حرب الغرب الهجينة ضد روسيا

الرد على غزو أوكرانيا شمل العقوبات الاقتصادية الساحقة ومقاطعة ثقافية واسعة النطاق

حرب الغرب الهجينة ضد روسيا

ترجمات - السياق

رغم جهود روسيا لتطوير نهج غير تقليدي للصراع، في القرن الحادي والعشرين، فقد نفَّذت هجومها ضد أوكرانيا، وفقًا لخطط وحشية وقديمة الطراز: الضربات الجوية والمدفعية الثقيلة والعربات المدرعة، التي تحاول قصف جارتها لإخضاعها، بحسب "فايننشال تايمز".

 وبدلاً من ذلك، فإن الغرب هو الذي يقدِّم وسيلة جديدة وغير تقليدية للرد، بعد أن تفوقت عليه روسيا في معظم العقد الماضي، بتوسيع ساحة المعركة، لتشمل الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة .

 الأسبوع الماضي، فرضت الدول الغربية عقوبات مالية غير مسبوقة على روسيا -بما في ذلك البنك المركزي- لديها القدرة على تدمير اقتصاد البلد، حيث يقول الخبراء إنها تصل إلى مستوى حرب مالية، ذات طبيعة غير مسبوقة.

في الوقت نفسه، نظمت الدول الغربية مقاطعة ثقافية ورياضية، وفرضت إحساسًا واسع النطاق بالعزلة على المجتمع الروسي.

لقد سئم الغرب حروبه التي لا نهاية لها، فأخذ يقود نوعًا جديدًا من الحرب "الهجينة" بمزيج من القوة الاقتصادية والقوة الناعمة، تهدف إلى معاقبة روسيا، والضغط عليها لتغيير المسار.

 يقول روبرت كونيغسبرجر، كبير مسؤولي الاستثمار في صندوق التحوط غامرسي: "إنها حرب بلا وسائل  تقليدية، ربما لم يعد علينا إرسال مشاة البحرية بعد الآن."

 منذ نهاية الحرب الباردة، نشأت شبكة من الروابط العميقة، بين روسيا وأعدائها السابقين في الغرب، ليس فقط في الأعمال التجارية والمالية، ولكن أيضًا في الثقافة والرياضة والسفر، وتحاول الحكومات الغربية تحويل هذا الترابط والعلاقات ضد بوتين، مستفيدة من سيطرتها على النظام المالي الدولي وقدرة مجتمعاتها على تأليف روايات قوية تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

 يقول مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "لقد كانت روسيا فعالة بشكل لا يصدق، في التلاعب بالعلاقات التي تربطها بالدول الأخرى، خاصة جيرانها، سواء كان ذلك عبر الإنترنت أم المعلومات المضللة أم إمدادات الطاقة أم النزاعات التجارية، حيث هناك قائمة لا حصر لها من الأشياء التي تربط هذه الدول، ويمكن استخدامها أيضًا لممارسة الضغط السياسي."

وأضاف ليونارد -مؤلف كتاب عصر اللاسِلْم- أن الجهود الغربية لخوض نوع مختلف تمامًا من الحرب، بدأت بالمعلومات الاستخباراتية عن الخطط الروسية في المدة التي سبقت الغزو، التي جعلت من الصعب على بوتين شرح الهجوم وتبريره.

وتابع: "نحاول على الأقل مضاهاة روسيا واستخدام الأساليب نفسها ضدها".

في حين أن قلة من المسؤولين الغربيين، يتوقعون أن يكون للإجراءات تأثير فوري في مسار الحرب، لكنهم فوجئوا بالحسم والسرعة التي تمكنت الحكومات عبرها من فرض حزمة العقوبات المالية، حيث تتم مراقبة الرد الغربي، من قبل أعداء محتملين، بما في ذلك الصين.

بدوره، يقول مارك سوبيل، رئيس مركز أبحاث أمريكي ومسؤول سابق في وزارة الخزانة الأمريكية منذ أربعة عقود: "لا أعتقد أنني رأيت هذا العمل الفعال والموحد والتعاوني والسريع، ما فعلوه كان غير مسبوق على الإطلاق من حيث القوة."

 

سريع وشديد

 كان تأثير العقوبات المالية سريعًا وشديدًا، فخلال عطلة نهاية الأسبوع، وقف الروس في طوابير خارج البنوك لسحب أموالهم، وتراجعت قيمة الروبل، ما أجبر البنك المركزي الروسي على مضاعفة أسعار الفائدة إلى 20 في المئة لدعم الصناعة المصرفية.

 والأسبوع الماضي، فقدت العملة الروسية أكثر من 30 في المئة من قيمتها، وانخفضت إلى ما يقرب من أدنى مستوياتها القياسية مقابل الدولار الأمريكي. 

وتتوقع "جي بي مورغان" أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي سينهار بنسبة 35 في المئة، في الربع الثاني من هذا العام.

كانت العقوبات شديدة القسوة، لدرجة أنها قد تدفع روسيا إلى الدخول في أول تخلف عن سداد ديونها، منذ أزمة عام 1998 المدمرة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى قيام الغرب عمليًا  بـ "تسليح" هيمنته على الهيكل المالي العالمي.

 وقال وزير المالية الفرنسي برونو لومير، لمحطة إذاعية محلية هذا الأسبوع: "سنثير انهيار الاقتصاد الروسي، نحن نخوض حربًا اقتصادية ومالية شاملة، ضد روسيا وبوتين وحكومته، لنكن واضحين، سوف يتحمل الشعب الروسي أيضًا العواقب".

هناك جوانب عدة في الهجوم المالي الأمريكي الأوروبي المشترك، ففي البداية تعلق الأمر بفرض عقوبات على أفراد مهمين من الروس والشركات الروسية، ومنع أي مؤسسات مالية غربية من التفاعل معهم بأي شكل، لكن خلال عطلة نهاية الأسبوع، كشف الغرب النقاب عن أسلحة الدمار المالي الشامل التي يمتلكها.

وكانت الأداتان الرئيسيتان تمنعان أجزاءً كبيرة من وصول روسيا إلى نظام الرسائل "سويفت" الذي يدعم الكثير من نظام المدفوعات العالمي -باستثناء مدفوعات الطاقة فقط، للحفاظ على تدفق النفط والغاز- وتجميد الأصول الخارجية للبنك المركزي الروسي، لعرقلة قدرته على استخدام دعامته المقدرة  بنحو 600 مليار دولار من الاحتياطات المتراكمة.

إضافة إلى عمليات الخروج الكثيرة من الشركات الغربية مثل "بي بي"، وإغلاق المتاجر مثل "إيكيا"، وعمليات سحب الاستثمارات من المستثمرين مثل صندوق الثروة السيادية النرويجي، وتواجه روسيا ما يعادل حصارًا ماليًا دوليًا شبه كامل على اقتصادها.

 

ما القيم التي تدعمها؟

 وبينما دبرت الحكومات –بعناية- عقوبات مالية مختلفة، فرضت المجتمعات الغربية أيضًا، على ما يبدو، مقاطعة رياضية وثقافية لروسيا، على نطاق لم نشهده منذ قيود عصر الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

 ربما جاء الازدراء من الرياضة الأكثر شعبية في العالم، فروسيا كانت الدولة المضيفة لكأس العالم لكرة القدم، عام 2018، وهو انتصار دعائي لبوتين .

لكن الفيفا حظر روسيا من جميع مسابقات كرة القدم الدولية، حيث كان من المقرر أن يلعب فريق الرجال الروسي مباراة تأهيلية لكأس العالم هذا العام، في مارس الجاري، لكن من شبه المؤكد أنه لن يكون حاضرًا بمونديال قطر في نوفمبر.

 وقال جوناس باير هوفمان، الأمين العام للهيئة التمثيلية للاعبين "فيفبرو": من المستحيل أن تظل كرة القدم محايدة في مواجهة الغزو الروسي. وأضاف: "فكرة أننا نستطيع صنع شيء غير سياسي خرافة، إذا قرر بوتين أن كرة القدم سياسية، فهي سياسية، السؤال: ما القيم التي تدعمها كقطاع؟ إلى أي جانب تقف؟ والإجابة: كرة القدم يجب أن تنحاز إلى السلام والمساواة وحقوق الإنسان وتقرير المصير".

لقيت روسيا المصير نفسه في لعبة هوكي الجليد، وهي إحدى الرياضات الأكثر شعبية في البلاد.

وإلى جانب إدانته للغزو، أوقف الاتحاد الدولي لهوكي الجليد جميع فرق روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في مسابقاته "حتى إشعار آخر".

وقال أليكس أوفيتشكين، لاعب هوكي الجليد، أحد أشهر الرياضيين في روسيا، الذي ساعد عام 2017 في إنشاء فريق بوتين على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم الرئيس، في مؤتمر صحفي هذا الأسبوع: "من فضلك، لا مزيد من الحرب".

كما مُنع الرياضيون الروس من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لذوي الحاجات الخاصة في بكين، وألغت فورمولا1 سباق الجائزة الكبرى الروسي.

ولن يُسمح لروسيا بالمنافسة في مسابقة الأغنية الأوروبية لهذا العام. حتى الاتحاد الدولي للقطط منع القطط الروسية من المشاركة في المسابقات الدولية.

ووجد العديد من أشهر الفنانين في روسيا أنفسهم محاصَرين، في محاولة لعزل البلاد، وفي بعض الحالات تحولوا إلى منبوذين ثقافيًا.

فاليري جيرجيف، أحد أشهر الشخصيات في عالم الموسيقى الكلاسيكية، أُقيل هذا الأسبوع من منصبه قائدًا لأوركسترا ميونيخ الموسيقية. 

وكان المايسترو البالغ من العمر 68 عامًا، وهو مؤيد قوي لبوتين، قد رفض طلبًا من رئيس بلدية المدينة، للنأي بنفسه عن غزو أوكرانيا.

وفي نيويورك، اضطرت مغنية الأوبرا -المعترف بها دوليًا- آنا نيتريبكو إلى إلغاء مواعيدها في أوبرا متروبوليتان، بعد رفضها التنصل من أفعال بوتين.

 يقول ليونارد: "توضح كل هذه التحركات للرأي العام الروسي، أن البلاد معزولة ومرفوضة".

 

استراتيجية سياسية

 مع تطويق القوات الروسية كييف ومدن أخرى، واستمرار القصف الجوي، ليس هناك ما يشير إلى أن أيًا من هذه الإجراءات، كان له تأثير فوري في الحرب.

وزعم بوتين أن روسيا تقضي على "النازيين الجدد" وأصر على أنه "لن يتخلى عن قناعته بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد".

 لكن بمرور الوقت، فإن الهدف الأسمى، ممارسة المزيد من الضغط على بوتين. 

الأساس المنطقي أنه إذا رأى الروس أن الاقتصاد في حالة من الفوضى، بينما يتجنب بقية العالم فريقهم الوطني لكرة القدم ورموزهم الثقافية، فإنهم سيوجهون غضبهم إلى الرئيس.

ومع ذلك، حتى الخبراء الذين يعتقدون أن الدول الغربية محقة في حشد الأدوات المتاحة، قلقون من بعض التداعيات.

المسألة الأولى هي الطبيعة العشوائية للعديد من الإجراءات، التي لا تستهدف فقط الحكومة ولا كبار المسؤولين، بل تستهدف الروس.

 تقول إنغريد ويرث، أستاذة القانون في فاندربيلت، إن العقوبات المالية يمكن الدفاع عنها قانونًا، وهي مناسبة بالنظر إلى التجاوزات الروسية. 

ومع ذلك فهي قلقة من سابقة استهداف الاحتياطات الأجنبية لدولة كبرى، والتأثير السلبي طويل المدى الذي يمكن أن تحدثه.

وأضافت: "إذا أصبحت أصول البنك المركزي هدفًا روتينيًا أكثر لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، أعتقد أن هذا سيئ للنظام المالي العالمي وللعلاقات الدولية، يمكننا إلحاق ضرر مالي كبير بروسيا، لكن هل بإمكاننا تحقيق أهدافنا؟ وإذا انهار الاقتصاد الروسي، إلى أي مدى سيساعد ذلك أوكرانيا؟ وكم سيؤذي الشعب الروسي"؟.

 وقد طورت السلطات الأمريكية قدرة واسعة النطاق لجمع المعلومات الاستخبارية عن المعاملات المالية الخارجية، ما يسمح بفاعلية تتبع، ثم تغريم، البنوك التي تتهرب من العقوبات.

والنتيجة أنه حتى عندما يُفترض أن تكون العقوبات الأمريكية محددة الأهداف، يمكن أن تكون لها آثار غير مباشرة قوية، لأن الشركات المالية -في جميع أنحاء العالم- تخشى وضعها على القائمة السوداء الأمريكية.

 وصُممت حزمة العقوبات -التي أعلِنت نهاية الأسبوع الماضي- لتجنُّب مدفوعات النفط والغاز لروسيا. ومع ذلك، مع خوف التجار من المخاطر المرتبطة بالتعامل مع أي طرف روسي، اختار كثيرون عدم شراء النفط الروسي هذا الأسبوع، ما أدى إلى ارتفاع جديد في أسعار النفط.

 ويشعر بعض المراقبين بالقلق، من أن فرض إجراءات عقابية على الروس، بصرف النظر عن آرائهم، يمكن أن يثير الاستياء ضد الدول الغربية ويؤجج القومية.

 عندما أحيى عازف البيانو الروسي دانييل تريفونوف حفلاً في قاعة كارنيجي بنيويورك الخميس، صعد مدير المكان خشبة المسرح، للتمييز بين هؤلاء الفنانين الروس الذين ينتقدون بوتين علنًا، وأولئك الذين يظلون صامتين أو يدعمون الحرب.

وقال للجمهور: "من الواضح أن أمريكا ومعظم ردود فعل العالم على الغزو، كانت إدانة لفلاديمير بوتين وليس للروس، من المهم جدًا ملاحظة أن عددًا كبيرًا من الروس -رغم التهديد الذي يتعرضون له وعائلاتهم وأحبائهم- يتظاهرون ضد هذا الغزو في روسيا، وتلك شجاعة تُحسب لهم، في ظِل ظروفهم".

 ألكسندر تشيفرين، رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي يدير كرة القدم في أوروبا، يوافق على قرار حظر الفرق الروسية، لكنه قلق من تأثير منظمات مثل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم في اتخاذ قرارات بشأن من يُسمح لهم باللعب، حيث تساءل : "هل يُسمح للأشخاص بالمشاركة في  الأحداث الرياضية، أم يجب أن نتحقق أولاً من الوضع السياسي لهم؟".

 السؤال الآخر: كيف ومتى يمكن عكس مفعول هذه التدابير، كما يشير خبراء العقوبات؟ حيث من السهل فرضها، لكن رفعها أصعب بكثير. 

ولكي تكون شكلاً فعالاً من أشكال الضغط، يجب دمج العقوبات في استراتيجية سياسية ودبلوماسية أوسع لإنهاء الحرب.

لم تحدد الحكومات الغربية مسارًا لما قد يتعين على روسيا فعله لرفع العقوبات. 

البيان الذي صدر من حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا والمملكة المتحدة -نهاية الأسبوع الماضي- قال فقط إنهم "سيواصلون فرض التكاليف" على روسيا لعزلها عن النظام المالي الدولي.

يشير ليونارد إلى أنه حتى أنظمة العقوبات التي تعد ناجحة -مثل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وإيران- استغرقت سنوات حتى كان لها تأثير.

 إذا أعلنت روسيا إنهاء الحرب، بعد السيطرة على جزء كبير من أوكرانيا ، ستواجه الحكومات الغربية قرارات صعبة، بشأن العقوبات التي يجب الحفاظ عليها ومداها الزمني، ما قد يضر بالوحدة التي حدثت الأسبوع الماضي، وسوف يأخذ العالمان الثقافي والرياضي إشاراتهما من تحركات الحكومات .

 يقول روبرت بلاكويل، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، إن الدول الغربية تحاول استخدام الأدوات الاقتصادية وغيرها من الأدوات لتحقيق أهداف جيوسياسية. ويتساءل : "لا نعرف حتى الآن ما إذا كان ذلك سيكون فعالاً، هل تغير العقوبات السلوك أم تعاقبه فقط؟".