هنري كيسنجر.. وإنهاء الصراع في أوكرانيا
إذا استمر هذا الصراع فترة أطول فإن أوكرانيا ستواجه خطراً وشيكاً بأن تصبح مختلة وظيفياً بشكل لا يمكن إصلاحه

ترجمات - السياق
"الحرب لا تشبه أفلام هوليوود التي ينتصر فيها الشخص الطيب دائماً في النهاية"، بهذه الكلمات استهلت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية تقريراً سلَّطت فيه الضوء على تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر بشأن الحرب الروسية في أوكرانيا.
وقالت المجلة، في تحليل بموقعها الإلكتروني: يبدو أن كيسنجر يقع في فخ هذا الفهم التقليدي، وهو ما ظهر من خلال إثارته الغضب في كييف وبعض الأوساط الغربية، بعد اقتراحه في محادثة بالفيديو مؤخراً، بمنتدى دافوس، أن حل النزاع بشأن أوكرانيا قد ينطوي على تعديلات إقليمية، كما أنه كان قد أوضح أن "نتيجة تلك الحرب، بالمعنيين العسكري والسياسي، ستؤثر في العلاقات بين مجموعة من الدول، وستحدد نتيجة الحرب والتسوية السلمية، ما إذا كان المقاتلون سيظلون أعداء، أو ما إذا كان من الممكن دمجهم في إطار دولي".
القضاء على الأزمات
ورأت المجلة أن طريقة التفكير هذه تتوافق مع تأكيد كيسنجر طويل الأمد للعلاقة بين فترات الاستقرار الممتدة والالتزام المشترك بشرعية النظام الدولي القائم على الحفاظ على التوازن بين القوى الكبرى، مشيرة إلى أنه كان محقاً حينما قال إنه لم يتم تصميم أي نظام لتوازن القوى على الإطلاق للقضاء على الأزمات والصراعات.
وأضافت: "عندما تعمل هذه الأنظمة الدولية بشكل صحيح، فإنها ستهدف ببساطة إلى الحد من نطاق الهيمنة والصراعات، إذ إن هدفهم هو تعزيز الاستقرار والاعتدال، وليس السلام الدائم أو أي هراء آخر من هذا القبيل".
وأشارت المجلة إلى أنه من الواضح أن هذه ليست الطريقة التي تفهم بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والآخرون في الغرب الجغرافيا السياسية، كما أنها بالتأكيد ليست الطريقة التي ينظرون بها إلى الصراع مع روسيا بشأن أوكرانيا، لكن الحرب بالنسبة لهم اختيار بين الأبيض والأسود للصراع العالمي بين أنصار الديمقراطية والاستبداد.
وتابعت: "بعد مرور مئة يوم من الحرب، فإن الوجهة ما زالت غير معروفة، ولم نجد الإجابة عن السؤال الأساسي الخاص بأهداف الحرب الغربية في الصراع الحالي بأوكرانيا، ليس في الأماكن العامة فحسب، لكن على الأرجح في السر أيضاً، وهو أمر غير جيد، فهل الهدف هو إحداث تغيير في النظام الروسي، أم تدمير قدرة روسيا على القتال وكسب الحروب، أم عودة مواطني الاتحاد الروسي إلى مستويات المعيشة في الحقبة السوفيتية، أم إجراء محاكمة لجرائم حرب، أم وقف إطلاق النار، أم اتفاق سلام، أم تسوية إقليمية، أم بنية أمنية أوروبية جديدة؟!".
استراتيجية عنيدة
وأشارت المجلة إلى أنه في ظل غياب الإجابات التي تحظى بالإجماع على مثل هذه الأسئلة وما شابهها، فإن الغرب سيظل متحداً في جهد سياسي ومالي غير مسبوق لدعم كييف، وهو السبب الرئيس الذي جعل الأخيرة تقاوم التخلي عن استراتيجيتها العنيدة والمتطرفة في التفاوض.
ووفقاً للمجلة، فإن الحقيقة، حتى لو كان من الصعب قبولها، أن أوكرانيا كانت ولا تزال شأناً متعلقاً بعلاقات القوى العظمى وليس بالنظام الدولي، وسيكون من الصعب المجادلة -بشكل مقنع- بأن الدولة التي تعتمد على الأسلحة والذخيرة والاستخبارات التي توفرها القوى الأجنبية، ذات سيادة كاملة أو مستقلة تماماً، بصرف النظر عن نوع نظامها.
وتساءلت المجلة: "هل تبدو هذه الحقيقة قاسية؟"، وأجابت: "الدعم الذي يقدمه الغرب لأوكرانيا، يأتي في شكل مبيعات الأسلحة ونقلها والتدريب العسكري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي، والمنح النقدية المباشرة وضمانات القروض الضخمة، وسياسة الباب المفتوح للاجئين، والتهديد بإعادة تخصيص مليارات الدولارات من الأصول الروسية المُصادَرة لإعادة الإعمار، إلى جانب الوعد بإنفاق مبالغ لا حصر لها من الموارد الغربية على ذلك، إذ يشير تقرير لمعهد (كيل) للاقتصاد العالمي إلى أنه بين 24 يناير و10 مايو الماضيين، قدَّم الغرب (بما في ذلك تركيا) ما لا يقل عن 64.6 مليار يورو من الالتزامات العسكرية والمالية والإنسانية لكييف، منها 42.9 مليار دولار (66%) من الولايات المتحدة (أكثر من نِصف مساهمة الولايات المتحدة مخصصة لمشتريات الجيش والأسلحة)، لكن يبدو أن هذه الأرقام الكبيرة -بشكل مذهل- مجرد تقديرات متحفظة، لأنها لا تتضمن التزامات المؤسسات المالية الدولية، والجمعيات الخيرية، والجهات الفاعلة غير الحكومية، كما أنه منذ نشر ذلك التقرير، فإن هذه المبالغ غير المسبوقة تضاعفت بالفعل".
حرب بالوكالة
رأت المجلة أنه بالنظر لهذه المساعدات سيكون من الصعب للغاية تفنيد ادعاء الكرملين بأن الصراع على أوكرانيا يصل إلى حرب بالوكالة بين الغرب وروسيا، قائلة إنه بعد تشجيعها وتجهيزها من قِبل الغرب، فإن هناك خيطًا مهمًا ظهر في التفكير الاستراتيجي للقيادة الأوكرانية، وهو السعي لتحقيق النصر، الذي يُعرَّف بأنه عودة الأراضي التي تحتلها روسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، لكن لن تتحقق هذه النتيجة المتطرفة من دون تكلفة باهظة، لأن روسيا ستكون على استعداد لاستخدام سلاح نووي تكتيكي أو اثنين لمنع حدوثها.
وذكرت المجلة أنه من الواضح أن هناك شيئًا ما ملهماً بشأن مقاومة أوكرانيا، لكن من المثير للدهشة أيضاً أن المتطرفين في الغرب لا يرون شيئًا خاطئًا في الاقتراب بشكل خطير من السماح لسياستهم الخارجية بأن تصبح أداة لدولة تعتمد تقريباً على سخاء الغرب لمواصلة السعي لتحقيق النصر، مشيرة إلى أنه لحُسن الحظ، لا أحد من دوائر مقاليد الحكم الغربية على استعداد لدخول الصراع بشكل مباشر، إذ تم رفض إعلان وفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو حتى أجزاء منها، كما تم رفض النشر العلني لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
صراع مجمد
توقعت المجلة أن ينتج عن ذلك إما صراع مجمّد كالموجود بين سوريا وإسرائيل، أو بين الكوريتين، أو صفقة تنطوي على تنفيذ شيء مشابه لاتفاقيات مينسك، قائلة إنه بصرف النظر عن النتيجة، فإنه بفضل سخاء الغرب، تمكنت أوكرانيا من إثبات قدرتها على مقاومة العدوان ولكن ليس التغلب عليه، والآن يجب أن يكون الغرب واضحاً بأن أولويته هي التوصل إلى شروط لشكل من أشكال التسوية، وهو ما سيتطلب من كييف قبول حل وسط أو التنازل، وهي كلمة غير مستساغة للجماعة الأوكرانية التي ترى أنه يجب الفوز بأي ثمن، لكن ينبغي عدم تفسير ذلك على أنه يتطلب بالضرورة من أوكرانيا توقيع وثيقة قانونية، تتنازل فيها عن جزء من أراضيها إلى الأبد، لكن النقطة المهمة أن بداية هذه الصراعات الأوروبية ومساراتها اللاحقة، لم تكن لها علاقة باحترام المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، بقدر ما كانت لها علاقة بالتغيرات الجيوسياسية المقترنة بالتغيرات في ميزان القوى العالمي.
ونهاية التحليل، أضافت المجلة أنه ربما يكون لهذا الفصيل الأوكراني المتطرف حظ أكبر في إقناع حلفائه الغربيين، ناهيك عن بقية العالم، بصدق نيته، لولا حقيقة أن أوكرانيا ليست دولة ديمقراطية وفقاً للفهم الغربي المعتاد للمصطلح، محذرة من أنه سواء كانت ديمقراطية أم لا، فإنه إذا استمر هذا الصراع فترة أطول، فإن كييف ستواجه خطراً وشيكاً بأن تصبح مختلة وظيفياً بشكل لا يمكن إصلاحه بعد انتهاء الصراع، مثل البوسنة في أوروبا الشرقية، وهو السيناريو الذي لن يصب في مصلحة الغرب.