بين جرح الذاكرة وحب الغاز... كيف نقرأ زيارة ماكرون إلى الجزائر؟
بعد اندلاع الحرب الأوكرانية باتت الجزائر، وهي من بين أكبر 10 منتجين للغاز في العالم، محط اهتمام أوروبي شديد، بسبب رغبتهم في تقليل الاعتمادية على الغاز الروسي.

السياق
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصل الجزائر اليوم، بدعوة من رئيسها عبدالمجيد تبون. الزيارة -التي تستغرق ثلاثة أيام- تتزامن مع مرور 6 عقود على انتهاء "حرب الاستقلال".
وتأتي بعد نحو عام من توترات حادة شهدتها العلاقة بين البلدين، بسبب "ملف الذاكرة" إثر تصريحات ماكرون التي أثارت جدلًا مازال يتردد صداه عن حرب الاستقلال، وتشكيكه في وجود "أمة جزائرية" قبل الاستعمار الفرنسي، ما يؤكد أهمية دلالات التوقيت ودوافع الزيارة.
ومن عوائق الذاكرة إلى مستجدات أزمة الطاقة العالمية، يبدو أن تبون ونظيره لن يقفا على أعتاب توترات العام الماضي، وأن ملفات أخرى ستفرض نفسها على طاولة المباحثات بين القيادتين، منها الحرب في أوكرانيا، والغاز الجزائري، فضلًا عن ملفات الذاكرة والتأشيرات والأمن في منطقة الساحل وكذلك قضية الصحراء.
إلى ذلك يقول الدكتور حسني عبيدي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف لـ "السياق" إن زيارة الرئيس ماكرون هدفها الرئيس المساعدة في إذابة الجليد، لترميم ما وصفه بالعطب الكبير الذي أصاب العلاقة بين الدولتين.
قضية الذاكرة المعقّدة
منذ انتخابه عام 2017، لم يتوقف إيمانويل ماكرون، أول رئيس فرنسي وُلد بعد حرب استقلال الجزائر (1954-1962)، عن محاولة تطبيع العلاقات بين الشعبين.
وعزف ماكرون، عندما كان مرشحًا للانتخابات، على وتر حساس عندما وصف الاستعمار بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وقد ضاعف مذاك مبادراته في ملف الذاكرة.
لكن الجزائر أعربت عن أسفها لأن الرئيس الفرنسي لم يقدم "اعتذارًا" على 132 عامًا من الاستعمار الفرنسي.
بعد أشهر من التوتر، يرى إيمانويل ماكرون أن السلطات الجزائرية أنشأت "ريعًا لذاكرة" حرب الاستقلال للحفاظ على شرعيتها، وشكّك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار.
وتلقي هذه المسألة بثقلها أيضًا على السياسات الداخلية على ضفتي البحر المتوسط، إذ إن هناك سبعة ملايين فرنسي مرتبطون بالجزائر بطريقة أو بأخرى.
وأشار المؤرخ جيل مانسيرون على أثير إذاعة "فرانس إنفو" إلى أن "بين مستشاري إيمانويل ماركون، والقوى السياسية التي يعتمد عليها أو التي يأمل الحصول على دعم ضمني منها إلى حد ما، هناك وجهات نظر مختلفة". ولفت إلى وجود "حنين استعماري قوي" في صفوف أقصى اليمين، لكن أيضًا "لدى جزء من اليمين الفرنسي".
ملف شائك
بدوره، يرى حسني عبيدي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جينيف، أن ملف الذاكرة شائك بطبعه وصعب جدًا، مشيراً إلى أن الأولوية فيه يجب أن تعود إلى المؤرخين، والمجتمع المدني، ولذلك الرئيس ماكرون يصطحب معه العديد من الشخصيات النافذة في المجتمع المدني، سواء كانوا الفرنسيين أم الجزائريين.
وأوضح في مقابلة مع "السياق"، أنه حينما نمنح بُعدًا سياسيًا للتاريخ تصعب الأمور، وإدارة هذا الملف تصبح كذلك إدارة سياسية، مضيفًا أن الرئيس الفرنسي وصل إلى قناعة مفادها أن قضية الذاكرة وقضية تاريخ فرنسا الاستعماري، هما -قبل كل شيء- قضية فرنسية، ويرى عبيدي أنه يجب على فرنسا أن تعيد قراءتها للتاريخ، وتعترف بأنه ليس الرئيس ماكرون وليس أي رئيس فرنسي وإنما النظام الاستعماري الفرنسي اقترف جرائم بحق الجزائريين.
ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية أنه في الوقت ذاته وصلت الجزائر إلى هذه النقطة، وتجاوزت قضيتي الذاكرة والتاريخ، إذ يجب ألا تعدها في النهاية كابحة لتنمية علاقاتها بفرنسا، بالعكس كلما تطورت العلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني وكذلك الاستثمارات، سهلت الأمور من أجل إدارة سلسة وتفاهم في قضية مهمة مثل قضية الذاكرة.
روسيا وإيران
في ما يتعلق بملف العلاقات الجزائرية الاستراتيجية مع روسيا وإيران، يرى عبيدي أن وصف تلك العلاقات بالتحالفات خطأ كبير، لأن هناك تباينًا كبيرًا بين موسكو والجزائر في قضايا مهمة، مثلًا في قضية مالي، كذلك في قضية ليبيا إلى غير ذلك.
وأضاف "صحيح أن هناك علاقة تاريخية واستراتيجية بين روسيا والجزائر، والجزائر والصين، تمتد إلى سنوات الاستعمار والاستقلال، لكن ذلك لا يعني أن الجزائر تابعة لأي محور من المحاور.
ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية أن الجزائر تحتاج إلى شراكات كبرى، وبمصلحتها كذلك أن تنوع هذه الشراكات، مشيرًا إلى أن تخصيص الرئيس ماكرون ثلاثة أيام لهذه الزيارة، يعد مؤشرًا إيجابيًا على أن الجزائر منفتحة على العالم، وأنها شريك تجاري موثوق به، ويمكن أن تعتمد أوروبا عليه، سواء في الحاضر أم المستقبل.
الغاز... ورقة الجزائر الرابحة
بعد اندلاع الحرب الأوكرانية باتت الجزائر، وهي من بين أكبر 10 منتجين للغاز في العالم، محط اهتمام أوروبي شديد، بسبب رغبتهم في تقليل الاعتمادية على الغاز الروسي.
وحسب عبيدي فإن ألمانيا طلبت من الرئيس الفرنسي أن يتحدث عن قضية خط الغاز الذي بين يربط الجزائر وإسبانيا، الذي يمكن أن تستفيد منه برلين.
ورغم وجود خط الغاز الإيطالي فإن -والحديث للعبيدي- هناك إمكانية فرنسية للاستثمار وحتى التنقيب في حقول الغاز الجزائري، بسبب نفوذها هناك، فضلًا عن حاجة الجزائر إلى الخبرة والبحث عن حقول أخرى، لأن الغاز المتوافر لا يكفي السوق الداخلية، ولا يكفي لأسواق جديدة.
متاعب اقتصادية
إلى ذلك، نشرت وكالة فرانس برس تقريراً، أشارت فيه إلى أن باريس تواجه صعوبات اقتصادية في الجزائر بحصة من السوق تناهز 10 في المئة، وقد تجاوزتها الصين (16 في المئة) التي صارت المورد الأول للبلد الأكبر جغرافياً
كما أن شركة مطارات باريس خسرت إدارة مطار هواري بومدين، بينما خسرت مجموعة سويز الفرنسية إدارة شبكة المياه في الجزائر العاصمة، وفقدت شركة راتيبي باريس إدارة مترو الأنفاق الجزائري.
ملف التأشيرات
خفّضت باريس بنسبة 50 بالمئة عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، للضغط على حكومتي البلدين اللتين تعدهما غير متعاونتين في إعادة مواطنيهما المطرودين من فرنسا.
وشدد السفير الفرنسي الأسبق لدى الجزائر كزافييه درينكور على أن "تقليص عدد التأشيرات له تداعيات كبيرة في الجزائر، ويشكل ذلك ضغطًا على السلطة الجزائرية".
وتريد باريس والجزائر "المضي قدمًا" في هذا الملف، وفق الرئاسة الفرنسية التي تؤكد أنه منذ مارس 2022 أصدرت السلطات الجزائرية "300 تصريح (للعودة)، مقابل 17 خلال الفترة نفسها في 2021 و91 عام 2020".
بدوره، يرى عبيدي أن التأشيرات قضية فرنسا مع كل دول المغرب العربي، وحتى مع دول أخرى، وليس هناك فقط شق يخص الجزائر وفرنسا.
ويقول أستاذ العلاقات الدولية، إن وجود جيرالد دارمانان وزير الداخلية، الرجل القوي بالحكومة الفرنسية، الذي هو من أصول جزائرية، سيكون عاملًا مسهلًا لدراسة ملف التأشيرات، على الأقل أن تحسن فرنسا من الأداء القنصلي، وكذلك من صعوبة الشروط التعجيزية، لمنح التأشيرة للذين يحتاجونها، وأعتقد أن هذه كذلك مهمة بالنسبة للحكومة الجزائرية، التي ترى أن الندية مهمة في هذه الملفات.
المغرب والصحراء الغربية
وحسب "فرانس برس" قد تثير زيارة الرئيس ماكرون توترًا أو انتقادات من المغرب، المنافس الإقليمي الأكبر للجزائر، الذي شهدت علاقاته مع باريس برودة مؤخرًا، وفي المقابل، تريد الرباط أن تُظهر فرنسا دعمها "بشكل أوضح" لخطة الحكم الذاتي المغربية لتسوية نزاع الصحراء الغربية.
وقطعت الجزائر، الداعم الأبرز لجبهة بوليساريو، العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس 2021.
الساحل وليبيا... رهانات أمنيّة إقليميّة
حسني عبيدي أكد أنه من دون تعاون الجزائر يدرك الرئيس ماكرون صعوبة أي اختراق أمني في ملف الساحل وليبيا، مضيفًا أن الجزائر تؤدي دورًا مهمًا في مالي، التي انسحب منها الجيش الفرنسي، وتحافظ على "علاقات ممتازة" بالمجلس العسكري الحاكم في باماكو، مشيرًا أيضًا إلى "العلاقات المهمة" بين الجزائر ونيامي وغيرها من العواصم الإفريقية.