة بلومبرج الأمريكية، إن الردع يتمثل في القدرة على منع الضرر من خلال التهديد بوقوع ضرر، وهي الحرفة التي كانت جزءًا حيوياً من فنون الحكم في الحرب الباردة، عندما سعت الولايات المتحدة إلى الحفاظ على السلام عبر التهديد بإلحاق دمار مروّع بالاتحاد السوفييتي في حال الحرب، لكن بعد مرور ربع قرن انحسر خلاله خطر صراع القوى العظمى بشكل كبير، أظهرت الحرب الحالية في أوكرانيا معضلات الردع من جديد.
الردع المتكامل
أشار براندز، وهو أستاذ الشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية، إلى أن تعامل إدارة بايدن مع هذه الأزمة تمثل في سياسة الردع المتكامل، المفهوم الذي له جوانب عدة، لكن مبدأه الأساسي ضرورة أن يجمع الردع بين أدوات القوة الأمريكية، بما في ذلك القوة العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية وغيرها، في حزمة من الألم الذي قد لا يريد أي منافس أن يعانيه.
وتابع: "صحيح أن الأزمة الأوكرانية أظهرت أن الردع المتكامل له إمكانات جيدة، لكنها كشفت عيوبه أيضاً، بالنظر إلى أنه لم يؤد إلى ردع بوتين، إذ يتطلب الردع القدرة والإرادة، لجعل الخصم يدفع ثمن العدوان، لكن ما يعد أكثر أهمية هو نظرة العدو لما يمكننا القيام به".
ووفقاً لبراندز، فإن المنافسة الأمريكية السوفيتية، منحت الأمريكيين عقوداً من التعلم في مجال الردع، كما دفعتهم لإتقان ما يُسمى الردع الموسع، وهو ذلك الردع الذي يتمثل في كيفية منع موسكو من مهاجمة الدول الضعيفة الواقعة على بُعد آلاف الأميال من الولايات المتحدة.
مفارقة بوتين
أواخر عام 2021، عندما بات واضحاً للجميع أن الرئيس الروسي كان يحشد لغزوه المحتمل لأوكرانيا، واجهت إدارة بايدن معضلة كبيرة، لأنه رغم أن أمريكا كانت لديها مصلحة ملحة في منع زعزعة استقرار النظام العالمي، من خلال الغزو واسع النطاق، ومنع روسيا من اجتياح أوكرانيا الذي يهدد المحيط الشرقي لحلف الناتو، فإن كييف ليست حليفاً للولايات المتحدة في المعاهدة، لكنها تقع على الجانب الخطأ من العالم لقوة عظمى (الولايات المتحدة) ترغب في التركيز على التهديد الصيني، حسب براندز.
وأضاف: "صحيح أن أوكرانيا كانت مهددة من ديكتاتور لديه ميل للمخاطرة باستخدام الآلاف من الأسلحة النووية، لكن الوجود الأمريكي في أوروبا كان ضئيلاً للغاية، لدرجة أن وزارة الدفاع الأمريكية توقعت صعوبة كبيرة في الدفاع عن كييف حتى لو أراد بايدن ذلك، والنتيجة كانت ازدواجية عميقة وواضحة في سياسة الولايات المتحدة".
وذكر الكاتب أن المسؤولين الأمريكيين صرحوا مرارًا وتكرارًا بأنهم سعوا جاهدين لردع بوتين عن غزو أوكرانيا، لكن بايدن سحب استخدام القوة من على الطاولة في وقت مبكر من الأزمة، وهو ما ترك الإدارة تعتمد على أحد أشكال الردع، الذي كان جيداً للغاية، لكنه لم يكن متكاملاً على الإطلاق.
تسريب المعلومات
أوضح الكاتب أن الإدارة الأمريكية بدأت سياسة "الردع بتسريب المعلومات"، من خلال إصدار معلومات استخبارية مفصلة لكشف خطط الرئيس الروسي، وإحباط خدعه وحشد التحالف الدولي ضده، الأمر الذي مكّن واشنطن وحلفاءها من تهديد موسكو بعقوبات اقتصادية شديدة ومتعددة.
وتابع: "كما وعدت الإدارة بأن روسيا ستعاني عواقب استراتيجية معاكسة، مثل نشر قوات إضافية للولايات المتحدة وحلف الناتو في أوروبا الشرقية، ثم عزز الغرب القدرات العسكرية الأوكرانية، بشكل سريع، الأمر الذي رفع التكلفة التي ستتكبدها موسكو في حال قرر بوتين غزو كييف".
ورأى براندز أن هذه الاستجابة كانت الشكل الكلاسيكي للردع باستخدام العقاب، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة، رغم ذلك، لم تكن تهدد بمنع روسيا من غزو أوكرانيا، لأن العنصر العسكري للردع المتكامل غائب، لكن بايدن كان يهدد بوتين بمجموعة من العقوبات ستجعل بلاده أضعف حتى لو أنجزت أهدافها العسكرية.
وأضاف: "عندما غزا بوتين كييف، أواخر فبراير الماضي، أظهر العالم الديمقراطي أن الولايات المتحدة وحلفاءها يمكنهم استخدام قوتهم الاقتصادية لضرب المعتدين، وقد تسببت العقوبات التي فُرضت في نقص السلع الأساسية ودخول موسكو في عزلة مالية وتكنولوجية لم تكن تتوقعها، وحينها قال بايدن إن الولايات المتحدة اتبعت "شكلاً جديداً من فنون الحكم الاقتصادي لديه القدرة على إلحاق الضرر بالقوة العسكرية المنافسة"، في الوقت الذي دفعت فيه المقاومة الأوكرانية، المدعومة بالأسلحة الغربية، موسكو نحو مأزق عسكري".
محو أوكرانيا
رأى براندز أنه رغم ذلك فإنه من الصعب قبول تفاخر البنتاجون بأن الردع المتكامل يحقق نتائج جيدة، لأن بوتين فعل ما حاولت أمريكا منعه من القيام به، ولو كان الرئيس الروسي قد أمر بعملية محدودة في دونباس، أو في أي مكان آخر في كييف، لكان قد نجح في الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية، من دون التعرض لأي رد فعل عالمي.
وأضاف براندز: "المشكلة أنه حتى المسؤولون الغربيون لم يعرفوا إلى أي مدى يذهبون، إذا حاول بوتين محو أوكرانيا من الخريطة، وبحلول الوقت الذي جاء فيه الرد، كان الردع قد فشل في تحقيق هدفه".
وتساءل المؤرخ الأمريكي عن سبب فشل سياسة الردع المتكامل، وأجاب بأن واشنطن هي التي أفسدت تطبيق التهديدات الرادعة، لأنه رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي للأزمة كانت جيدة، إذ تمكنت من شن حرب بالوكالة ناجحة للغاية ضد القوات الروسية، فإن سياسته المعلنة كانت كارثة، على حد تعبير براندز.
وتابع: "وهو الأمر الذي يعد مشكلة كبيرة، لأن أوكرانيا لن تكون الأزمة العسكرية الأخيرة بين القوى العظمى التي تواجهها الولايات المتحدة، ولأنه قد لا يمنع التهديد بفرض عقوبات اقتصادية ومالية وحده الرئيس الصيني شي جين بينغ من مهاجمة تايوان، وهو ما يرجع إلى أنه سيكون من الأصعب بكثير على العالم الديمقراطي أن يفعل بالصين، باقتصادها الأكبر والأكثر تكاملاً مع العالم، ما فعله بروسيا، وحتى لو لم يهاجم بوتين دولة من دول الناتو، فإنه قد يعمل هو أو من يخلفه على إثارة مواجهة أخرى في أوروبا الشرقية، قد تشمل فنلندا أو السويد أو بيلاروسيا".
ردع روسيا
وطالب الكاتب بضرورة استمرار الردع بعد بدء الحرب، قائلاً إن أمريكا لا تزال تواجه أسئلة صعبة عن كيفية ردع روسيا في أوكرانيا، لأنه في الوقت الذي تكافح فيه موسكو لتحقيق أهدافها هناك، فإنها يمكن أن تتخذ العديد من الإجراءات، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية، أو قصف الدول المجاورة التي تدعم كييف، أو تصعيد تكتيكات حصارها الوحشي، التي ستؤدي لزيادة الضرر بشكل كبير أو حتى قد تؤدي إلى شن حرب أوسع.
وتابع: "بايدن -حتى الآن- متردد في استخدام المجازفة المحسوبة التي يتطلبها الردع، فعندما رفع بوتين حالة التأهب لقواته النووية لأول مرة، ألغى الرئيس الأمريكي تجربة صاروخية كانت مقررة، ليظهر تحليه بالمسؤولية، وأنه يميل إلى ضبط النفس عند مواجهة خطر التصعيد الغامض، وفي 11 مارس الجاري، وعد بايدن بالدفاع عن (كل شبر من الناتو) وتعهد أيضاً بالبقاء خارج أوكرانيا بأي ثمن، لأن التدخل هناك قد يتسبب في الحرب العالمية الثالثة".
ورأى براندز أنه إذا كانت الولايات المتحدة راغبة في ردع خصومها بشكل فعّال، يتعين عليها تجنُّب الوقوع في فخ نسيان أن هؤلاء الخصوم يخشون التصعيد بقدر ما تخشاه، وأضاف: "الردع، سواء كان متكاملاً أم غير ذلك، هو في الأساس منافسة في المخاطرة، وهذه هي الحقيقة القبيحة التي يحتاج بايدن وخلفاؤه إلى تعلُّمها".