في الشرق الأوسط... صوت التجارة يعلو فوق صوت المنافسة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين
من الأفضل لواشنطن أن تفهم أن الكثيرين خارج الولايات المتحدة، لديهم وجهة نظر مختلفة عن بكين، وقلة قليلة منهم فقط مهتمون بأن يكونوا مسرحاً للمنافسة الاستراتيجية بينها وبين الصين.

ترجمات-السياق
قال المجلس الأطلسي، إنه عند النظر إلى ديناميكيات العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، قد يبدو أن المنافسة الاستراتيجية هي الإطار المناسب للتفكير في السياسة الدولية، لكن بالنسبة للشرق الأوسط، فإنه لا صوت يعلو فوق صوت التجارة.
وأضاف المجلس، وهو مؤسسة بحثية أمريكية مؤثرة في مجال الشؤون الدولية، في تحليل لزميل المجلس، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة زايد، بأبوظبي، جوناثان فولتون، أن الاجتماع بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في بكين، خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022 كان شديد الرمزية، حيث تعهد الزعيمان بصداقة "بلا حدود" وبـ"ألا تكون هناك مجالات محظور التعاون فيها"، كما أن رد الفعل الصيني على الحرب في أوكرانيا والتدهور العام للعلاقات الأمريكية الصينية يؤكدان الفجوة الهائلة بين تفضيلات واشنطن للنظام العالمي من جهة، وتفضيلات بكين وموسكو من جهة أخرى.
نرجسية القوى العظمى
لكن المنافسة الاستراتيجية تنطوي، في الوقت نفسه، على خطر التعرض لنرجسية القوى العظمى، إذ عند النظر إلى البلدان والمناطق الأخرى في العالم، فإن القادة في واشنطن وبكين لا يرون سوى المنافسة بين البلدين، وفي غضون ذلك، يرى باقي المجتمع الدولي النظام العالمي هشاً ومعرضاً للخطر، ما يهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي في العالم، بحسب فولتون
ولفت إلى أن الرؤية من منظور أبوظبي توضح الكثير، إذ تعكس استجابة الإمارات العربية المتحدة للمنافسة الأمريكية الصينية مخاوف عميقة، ففي مؤتمر عُقد في أكتوبر 2021، أعرب المستشار الدبلوماسي الرئاسي أنور قرقاش عن قلقه من أن هذه المنافسة قد تجبر دولاً في الشرق الأوسط على "اتخاذ خيارات مستحيلة"، كما وصلت العلاقة بين الولايات المتحدة والإمارات إلى نقطة متدنية، حيث وصفها السفير يوسف العتيبة بأنها تمر بـ"اختبار ضغط".
وذكر أن الإمارات شعرت بالانزعاج من رد واشنطن على هجمات الحوثيين على أبوظبي في 17 يناير الماضي، كما أنها لا تزال محبطة من العلاقات الفاترة بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع المملكة العربية السعودية، ورغم المحاولات الأخيرة من الولايات المتحدة لإعادة العلاقات الثنائية بين واشنطن والرياض، فإن حل المشكلات بينهما يتطلب الكثير من الدبلوماسية.
الإمارات والصين
ووفقاً للمجلس الأطسي، فإنه في غضون ذلك استمرت العلاقات المتنامية بين الإمارات والصين في الازدهار، إذ بعدما علَّق الجانب الإماراتي المحادثات في ديسمبر 2021 بشأن صفقة مقاتلات من طراز "إف-35" التي كانت قيد المناقشة منذ فترة طويلة، بسبب مخاوف تتعلق "بالمتطلبات الفنية والقيود التشغيلية السيادية والموازنة بين التكلفة والفائدة"، أعلن -في فبراير الماضي- أن الإمارات ستشتري اثنتي عشرة طائرة تدريب صينية من طراز "إل-15".
وذكر المجلس أنه رغم أن "إل-15" و"إف-35" تخدمان أغراضاً مختلفة، فإن الشراء من الصين له دلالة مهمة، إذ يدل على أن أبوظبي لديها خيارات عدة، في جهودها لتنويع مصادر الأسلحة.
وبالنظر لهذه الخلفية، فإن سلسلة الاتفاقيات الأخيرة تؤكد أن منافسة القوى العظمى، لم تعد الإطار الوحيد المتاح للنظر للسياسة الدولية، إذ قبل وقت قصير من تعليق صفقة "إف-35"، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإمارات في 3 ديسمبر 2021، ما أسفر عن صفقة بـ 19 مليار دولار، لشراء ثمانين طائرة مقاتلة من طراز رافال، واثنتي عشرة مروحية نقل عسكرية من طراز كاراكال، وهي أكبر عملية بيع من هذا القبيل أجرتها فرنسا، كما أنه بعد أسابيع، زار الرئيس الكوري الجنوبي آنذاك مون جاي إن أبوظبي، في 16 يناير الماضي، وجرى توقيع صفقة بـ 3.5 دولار لشراء الصواريخ أرض-جو "تشونجونج 2"، كما أن من النتائج المهمة الأخرى للزيارة أيضاً المضي قدماً نحو اتفاقية التجارة الحرة المقترحة بين كوريا الجنوبية ومجلس التعاون الخليجي، حسب المجلس.
التجارة الحرة
أوضح المجلس الأطسي، أن اتفاقيات التجارة الحرة من أهم أولويات دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ إنه في فبراير الماضي، أعلنت الهند والإمارات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، وهي أول اتفاقية تجارة خارجية مهمة لنيودلهي منذ توقيعها مع اليابان عام 2011، ورأى المجلس أن تفعيل الاتفاقية خلال ثمانية وثمانين يوماً فقط ودخولها حيز التنفيذ، في الأول من مايو الماضي، يعد أمراً لافتاً للنظر، مشيراً إلى أنه من المتوقع أن تزيد التجارة والخدمات بين أبوظبي ونيودلهي من 61 مليار دولار إلى 115 مليار دولار في غضون خمس سنوات، وأواخر مايو الماضي، أعلنت الإمارات وإسرائيل اتفاقية تجارة حرة أيضاً، لمضاعفة التجارة ثلاث مرات في غضون ثلاث سنوات.
ورأى المجلس أن هذه الصفقات والاتفاقيات انعكاس لاتجاه أكبر، وهو أن الشواغل التي تهيمن على كثير من الدول، اقتصادية وتنموية، وهو الحال في الشرق الأوسط، إذ إن زيادة حجم التجارة تؤدي لزيادة رأس المال السياسي ولعلاقات أعمق، وكما قالت وزيرة التجارة الأمريكية جينا ريموندو، في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس فإن "الولايات المتحدة استخدمت اتفاقيات التجارة التقليدية للاقتراب من حلفائها ما بين الحرب العالمية الثانية والآن"، وهو المنطق نفسه الذي يفسر النمو الحالي في اتفاقيات التجارة الحرة عبر منطقة أوراسيا.
ومع ذلك، فإن البيئة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة تجعل من الصعب للغاية تحقيق صفقات تجارية، ورغم أن التخلي عن الشراكة عبر المحيط الهادئ عام 2017 كان مفيداً للحملات الانتخابية في مناطق معينة، فإنه كان كارثة دبلوماسية، ومنذ ذلك الحين، كانت النتيجة وجود تصور واسع النطاق، لاسيما في الشرق الأوسط، بأن الولايات المتحدة تركز فقط على المسائل الاستراتيجية والأمنية، وأنها تتعاون مع دول أخرى، إلى حد كبير، رداً على منافستها مع الصين، حسب المجلس.
نهج أمريكا
رأى المجلس أن خطاب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 26 مايو الماضي، عن "نهج الإدارة تجاه جمهورية الصين الشعبية"، لم يفعل الكثير لتبديد هذا التصور، حيث وصف بلينكن الصين بأنها "الدولة الوحيدة التي لديها النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، والقوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لذلك"، مضيفاً أن "إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ستشكل البيئة الاستراتيجية لبكين، لتعزيز رؤية واشنطن الخاصة لنظام دولي مفتوح وشامل، على أن يكون إنجاز ذلك عبر استراتيجية من ثلاث كلمات: الاستثمار والمواءمة والتنافس".
وأضاف المجلس أن التحالف ضد دول بعينها يعد أمراً إشكالياً، لسبيين، أولهما أن العالم يدرك أن الحزب الجمهوري أصبح، منذ حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لديه وجهات نظر مختلفة تماماً لفائدة التحالفات والشراكات، وثانيهما، أنه من الصعب تحقيق الاصطفاف ضد الصين، عندما لا ترى العديد من الدول، خاصة جنوبي الكرة الأرضية، الرؤية السلبية نفسها التي تراها واشنطن.
وتابع: "يبدو التحول الذي تشهده الصين منذ بداية عصر الإصلاح عام 1978 إنجازاً رائعاً، في البلدان ذات الاحتياجات التنموية المُلِحة، كما أنه بعد عقود من فشل سياسات الإجماع في واشنطن، فإن الكثيرين يرغبون في التعلم من بكين، وعندما يحذر الشمال العالمي المتقدم من مخاطر القروض الصينية الجشعة، أو من الممارسات التكنولوجية المشبوهة، فإن الرسالة تبدو جنوبي الكرة الأرضية أسوأ من مجرد كونها جوفاء، إذ تبدو كنفاق".
التعاون الأمني
بالعودة إلى حالة الإمارات، فإنها تعمل، من خلال تعميق علاقاتها مع الهند وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان، على زيادة الاعتماد المتبادل مع مجموعة واسعة من حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، الذين لديهم خلافاتهم الخاصة مع بكين، حسب المجلس.
وأضاف: "لقد كانت الصين الشريك التجاري الأول لدولة الإمارات عام 2021، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية 75.6 مليار دولار، ومع ذلك، فإن مجرد القول إن الصين رقم واحد يعطي صورة غير كاملة، إذ إن رقم 2 و3 مهمان أيضاً، حيث باتت الهند، باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة المبرمة حديثاً، واتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع أبوظبي، ومجتمع المغتربين الذي يقارب 40% من سكان الإمارات، ثاني أكبر شريك تجاري عام 2021 بـ 61 مليار دولار، تلتها اليابان بـ 37 مليار دولار، والأهم من ذلك، أن اليابان عميل رئيس للطاقة لأبوظبي، وعادةً ما تكون ثاني أكبر وِجهة تصدير لها (خلف الهند مباشرةً)، ولديها أيضاً اتفاقية شراكة استراتيجية مع البلاد".
ونهاية التحليل، قال المجلس إنه يمكن لاتفاقيات التجارة الحرة والتعاون الأمني بين الحلفاء، أن تسهم في الاستقرار والازدهار، لكن رؤية الصين ذات البُعد الواحد لا تساعد كثيراً، ولذا فإنه من الأفضل لواشنطن أن تفهم أن الكثيرين خارج الولايات المتحدة، لديهم وجهة نظر مختلفة عن بكين، وقلة قليلة منهم فقط مهتمون بأن يكونوا مسرحاً للمنافسة الاستراتيجية بينها وبين الصين".