مجلة أمريكية: تاريخ هنري كيسنغر الطويل في استرضاء الديكتاتوريات

الصين الشيوعية قبل زيارة كيسنغر -الملقب بأمير الواقعية- السرية لها عام 1971، ظلت لعقود منبوذة دوليًا، إلا أنه توسط للتقارب بينها وبين واشنطن، بدعوى إيجاد قضايا مشتركة ضد الاتحاد السوفييتي

مجلة أمريكية: تاريخ هنري كيسنغر الطويل في استرضاء الديكتاتوريات
هنري كيسنجر

ترجمات - السياق

رصدت مجلة ديسباتش الأمريكية، ما سمته "تاريخ هنري كيسنغر -وزير الخارجية الأمريكي الأسبق- الطويل في استرضاء الديكتاتوريات"، مشيرة إلى أنه أمضى عقودًا في تنمية صداقة قوية بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلًا عن دفاعه المستمر عن إيران والصين.

وقالت المجلة، في تحليل للمؤرخ الأمريكي مايكل روبين، والمحللة الروسية إيفانا سترادنر، الباحثة المساعدة في معهد أمريكان إنتربرايز: "وزير الخارجية الأمريكي السابق، مستشار الأمن القومي هنري كيسنغر، نصح -في حديثه خلال حضوره منتدى دافوس الاقتصادي في مايو الماضي- أوكرانيا بالتخلي عن الأراضي الروسية لإنهاء الحرب.

ورأى الدبلوماسي المخضرم -الذي يُعد من أبرز دعاة السياسة الواقعية في العالم- ضرورة عودة الأمور إلى سابق عهدها، محذرًا من أن "استمرار الحرب في ما بعد تلك المرحلة، لن يكون متمحورًا حول حرية أوكرانيا، وإنما سيفتح الباب لحرب جديدة ضد روسيا نفسها".

وعلَّق الكاتبان على هذه التصريحات بالقول: الخطأ الذي وقع فيه كيسنغر أنه بدلاً من إحلال السلام، فإن نصيحته ستثير صراعًا في المستقبل، من خلال اعتقاد روسيا أن العدوان يجلب المكافآت.

وأشارا إلى أن تصريحات كيسنغر لم تأتِ من فراغ، إذ أمضى أكثر من عقدين من الزمن في إعفاء موسكو من إساءة معاملة جيرانها، بينما أقام صداقة شخصية ببوتين.

 

أمير الواقعية

وحسب الكاتبين، فإن الصين الشيوعية قبل زيارة كيسنغر -الملقب بأمير الواقعية- السرية لها عام 1971، ظلت لعقود منبوذة دوليًا، إلا أنه توسط للتقارب بينها وبين واشنطن، بدعوى إيجاد قضايا مشتركة ضد الاتحاد السوفييتي.

ويضيفان: ثم جادل في وقت لاحق بأن الصين كانت ببساطة أهون الشرَّين، وقال ساخرًا، إن الفارق بين الصين والروس هو  "إذا سقطت منك بعض الفكة، وعندما تذهب لاستلامها، فإن الروس سيضغطون على أصابعك، لكن الصينيين لن يفعلوا".

وأشارا إلى أنه بعد الحرب الباردة، بدأ كيسنغر الدفاع عن موقف أكثر مرونة تجاه الروس، إذ قال منذ أكثر من عقدين: "كنت أعتقد أن الاتحاد السوفييتي يجب ألا يتخلى عن أوروبا الشرقية بهذه السرعة"، الأمر الذي عدَّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعمًا فكريًا.

وذكر الكاتبان أنه بعد هذه التصريحات، كرر الرجلان لقاءاتهما بانتظام، حيث استضاف كيسنغر، الذي وصف بوتين بأنه "وطني عظيم"، الزعيم الروسي بمنزله في نيويورك لتناول العشاء، بينما رد بوتين بالمثل وكال المزيد من الإطراء على كيسنغر لمعرفته بالثقافة الروسية، ومنحه الأستاذية الفخرية في الأكاديمية الدبلوماسية الروسية.

بالنسبة لبوتين -حسب الكاتبين- أصبح كيسنغر أداة مفيدة نظرًا للاحترام الذي يكنه الكثيرون في واشنطن لوزير الخارجية الأسبق.

ووصف كيسنغر -قبل الغزو الروسي لجورجيا عام 2008- سياسة الكرملين الخارجية في عهد بوتين بأنها "مدفوعة بالسعي للحصول على شريك استراتيجي موثوق، مع كون أمريكا الخيار المفضل"، وحث أمريكا على "إظهار حساسية أكبر تجاه التعقيدات الروسية".

وأوضحا، أنه عندما غزا بوتين، الجمهورية السوفيتية السابقة في أغسطس 2008، أبدى كيسنغر رفضه لما حدث، إلا أنه لم يتطرق لكلمة الحرب، وإنما وصفها فقط بالأزمة، ونصح حينها بأن "عزل روسيا لا يمكن أن يكون سياسة مستدامة بعيدة المدى".

 

تأثير كبير

أمام توطيد هذه العلاقة، قال الكاتبان: "يبدو أن ثقة كيسنغر ببوتين قد أثرت في احتضان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لـ "إعادة ضبط العلاقات" مع روسيا، التي بدورها سمحت لروسيا بحرية التصرف مع الإفلات من العقاب، وحجبت التهديد الذي يشكله بوتين.

وعام 2014 عندما بدأت روسيا تعديها على أوكرانيا، قال كيسنغر: "بالنسبة لروسيا، لا يمكن لأوكرانيا أن تكون مجرد دولة أجنبية"، وحذر من أن الولايات المتحدة يجب أن تكون أكثر احترامًا لوجهة نظر بوتين، وأن "تتجنب معاملة روسيا على أنها شاذة لتعلمها ببطء قواعد السلوك التي وضعتها واشنطن".

في الواقع -حسب روبين وسترادنر- تفوقت التسوية مع الكرملين على النظام الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، القائم على حظر العدوان المسلح ضد الدول المجاورة ذات السيادة.

ورأى الكاتبان، أن التكيف مع الديكتاتوريات العدوانية عنصر أساسي في حِكمة كيسنغر، وأشارا إلى أنه بينما يحذر -في كثير من الأحيان- من مخاطر إيران نووية، فإن وصفاته السياسية غالبًا ما تقوِّض الضغط على طهران.

وبينّا أنه عام 2006 -بعد أقل من خمس سنوات من وصف جورج دبليو بوش إيران بأنها جزء من "محور الشر"- لجأ كيسنغر مرارًا وتكرارًا إلى صحيفة واشنطن بوست، للمطالبة بتسوية بين الجانبين، فضلًا عن أنه بعد ذلك بعامي ، اقترح إمكانية تعامل واشنطن مع طهران مباشرةً.

وذكر الكاتبان أن الصحافة الإيرانية -التي تسيطر عليها الدولة- صدَّرت نصيحة كيسنغر في مانشتاتها، وطالبت إدارة بوش الابن، "بأن تكون مستعدة للتفاوض بشأن إيران".

وأضافا أن نصائحه لم تتوقف عند ذلك الحد، بل ادعى -مرارًا وتكرارًا- بأن روسيا ستكون حليفًا لأمريكا ضد إيران النووية، إلا أنه في الواقع، كان الكرملين من بين أعظم الميسرين والمتعاملين مع النظام الإيراني، للحصول على خبرات نووية.

 

موقفه من الصين

ورأى روبين وسترادنر أنه في الوقت الذي عمل فيه كيسنغر على تقويض أي ضغوط أمريكية ضد قادة إيران، فإن موقفه -الذي وصفاه بغير المهذب- تجاه صعود الصين كان أكثر غرابة.

وأشارا إلى أنه قبل نصف قرن من الزمان، أعرب عن امتنانه لرئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي، من خلال توجيه الشتائم البذيئة إلى رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي، زعيمة أكبر ديمقراطية في العالم من حيث عدد السكان.

وأوضحا أن صداقة كيسنغر مع الصين كانت متعددة الأوجه ومربحة، إذ إنه بعد خمس سنوات من مغادرته منصبه في وزارة الخارجية الأمريكية، أسس شركة (كيسنغر أسوشيتس) لتسهيل دخول الأعمال الأمريكية إلى الصين.

وبينّا أنه استغل علاقاته بكبار الدبلوماسيين ومسؤولي الأمن القومي، واستخدم تأثيره ونفوذهم الجماعي في السياسة الخارجية ونخبة رجال الأعمال -خاصة أولئك الذين كانوا يتطلعون إلى نصيب من اندفاع الصين نحو الذهب- لغسل صورة النظام الشيوعي.

وذكر الكاتبان أن هذا الأمر كان حاسمًا في أعقاب انتفاضة ميدان تيانانمين المؤيدة للديمقراطية عام 1989 التي سحقتها الصين، إذ إنه رغم اعتراف الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) بالتهديد الذي تمثله الصين الاستبدادية، فإنه في الكواليس، حثَّ كيسنغر، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، على أن يكتم رده ويتجنب العقوبات ويوقف جهود عزل الصين، ولفتا إلى أنه سرعان ما استؤنف الاستثمار الأمريكي بالفعل مع بكين.

وحسب الكاتبين، فإن كيسنغر ليس أول رجل دولة يقدم تنازلات أخلاقية بعد ترك منصبه، وأشارا إلى أن المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر أعلن انضمامه إلى شركة غازبروم الروسية للطاقة، بعد تركه منصبه، مستخدمًا حينها مكانته وعلاقاته للتقليل من المخاوف بشأن نوايا الكرملين من هذه التوريدات وعقود الطاقة.

وأضافا: "ربما كان كيسنغر قد خدم بشرف، لكن حان الوقت لأن يسأل الأمريكيون، الذين يمنحون الأولوية للديمقراطية والليبرالية، ما إذا كان الدبلوماسي الكبير قد أصبح شرودر الأمريكي بالفعل".