ماذا بعد النيوليبرالية؟
يجب أن يركز صُناع السياسة وقادة الأعمال في الولايات المتحدة على الإنتاج والاستثمار بدلًا من التمويل القائم على الديون، وأن يفكروا في الناس كأصول وليس كخصوم في الميزانية العمومية.

ترجمات – السياق
وضعت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، تصورًا لما بعد "النيوليبرالية" -التي تعني تبني سياسة اقتصادية تقلل دور الدولة وتزيد دور القطاع الخاص قدر المستطاع- موضحة أن العولمة قاربت على الاختفاء، ليحل محلها الاقتصاد المحلي والإقليمي.
وقالت، في تحليل للكاتبة رانا فوروهار، مقتبسة من كتابها "العودة للوطن: الطريق إلى الازدهار في عالم ما بعد العالم"، إنه خلال العقود الأربعة الماضية، تصرف صانعو السياسة في الولايات المتحدة كما لو كان العالم مسطحًا، حيث انغمسوا في التفكير الاقتصادي الليبرالي الجديد، وافترضوا أن رأس المال والسلع والأشخاص، إذا ذهبوا إلى أي مكان سيكونون فيه الأكثر إنتاجية، وبذلك يستفيد الجميع، كما آمنوا بأنه إذا خفضت الحكومات الحواجز التجارية وأسواق رأس المال غير المنظمة، فإن الأموال ستتدفق إلى حيث تشتد الحاجة إليها.
ورأت المجلة، أن صانعي السياسات لم يأخذوا في الحسبان الجغرافيا الطبيعية، لأن "اليد الخفية" كانت بالنسبة لهم تعمل في كل مكان، أو بعبارة أخرى: "المكان لا يهم".
يذكر أن تعبير "اليد الخفية" يشير لقوى العرض والطلب، وقدرتها على تنظيم الأسواق، من دون تدخل الدولة.
وأشارت إلى أنه حتى وقت قريب، اتبعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري سياسات اقتصادية تستند إلى هذه الافتراضات الواسعة، أو ما يمكن تسميته بـ"تحرير التمويل العالمي"، مبينة أن تلك الإدارات أكدت ذلك المسار من خلال التوسع في الصفقات التجارية الإقليمية، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، أو الترحيب بالصين في منظمة التجارة العالمية.
عولمة السوق
وأمام ذلك، رأت "فورين أفيرز" أن الشركات الأمريكية نقلت جزءًا كبيرًا من إنتاجها إلى الخارج، ومع مرور الوقت أصبحت تلك الشركات، مؤسسات عالمية متعددة الجنسيات، تتمتع بأفضل وضع يُمكّنها من التبرع للسياسيين من الحزبين الرئيسين، لضمان رؤيتهم لمزايا النيوليبرالية.
واعتبرت أن هذا الأمر أصبح كأنه نوع من الحملات الصليبية، التي تعمل على نشر هذه العقيدة الأمريكية الجديدة في جميع أنحاء العالم، ما يوفر الأدوات الإلكترونية الرخيصة للمستهلكين في كل مكان، لافتة إلى أن الجميع خلال ذلك، رفع شعار "الخير الأمريكي".
وأشارت إلى أن القيم الفلسفية الأمريكية الليبرالية الجديدة أعلنت منهجًا واضحًا، هو أن البلدان الأخرى، المبتهجة بثمار الرأسمالية على النمط الأمريكي، ستتحرك لتصبح "حرة" هي الأخرى مثل الولايات المتحدة.
وبينت أنه يمكن اعتبار نتائج هذه السياسات، التي سُميت الليبرالية الجديدة، مفيدة للغاية بالنسبة للبعض.
ورأت أن المستهلكين الأمريكيين -حسب هذه السياسات- تمتعوا بثمار التصنيع الأجنبي الرخيص، وتم انتشال ملايين من الفقر، خصوصًا في البلدان النامية، مشيرة إلى أنه مع انضمام الأسواق الناشئة إلى نظام السوق الحرة، انخفض التفاوت العالمي، وولدت طبقة وسطى عالمية جديدة.
لكن -حسب المجلة الأمريكية- "عند الحديث عن الحرية السياسية في تلك البلدان النامية، كانت الإجابة بالطبع، تتعلق بالبلد نفسه، وليست بالسياسات الجديدة".
أمام ذلك، سببت النيوليبرالية أيضًا تفاوتات هائلة داخل البلدان، كما أدت أحيانًا إلى زعزعة استقرار تدفقات رأس المال، في عدد لا بأس به من الدول، وفي ظل تحرك الأموال بشكل أسرع بكثير من السلع أو الأشخاص، دخلت تلك البلدان أو المناطق ساحة المضاربة المالية المحفوفة بالمخاطر، ليشهد عقد الثمانينيات عددًا من الأزمات المالية المرتبطة بالمضاربات، علاوة على ذلك، تسببت السياسات النيوليبرالية في أن يصبح الاقتصاد العالمي منفصلًا بشكل خطير عن السياسات الوطنية، وفقًا للمجلة.
واستشهدت المجلة بما حدث في الولايات المتحدة، خلال معظم عقد التسعينيات، مشيرة إلى حجب هذه التحولات الكبيرة والمؤثرة جزئيًا بسبب انخفاض الأسعار، وزيادة ديون المستهلكين، وانخفاض أسعار الفائدة، لكن بحلول عام 2000، أصبح من المستحيل تجاهل التفاوتات الإقليمية التي أحدثتها النيوليبرالية، إذ أنه بينما ازدهرت المدن الأمريكية الساحلية، كانت أجزاء كثيرة من الغرب الأوسط والشمال الشرقي والجنوب تعاني خسائر فادحة، خاصة في معدلات التوظيف، وبدأ متوسط الدخل بين الولايات الأمريكية في التباين، بعد أن تقارب طوال التسعينيات.
الجغرافيا الاقتصادية
ورأت "فورين أفيرز" أن التجارة مع الصين غيرّت بشكل خاص الجغرافيا الاقتصادية للولايات المتحدة.
ففي مقال نُشر عام 2016 في المجلة السنوية للاقتصاد، أوضح الاقتصاديون (غوردون هانسون، وديفيد أوتور، وديفيد دورن) كيف أفسدت السياسات النيوليبرالية مناطق معينة من الولايات المتحدة، حتى مع إضفاء مزايا هائلة على مناطق أخرى.
الثلاثة قالوا -حسب المجلة- إن الصين "أطاحت الكثير من الحكمة التجريبية السائدة لتأثير التجارة في أسواق العمل".
وأضافوا: "فجأة، لم يكن هناك حلم أمريكي واحد، بل حلم ساحلي وآخر في قلب المدينة... حلم حضري وآخر ريفي، واتضح أن "اليد الخفية" لم تعد تعمل بشكل مثالي، حيث كان لها لمسة مختلفة في أجزاء مختلفة من العالم".
وحسب المجلة الأمريكية، لم تكن هذه رؤية جديدة تمامًا، إذ إنه منذ بداية العصر النيوليبرالي، تراجعت حفنة من الاقتصاديين ضد الحكمة السائدة في هذا المجال.
فمن جانبه، انتقد كارل بولاني، المؤرخ الاقتصادي النمساوي المجري، الآراء الاقتصادية الكلاسيكية منذ عام 1944، بحجة أن الأسواق الحرة كانت أسطورة "طوباوية".
كما أن علماء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بمن فيهم جوزيف ستيغليتز، وداني رودريك، وراغورام راغان، وسيمون جونسون، ودارون أسيموغلو، أدركوا أيضًا أهمية المكان.
بينما قال ستيغليتز، الذي نشأ في "حزام الصدأ"، وهو مصطلح يطلق على المنطقة المتداخلة العليا شمالي شرق الولايات المتحدة: "كان من الواضح إذا نشأت في مكان مثل إنديانا، أن الأسواق ليست فعّالة دائمًا".
ورأت المجلة، أن هذا الرأي بدأ الوصول إلى دوائر السياسة، خاصة أن هناك مجموعة متزايدة من الأبحاث الاقتصادية تدعمه، مشيرة إلى أنه بدءًا من أعمال توماس بيكيتي وإيمانويل سايز وجابرييل زوكمان، إلى أعمال راغ شيتي وتوماس فيليبون، هناك إجماع بين العلماء على أن العوامل المحددة جغرافيًا، مثل جودة الصحة العامة والتعليم ومياه الشرب لها آثار اقتصادية مهمة.
ورغم أن المجلة رأت أن ذلك يبدو بديهيًا أو حتى واضحًا لأغلبية الناس، فإنه لم يلق قبولًا واسعًا إلا مؤخرًا، خصوصًا بين التيار الرئيس لخبراء الاقتصاد.
فقد قال بيتر أورزاغ، الذي شغل منصب مدير ميزانية الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما: "إذا سألت إنسانًا عاديًا، هل يهم أين أنت؟... سيبدأون من الافتراض القائل نعم، أين تعيش وأين تعمل ومن حولك أمور كثيرة... سيبدو الأمر كما لو أن معيار الاقتصاد الجزئي انحرف عن المسار خلال الأربعين إلى الخمسين عامًا الماضية، أو أننا تحولنا لجزر صغيرة مقسمة إلى آلات حسابية عقلانية". وأضاف: "من الواضح أن نهج الاقتصاد الذي يتسم بالحياد عن المكان، فشل".
كورونا وأهمية المكان
وشددت "فورين أفيرز" على أن أهمية المكان أصبحت أكثر وضوحًا منذ بداية جائحة كورونا، والفصل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، وأخيرًا الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
ورأت أن العولمة -أمام هذه التحديات- بدأت الانحسار، وبدأ يتشكل عالم أكثر إقليميًا وحتى محليًا، مشيرة إلى أنه في مواجهة الاستياء السياسي المتزايد في الداخل، والتوترات الجيوسياسية في الخارج، تركز الحكومات والشركات بشكل متزايد على المرونة إضافة إلى الكفاءة.
وأضافت المجلة: "في عالم ما بعد الليبرالية الجديدة، سيكون الإنتاج والاستهلاك أكثر ارتباطًا داخل البلدان والمناطق، وسيكتسب العمل القوة بالنسبة لرأس المال، وسيكون للسياسة تأثير أكبر في النتائج الاقتصادية مما كان عليه لمدة نصف قرن".
وبينت أن مبدأ "عدم اليقين" الذي تحتويه الـ"نيوليبرالية" بشأن المكان لافت للغاية، بالنظر إلى أصول الفلسفة السياسية، لافتة إلى أن هذا الأمر ظهر في أوروبا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كانت الدول تتجه نحو الداخل، وكانت التجارة الدولية تتعرض للانهيار.
وأشارت إلى أنه في وقت لاحق، أصبحت النيوليبرالية أحد أعمدة النظام الاقتصادي، خصوصًا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأنها سعت إلى ضمان عدم تكرار هذه المشكلات المتعلقة بالمكان مرة أخرى.
من جانبهم، أراد الليبراليون الجدد -حسب المجلة- ربط رأس المال العالمي والأعمال التجارية العالمية لمنع الدول من قتال بعضها، لكن في النهاية، ذهب النظام بعيدًا جدًا، بحيث لم تحدث فقاعات الأصول وفرة من المضاربة فحسب، بل أدت أيضًا إلى انفصال كبير بين رأس المال والعمالة، وهو ما أدى إلى ظهور نوع جديد من التطرف السياسي.
إطار أخلاقي
من جانبه، يعتقد عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث -أبو الرأسمالية الحديثة- أنه لكي تعمل الأسواق الحرة بشكل صحيح، يحتاج المشاركون إلى إطار أخلاقي مشترك، لكن الولايات المتحدة والعديد من الديمقراطيات الليبرالية الأخرى دخلت فجأة في علاقات تجارية رئيسة مع بلدان مثل روسيا والدول البترولية في الشرق الأوسط، إلى العديد من الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية، إلى الشريك التجاري الأكبر والأكثر إشكالية على الإطلاق، الصين، التي كانت مختلفة اختلافًا جوهريًا.
أمام ذلك، توقعت "فورين أفيرز" أن يجلب عالم ما بعد الليبرالية الجديدة التحديات وكذلك الفرص، موضحة أن إزالة العولمة -على سبيل المثال- سيصاحبها عدد من الاتجاهات التضخمية (رغم أن التكنولوجيا ستستمر في الانكماش)، لافتة إلى أن الحرب في أوكرانيا وضعت حدًا للغاز الروسي الرخيص، كما سيؤدي الدفع العالمي نحو حياد الكربون إلى إضافة ضريبة دائمة على استخدام الوقود الأحفوري، بينما سيؤدي الإنفاق من قِبل الشركات والحكومات لدعم سلاسل التوريد، إلى زيادة التضخم على المدى القصير.
ورأت المجلة الأمريكية، أنه بعد كل هذا التأثير، لا يمكن الالتفاف على حقيقة أن العالم الذي يتراجع عن العولمة، سيكون أيضًا عالمًا تضخميًا، على الأقل في المدى القصير، ما يجبر الحكومات على اتخاذ خيارات صعبة.
وشددت على أنه في الوقت الذي يسعى فيه صُناع السياسة وقادة الأعمال في الولايات المتحدة إلى مواجهة هذه التحديات، يجب عليهم التصدي للتفكير الاقتصادي التقليدي، لافتة إلى أنه بدلًا من افتراض أن إلغاء القيود والتمويل والعولمة المفرطة أمر لا مفر منه، ينبغي عليهم احتضان الحقبة المقبلة من الأقلمة -الميل لتشكيل المناطق اللامركزية والتأقلم الحيوي- والتوطين والعمل على توفير فرص اقتصادية منتجة لجميع قطاعات القوى العاملة.
وحسب المجلة "يجب أن يركز صُناع السياسة وقادة الأعمال في الولايات المتحدة على الإنتاج والاستثمار بدلًا من التمويل القائم على الديون، وأن يفكروا في الناس كأصول وليس كخصوم في الميزانية العمومية، كما يجب أن يتعلموا من نجاحات وإخفاقات البلدان والمناطق الأخرى، واستخلاص دروس خاصة بالمكان من التجارب الخاصة بذلك".
وخلصت المجلة الأمريكية إلى أنه "لفترة طويلة، استخدم الأمريكيون نماذج اقتصادية عفا عليها الزمن، لمحاولة فهم عالمهم سريع التغير"، مشددة على أن ذلك الأمر لم ينجح في ذروة الهوس النيوليبرالي في التسعينيات، وبالتأكيد لن ينجح اليوم، مشيرة إلى أنه طالما كان المكان مهمًا عندما يتعلق الأمر بالأسواق، وهو على وشك أن يصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.