لبنان... معاناة مزدوجة للسجينات على وقع الانهيار الاقتصادي

منذ أكثر من ثمانية أشهر على توقيفها بقضية مرتبطة بالمخدرات، لم يصدر أي حكم بحقها، لكنها تقول إن ما تعانيه ورضيعتها أكبر عقاب.

لبنان... معاناة مزدوجة للسجينات على وقع الانهيار الاقتصادي

السياق

داخل زنزانة مكتظة، في سجن للنساء قرب بيروت، تجد نور نفسها عاجزة -معظم الأحيان- عن توفير حليب لرضيعتها وحفاض نظيف ومياه استحمام لا تؤذي بشرتها، في ظل ظروف احتجاز زادتها الأزمة الاقتصادية سوءاً.

فمنذ ولادتها قبل أربعة أشهر، لم يعاين أي طبيب طفلتها قمر التي تكبر مع رضيعين آخرين و21 سجينة في زنزانة متواضعة داخل سجن بعبدا المركزي للنساء، الأكثر اكتظاظاً بين سجون النساء الأربعة في لبنان.

وتقول نور (25 عاماً) التي غطت رأسها بشال أسود ولم تكشف وجهها المتعب أمام الكاميرا وهي تتحدث لوكالة فرانس برس، من داخل باحة خارجية في السجن، تعلو سقفها قضبان من الحديد وأسلاك شائكة: "الحليب غير موفّر لابنتي، وليس لدي حليب لإرضاعها".

وتضيف بينما تحمل ابنتها ذات العينين الخضراوين: "أتصل بأهلي ليحضروا الحليب، أحياناً ينقطع ثلاثة أيام"، في حين أن وصول أهلها إلى السجن ليس سهلاً مع ارتفاع تكلفة المواصلات، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان، منذ ثلاث سنوات.

لم توفر هذه التداعيات مع انهيار قيمة الليرة أي طبقة اجتماعية أو مرفق في لبنان، بما في ذلك إدارات السجون المكتظة، التي باتت عاجزة عن توفير أبسط احتياجات السجناء، وتعتمد إلى حدّ كبير على مساعدات من منظمات محلية وأجنبية.

وتوضح الأم الشابة بحسرة: "يمكن لأهلي أن يساعدوني في توفير واحد في المئة من احتياجات طفلتي فقط" مضيفة أنها تضطر أحياناً إلى أن تترك ابنتها تنام بحفاض غير نظيف حتى توفر الحفاضات من جديد.

قلق متزايد

تروي نور، كيف أنها كل مرة تريد أن تحمم رضيعتها تشعر بالقلق. وتقول: "أحسب ألف حساب، لأنني أخشى ظهور البثور على بشرتها، جراء عدم توفر مياه استحمام نظيفة".

وأضافت: "لولا أننا نحنّ على بعضنا، ويحنّ الناس علينا، لما كان بمقدور أطفالنا أن يعيشوا هنا".

ومنذ أكثر من ثمانية أشهر على توقيفها بقضية مرتبطة بالمخدرات، لم يصدر أي حكم بحقها، لكنها تقول إن ما تعانيه ورضيعتها أكبر عقاب، مضيفة: "كل واحدة منا تخطئ في الخارج، لكن العقاب الذي نتلقاه هنا مضاعف".

 

اشتقت لابنتي

في لبنان، تشهد السجون اكتظاظاً مع قرابة ثمانية آلاف سجين، أغلبيتهم لم تصدر أحكام بحقهم.

وبمعزل عن الأزمة الاقتصادية، تتسبّب البيروقراطية داخل النظام القضائي، بتأخير البتّ في القضايا المرفوعة وإصدار الأحكام النهائية.

وزاد إضراب ينفذه القضاة -منذ الصيف احتجاجاً على تدهور رواتبهم- الوضع سوءاً.

وخلال ورشة عمل عن واقع السجون والاحتياجات، في سبتمبر الماضي، رأى وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي أن "معاناة النزلاء في سجوننا مضاعفة جراء الأزمة الاقتصادية الراهنة".

وقال: "تضاف إلى الاكتظاظ معاناة الطبابة والاستشفاء، وكذلك الحاجة الملحة لصيانة المباني وآليات السوق والإسعاف"، عدا الحاجة إلى مصادر مستدامة للطاقة، في ظل انقطاع الكهرباء.

وتروي سجينات لـ "فرانس برس" بحضور مسؤولي السجن، ظروفًا معيشية صعبة، إذ يضطررن أحيانًا للانتظار ساعة قبل دخول الحمام الوحيد المخصص لزنزانة تضم 24 امرأة، ينمن على فرش مهترئة وغير نظيفة.

وعلى وقع الأزمة الاقتصادية، تضاءلت قدرة العائلات على دعم أفرادها في السجون وحتى زيارتهم.

ومنذ توقيفها قبل تسعة أشهر، لم تتمكن بشرى (28 عاماً) من رؤية ابنتها البالغة 13 عاماً.

وتقول لـ "فرانس برس" بينما تحاول حبس دموعها: "اشتقت لها"، مضيفة: "أمهات كثيرات يحتجن إلى رؤية أطفالهن، لا أنا فحسب".

وعلى غرار سجينات أخريات، تشتاق تاتيانا (32 عاماً) لوالدتها التي "تعمل بـ 50 ألف ليرة في اليوم (دولار تقريباً)، وبالكاد تؤمن إيجار منزلها"، وتسأل: "كيف بها أن تأتي لزيارتي؟".

وتضيف الشابة، التي تقبع في السجن منذ أكثر من ثلاث سنوات، من دون محاكمة: "نحتاج الأمور الأساسية: شامبو، مزيل روائح وثياب... هذا أقل ما نحتاجه، لكن أهلنا غير قادرين على تأمينها لأنفسهم، فكيف لهم أن يأتونا بأموال لشرائها؟".

تحديد الأولويات

يُشكل الاكتظاظ أبرز مآسي السجون اللبنانية الـ25، التي فاقت القدرة الاستيعابية فيها 323 في المئة، وفق تقديرات وزارة الداخلية.

ويقبع في سجن بعبدا للنساء 105 سجينات، تسعون في المئة من دون محاكمة، مقابل 80 قبل الأزمة، وفق ما تقول آمرة السجن النقيب نانسي إبراهيم، مشيرة إلى أن سبب ذلك غياب المحاكمات التي فاقمها إضراب القضاة.

وحال عقد المحاكمات، لا تتمكن السجينات أحياناً من الحضور ببساطة لعدم توفر الآليات أو الوقود أو العناصر، وفق ما تقول رنا يونس، العاملة في منظمة دار الأمل، التي تقدم مساعدات للسجون، من تأمين الحاجات الأساسية إلى تقديم استشارات قانونية للسجينات.

أمام تأزم الوضع في السجون، تعتمد إدارات السجون على مساعدات من منظمات غير حكومية. وتقول نانسي: "يؤمنون حصصاً غذائية وأدوية مفقودة في السوق واللقاحات للأطفال، ويتولون تصليح أعطال".

وتسأل السجينات عن حليب أطفال وحفاضات وثياب ولقاحات وفوط صحية وبدل زيارة المستشفيات وحاجات أخرى، وفق منظمة دار الأمل، التي تولت -العام الحالي- أعمال صيانة أنابيب المياه في سجن بعبدا.

وتقول مديرة المنظمة هدى قرى لـ "فرانس برس": "يصبح الوضع أسوأ كل شهر"، مشيرة إلى أن السجينات أحياناً يضطرّرن إلى استخدام قطع قماش بدلاً من الفوط الصحية.

وتضيف: "لم يعد الأهالي قادرين على زيارة أولادهم ولا شراء الحاجات الأساسية، والدولة غائبة، نحاول بدورنا أن نملأ الفراغ".