منصور لبكي.. قصة كاهن لبناني أدانته محكمة فرنسية بتهم اغتصاب واعتداءات جنسية
لبكي أقر بالاعتداء على ثلاث من الشاكيات، من أصل 17 مدعية قلن إنه اعتدى عليهن، بحسب نص الحكم الصادر عام 2012 من مجمع عقيدة الإيمان، لكنه تمسك بنفي باقي الاعتداءات المنسوبة إليه، قائلاً إن بعض تصرفاته كانت نابعة من عاطفة بريئة فُسِّرت خطأً كأفعال جنسية.

السياق
صورة ناصعة في أذهان محبيه، توازيها أخرى مرعبة، في شهادات مَنْ تقدَّمن للادعاء عليه والشهادة ضده على مر السنين في باريس، لتصدر محكمة فرنسية قرارها بإدانة الكاهن اللبناني منصور لبكي بالسجن 15 عاماً، وبإدراج اسمه في سجل مرتكبي الجرائم الجنسية.
قضت محكمة كالفادوس في منطقة كان الفرنسية (مقاطعة النورماندي شمالي البلاد)، قبل يومين، على الكاهن اللبناني بالسجن وإدراج اسمه في سجل مرتكبي الجرائم الجنسية، بعد إدانته بتهمتي اغتصاب واعتداء جنسي على ثلاث قاصرات، يعتقد أنها وقعت في بلدة دوفر لا ديليفراند الفرنسية وفي باريس، حيث أدار ميتماً بين عامي 1990 و1998.
وقالت المحكمة، التي أصدرت حُكمها غيابياً، إن مذكرة التوقيف الصادرة بحق لبكي عام 2016، ستبقى سارية المفعول.
تأتي محاكمة لبكي في فرنسا، بعد أسابيع من صدور تقرير اللجنة الفرنسية المستقلة، المعنية بالاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنيسة، أو ما عُرف بـ«لجنة سوفيه»، التي وثَّقت تعرُّض 216 ألف شخص في فرنسا لانتهاكات جنسية، حين كانوا قاصرين، من قِبل كهنة ورهبان وراهبات.
ويعد حُكم المحكمة الفرنسية، أول حُكم يدان به لبكي أمام قضاء جزائي في فرنسا، بعدما كان الحُكم الوحيد الصادر بحقه إدارياً كنسيًا، الصادر من مجمع عقيدة الإيمان عليه بالاعتداء الجنسي على ثلاث قاصرات عام 2012، وثُبّت بالاستئناف عام 2013.
وبينما جاء وقع الحُكم ثقيلاً على المدافعين عنه، الذين يرون فيه الأب الروحي، والأيقونة، المعروف بترانيمه التي تناقلتها الأجيال، بكتبه وعظاته وأعماله الخيرية، حل بردًا وسلامًا على ضحاياه اللاتي يرون فيه أنه سلب طفولتهن، وتسبَّب لهن بصدمات نفسية لم تندمل، رغم مرور عقود على حوادث الاعتداء.
لكن مَنْ هو منصور لبكي؟ وما الجديد في القضية؟ وما التهم الموجهة إليه وتاريخها؟ «السياق» تجيب عن تلك الأسئلة في هذا التقرير.
منصور لبكي
ولد لبكي عام 1940، في بلدة بعبدات المتن بلبنان، وسيم كاهنًا عام 1966 في الكنيسة المارونية، حيث تولى مهام عدة، وأخذ على عاتقه تجديد التراث الليتورجي من خلال ترانيمه.
عام 1976 شهد مجزرة الدامور ككاهن رعية البلدة الساحلية الواقعة في قضاء الشوق، التي تعد نقطة مهمة في ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، وتتهم بارتكابها فصائل فلسطينية، ليؤسس بعدها عدداً من المياتم بين لبنان وفرنسا.
عام 1990، أسس جمعية «لو تدحال» وتعني بالسريانية «لا تخف»، لينتقل بعدها إلى فرنسا، حيث أسس "بيت سيدة أطفال لبنان" في بلدة دوفر لا دليفراند في النورماندي، الذي أغلق أبوابه عام 1998.
أسس عام 2005، «بيت مريم» في بلدة لورد الفرنسية، كي يكون مقراً للبنانيين الراغبين في زيارة مزار سيدة لورد، أحد أبرز مواقع الحج الكاثوليكي في فرنسا والعالم، وعام 2013 ثبت مجمع عقيدة الإيمان حُكم إدانته بالاعتداء الجنسي على قاصرات، ليصدر عام 2016، مذكرة توقيف دولية تطلب من لبنان تسليمه للمحاكمة في فرنسا، إلا أن بيروت رفضت تسليمه.
عام 2021، أدين غيابياً بالسجن 15 عاماً أمام محكمة جزائية فرنسية، بتهم الاعتداء على قاصرات.
تهم لبكي
التهم الموجهة إلى لبكي، أمام محكمة كالفادوس في منطقة كان الفرنسية، تشمل اغتصابًا واعتداءً جنسيًا على ثلاث قاصرات، بينما تقول محامية المدعيات صولانج دوميك، إن القضية تضم شهادة نحو أربعين فرنسية ولبنانية – فرنسية، بينهن ثلاث مدعيات لم تسقط شكاواهن بمرور الزمن.
دوميك تقول إن أول الادعاءات المعروفة ضد لبكي، يعود إلى عام 1975، وآخرها يعود إلى عام 2005، بين لبنان وفرنسا، مشيرًا إلى أن المحاكمة الراهنة لن تطال إلا الادعاءات المحقق بها على الأراضي الفرنسية.
«أعمل على قضية منصور لبكي منذ عام 2013، حين تقدَّمت سيدة فرنسية بشكوى، أمام محكمة في كان، ضد الكاهن اللبناني الذي تقول إنه اغتصبها حين كانت في سن 13 عامًا».
تقول دوميك: بدأت الشكاوى الوصول إلى المرجعيات الأسقفية في فرنسا بدءاً عام 2011، ثم أحيلت إلى الفاتيكان للنظر فيها.
اعترافات لبكي
لبكي أقر بالاعتداء على ثلاث من الشاكيات، من أصل 17 مدعية قلن إنه اعتدى عليهن، بحسب نص الحكم الصادر عام 2012 من مجمع عقيدة الإيمان، لكنه تمسك بنفي باقي الاعتداءات المنسوبة إليه، قائلاً إن بعض تصرفاته كانت نابعة من عاطفة بريئة فُسِّرت خطأً كأفعال جنسية.
وشمل الحكم الصادر، إدانة بالاعتداء الجنسي على طفلة، بدأ في السابعة من عمرها وتواصل بين عامي 1990 و1996 على أقل تقدير، بحسب نص الحكم، وبالاعتداء الجنسي واغتصاب طفلة في الثالثة عشرة بين عامي 1996 و1997، وبالاعتداء الجنسي على طفلة في الرابعة عشرة عام 1976.
نص الحكم
يقول نص الحكم الصادر عن المجمع الفاتيكاني إنه، مع «مراعاة سن لبكي، حُكم عليه بعقوبة حياة من الصلاة والتكفير عن الذنب في مكان منعزل، مع حظر أي اتصال بالقاصرين، والحرمان من المناصب الكنسية كافة، ومن إحياء القداديس، ومن تقديم أي توجيه روحي أو المشاركة في أحداث عامة، أو التصريح لوسائل الإعلام أو الكلام مع الضحايا»، بحسب «بي بي سي»، التي قالت إن لبكي ينفذ حاليًا الحُكم الكنسي، في دير راهبات الصليب ببلدة برمانا اللبنانية (منطقة المتن).
وأشارت حيثيات الحكم الصادر عن الفاتيكان، إلى أن لبكي «يتمتع بشخصية كاريزمية، توحي بالأمان، ويبني روابط قوية مع الآخرين، ويعطيهم الانطباع بأنه قادر على تحريرهم من أعبائهم، وبأنهم مميزون، فينجذب إليه الناس فوراً، ويجدونه آسراً».
وبحسب حيثيات الحكم، فإن لبكي «يستخدم الضغط النفسي على ضحاياه، ويتلاعب بهنّ عقلياً وعاطفياً وروحياً، وحين تقع الضحية تحت تأثيره، لا يتردّد في استخدام سلطته المعنوية، والروحية، والدينية، لطلب خدمات جنسية، ما يفقد الضحايا أي قدرة على النقد الذاتي، وأي تقييم موضوعي للأحداث».
محامية المدعيات
دوميك تقول إن مجرد وصول لبكي إلى المحاكمة، حتى وإن كان غيابياً، فإنه «يعد نصراً للناجيات، لأنهن بلغن مرحلة المحاكمة أخيراً، بعد سنوات من الصبر والقلق والضغوط».
وتضيف دوميك، في تصريحات إلى «بي بي سي»: حين بدأت الضحايا الكلام عن تجاربهن، لم يصدقهن أحد، حتى أهلهن وأصدقائهن، قالوا عنهن مجنونات (..) نحارب منذ ثماني سنوات، لا من أجل المال ولا من أجل أي تعويض آخر، بل فقط من أجل موكلاتي، كي يستعدن كرامتهن، لأنهن جُرحن واغتُصبن وانتُهكن في قلوبهن كطفلات، وفي حياتهنّ كمراهقات».
لبنان يرفض تسليمه
كانت مذكرة توقيف دولية صدرت بحق لبكي عام 2016، للمثول أمام القضاء الفرنسي، لكن لبنان امتنع عن تسليمه.
ورغم صدور حكم، فإن القضاء اللبناني لم يتحرك لإجراء أي تحقيق في الادعاءات المساقة ضد لبكي.
وكانت وسائل إعلام لبنانية تداولت عام 2016، تصريحاً للبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، قال فيه إن «هناك تجنياً على لبكي، لكنه تراجع عن أقواله».
وقال المطران حنا علوان، المشرف على المحكمة المارونية الموحدة (وهي محكمة عليا، تشمل محاكم الأبرشيات المارونية كافة في لبنان)، إن الكنيسة المارونية محرجة أو تتهرب من قضايا التحرش الجنسي بالأطفال من قِبل رجال الدين.
ويتابع: «نحن نتبع البابا، رأس الكنيسة، والمشرع الأول، ونلتزم بتشريعات روما ونطبقها. طلب منا وضع قانون خاص بالتحرش بالقاصرين، وأنجزناه قبل أربع سنوات، ونعمل على تطبيقه. وفي كل مرة يصلنا خبر عن حالة من هذه الحالات، نتابعها حتى النهاية».
رد فعل الناجيات
المحامية صولانج دوميك، تقول إنه «قد يكون هناك المزيد من ضحايا منصور لبكي في لبنان، اللاتي لا يجرؤن على الحديث في الموضوع، خوفاً من الضغوط».
وحتى الآن، لم يتقدَّم بشكوى إلا مقيمات في الخارج، بينهن سيليست عقيقي، ابنة شقيقة منصور لبكي، التي مثلت أمام المحكمة في فرنسا كإحدى الشاهدات.
تقول سيليست، التي تعد قضيتها بين القضايا الثلاث المثبتة في حُكم مجمع عقيدة الإيمان في الفاتيكان، إن «المجمع أسقط مبدأ التقادم، لفداحة الأفعال التي ارتكبت بحقي (..) فحتى مع مرور وقت طويل على الحادثة، نظر المجمع الفاتيكاني إلى خطورتها، كونها تندرج في خانة السفاح».
وتضيف، أن الاعتداء الجنسي عليها، بدأ حين كانت في سن الـ14، وتزامن مع بداية الحرب في لبنان، قائلة: «كنت مجبرة على إخفاء الموضوع، صرت مثل الآلة، أخفي الحزن الذي يتملكني بابتسامة كاذبة. وحين كبرت، وهاجرت، صرت ألاحظ أنني أكره نفسي، وأن شعوراً بالعيب والعار يرافقني. كنت أشعر بوحدة داخلية رهيبة، وأوجه الحقد والغضب الذي كان يجب أن أوجهه للمعتدي، من دون علاج نفسي كنت سـأموت».
ورغم أن سيليست لم تخبر أحداً بالقصة، فإنها بعد مرور سنوات طويلة، وجدت الشجاعة لإخبار أحد شقيقيها، فلم يصدقها في البداية، نظراً لتأثره بلبكي كشخصية أبوية في حياته، لكنه بدأ يشك حين كثرت الشهادات.
تقول سيليست: «لو كانت شهادتي من أجل الشهرة أو المال، ما كنت انتظرت كل تلك السنوات، لكي أصبح جاهزة لمشاركة قصتي. لا يمكن لشيء أن يعوّضنا عن تبعات الهجوم الذي تعرَّضنا له فقط لأننا روينا ما حدث. لا مبلغ مالياً يمكن أن يغطّي الجريمة أو يمحوها. وليتها لم تكن شهرة، إن كان الناس سيعرفونني لأني ضحية منصور لبكي، كان من الأفضل لي أن أبقى غير معروفة».
وحامت الشكوك حول رواية المدعيات، بسبب انتظارهن سنوات طويلة، كي يروين قصصهن، إلا أن سيليست تقول: «كيف كان لي أن أروي قصتي، وأنا طفلة، وخالي ليس مجرد كاهن عادي، بل منصور لبكي. وحتى عندما كبرت، احتجت سنوات طويلة من العلاج النفسي لكي أجمع نفسي، وأستطيع الحديث بالموضوع، ولكي أفهم أنني لم أكن المذنبة، ولكي أكون قوية لمواجهة مَنْ قد يكذّبون أقوالي».