هل يمكن للمدن التكـيُّـف مع عصر الحرارة الشديدة؟
توجه جديد لمعرفة كيفية التصدي لتبعات الموجات الحارة

ترجمات - السياق
سلَّطت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، الضوء على ما سمتها "ظروفًا جوية متطرفة" تضرب أوروبا مؤخرًا، مشيرة إلى أنه خلال موجة الحر التاريخية هذه، تم تسجيل حرارة قياسية، في مناطق عِدة من القارة العجوز، منها تجاوز بعضها 45 درجة مئوية.
وبينت الصحيفة -في تقرير- أنه أمام ذلك، باتت المراكز الحضرية في جميع أنحاء أوروبا تبحث عن حلول، حيث تهدد درجات الحرارة القياسية في الصيف، بأن تصبح حدثًا سنويًا، متساءلة: "هل يمكن للمدن التكيُّف مع عصر الحرارة الشديدة؟".
وللإجابة عن هذا السؤال، ركزت الصحيفة على دراسة القرارات والإجراءات التي اتخذتها الدول والحكومات والخبراء لمعرفة أفضل الأساليب الممكنة للتكيُّف مع الموجات الحارة التي تضرب أوروبا للسنة الثانية على التوالي، وتفادي الكثير من أضرارها.
غير مسبوقة
رأت "فايننشال تايمز" أن الموجة الحارة غير المسبوقة، التي تعرضت لها أوروبا وأجزاء أخرى من العالم، في الأيام القليلة الماضية، أعادت إلى الذاكرة كيف كان القدماء -منذ آلاف السنين- يجتازون هذه الموجات من الطقس المتطرف، خصوصًا في العاصمة اليونانية أثينا، الأعلى من حيث درجة الحرارة.
وأوضحت الصحيفة أن الإغريق كانوا يتبعون أساليب للتغلب على درجة الحرارة، أبرزها زراعة الأشجار للاستفادة من الظل الطبيعي، وتصميم المنازل والمباني بصفة عامة، بحيث يتخللها الهواء ولا تتركز أشعة الشمس فيها بمساحات صغيرة.
وأشارت إلى أنه، بعد آلاف السنين، اعتمد أحفادهم على الأفكار نفسها لمواجهة الحر، إلا أن أثينا تغيرت وأصبحت عبارة عن امتداد حضري كثيف البناء، يعاني نقصًا كبيرًا في المساحات الخضراء، بينما يبحث مخططو المدن عن طرق لتوفير المزيد من الظل، مثل توسيع الأرصفة وزراعة الأشجار.
لكن حتى تلك الحلول أصبحت -وفق الصحيفة- تواجه تحديات في الحياة الحديثة التي نعيشها، فحين اجتمع المهندسون المعماريون ومسؤولو المدينة مؤخرًا، في محاولة لإيجاد حلول لمواجهة الحرارة الشديدة، اصطدموا بعوائق منها (كيف يمكن توفير أماكن لانتظار السيارات إذا تم تخصيص أراضٍ لصالح مساحات خضراء أكبر، وكيف يمكن التغلب على تركز السكان في المناطق الحضرية إلى جوار أعمالهم وغيرها من المنشآت).
وبينت الصحيفة، أنه بعد أسبوع من التهديد، الذي يشكله الطقس القاسي على الحياة الحضرية الحديثة، أصبحت المدن في جميع أنحاء أوروبا بحاجة ماسة لإيجاد حلول سريعة للخروج من هذا المأزق، مشيرة إلى أنه حتى الآن، اشتعلت النيران في أجزاء من غرب فرنسا والبرتغال وإسبانيا، حيث سجلت درجات حرارة قياسية.
وهذا الأسبوع، تجاوزت الحرارة في المملكة المتحدة 40 درجة مئوية لأول مرة، ما أدى إلى اندلاع حرائق الغابات وتوقف وسائل النقل العام.
وفي أثينا -التي عانت العام الماضي أشد موجات الحر- تم إخلاء مستشفى في ضواحي المدينة هذا الأسبوع، بسبب حرائق الغابات.
وحسب الصحيفة، يُظهر تغيُّر المناخ، أن موجات الحرارة الشديدة، من المرجح أن تصبح أكثر تواترًا وشدة على مستوى العالم.
مخاطر كبيرة
ورأت "فايننشال تايمز" أن مخاطر الطقس السيئ كبيرة، سواء بالنسبة للصحة العامة أم الاقتصاد، لافتة إلى أن شركة الاستشارات فيفيد إيكونوميك -الاقتصادات الحية- قدرت أن الولايات المتحدة وحدها -بحلول عام 2030- يمكن أن تخسر 200 مليار دولار سنويًا من انخفاض إنتاجية العمال بسبب الإجهاد الحراري.
بينما قدر تقرير للأمم المتحدة، أعده كبار علماء المناخ في العالم هذا العام، أنه بحلول عام 2050 من شأن "الإجهاد الحراري الحضري" أن يقلل قدرة الفرد على العمل بقرابة 20% في الأشهر الحارة.
وأشارت الصحيفة، إلى أنه رغم أن الحرارة الشديدة تغطي مناطق بأكملها، فإن المدن تشعر بها بشكل أكثر حدة بفضل ما يسمى تأثير جزيرة الحرارة الحضرية، حيث تمتص العديد من المواد التي تُصنع منها المباني والطرق -مثل القطران والخرسانة- الطاقة من أشعة الشمس وتحتفظ بها، ما يؤدي إلى تدفئة محيطها، إذ يظهر التأثير بشكل خاص في الليل، عندما يكون الفرق بين درجة الحرارة في مدينة وتلك الخاصة بالمساحات الخضراء المجاورة أكبر.
وأمام هذه التحديات، كشفت الصحيفة البريطانية، عن توجه جديد لمعرفة كيفية التصدي لتبعات الموجات الحارة، وبالفعل شهدت سبع مدن في أربع قارات تعيين "مسؤولين كبار للتعامل مع ارتفاع درجات الحرارة"، كما تأسست شبكة "درجة الحرارة 40" المكونة من مئة عمدة لمدن في جميع أنحاء العالم.
وأفادت بأنه بعد فصول الصيف المتتالية من الحرارة القياسية في أوروبا، تستعد البلديات لاتخاذ إجراءات -من التخطيط لبنية تحتية أكثر مرونة إلى إدخال أنظمة الإنذار المبكر- لمساعدة الجمهور في فهم المخاطر المرتبطة بالحرارة.
ومع ذلك -حسب الصحيفة- فإن تحصين البنية التحتية للمدن سيتكلف المليارات، فضلًا عن البيروقراطية المعقدة للتخطيط المحلي للتنقل، وهو ما يعني أن وتيرة التغيير ستكون بطيئة في وقت يتسارع فيه تغيُّر المناخ.
وأمام ذلك، نقلت الصحيفة عن رئيس بلدية أثينا كوستاس باكويانيس، قوله: "هناك دائمًا بيروقراطية تجعل الأمور أبطأ"، مضيفًا: "رغم أننا نعيش إرث الأزمة الاقتصادية، فإننا نحاول التحرك بأسرع ما يمكن".
واضطرت أماكن عدة في أوروبا إلى اللجوء لوضع الطوارئ هذا الصيف، للتعامل مع حرائق الغابات العنيفة -بما في ذلك لندن- حيث صدم مشهد الحرائق غير المسبوق، على أطراف العاصمة، المواطنين والعلماء.
ويقول توماس سميث، الأستاذ المساعد في الجغرافيا البيئية بكلية لندن للاقتصاد: "كانت الحرائق التي رأيناها في المملكة المتحدة شيئًا جديدًا، أصبحنا نعيش في طقس لم نكن نراه إلا في فرنسا وإسبانيا واليونان".
التخطيط للمستقبل
أمام هذه التحديات، نقلت "فايننشال تايمز" عن خبراء ومسؤولين تصورهم أن هناك ثلاثة مسارات ينبغي اتباعها في الوقت نفسه، حتى يتمكنوا من مساعدة المراكز الحضرية على الصمود في وجه الآثار المدمرة للموجات الحارة، هي الارتقاء بوعي الجماهير بالموجات الحارة وما يؤدي إليها وما يمكن أن ينتج عنها، والاستعداد لمواجهة تلك الظواهر الجوية المتطرفة من خلال تدابير احترازية وغيرها من الإجراءات، وإعادة تصميم المدن بحيث تكون أكثر صمودًا بما فيها من البنى التحتية أمام الحر الشديد.
وفي ذلك، يقول نايغل أرنيل، أستاذ علوم نظام المناخ في جامعة ريدينغ بالمملكة المتحدة: "الطريقة التي نتعامل بها مع موجات الحر في الوقت الحالي هي في الأساس تنفيذ خططنا للطوارئ، ومن ثمّ بدلاً من ذلك، تحتاج المدن إلى التأكد من أن التطورات الجديدة والبنية التحتية "مصممة على التعامل مع أي تطرف يحدث في الطقس".
بينما ترى إيليني ميرفيلي، كبيرة مسؤولي التدفئة في أثينا، أن الحل يأتي من خلال ثلاثة مسارات مهمة (زيادة الوعي، والاستعداد للحرارة الشديدة، وإعادة تصميم المدينة بشكل يتناسب مع تغيُّر المناخ).
وحسب الخبراء، فإن من الضروري تحديث البنى التحتية والمنازل وغيرها من المباني، بحيث تكون مؤهلة لتحمُّل درجات الحرارة بالغة الارتفاع، التي بدأت التسلل إلى أوروبا، بعد أن كانت -لقرون طويلة- لا تعرف الحر الشديد إلا فيما ندر، لكن أغلبية الحكومات، من بينها البريطانية، ترى أن تكلفة تحديث البنى التحتية مرتفعة للغاية، وقد تستغرق سنوات، وهو أيضًا ما يراه خبراء المناخ.
وحسب الصحيفة، حلل العلماء عقدين من بيانات الطقس في أثينا، مثل درجة الحرارة والرطوبة، إضافة إلى بيانات الوفيات، لتحديد الظروف التي من المرجح أن تؤدي إلى الوفاة بسبب الحر، ويمكنهم الآن تصنيف موجات الحر القادمة من واحد إلى ثلاثة، (الأشد، ودرجات حرارة قصوى، ومخاطر صحية كبيرة).
وبالمثل، أطلقت مدينة إشبيلية الإسبانية برنامجًا رائدًا لتسمية الموجات الحارة هذا الصيف، على غرار النظام القديم لتسمية العواصف والأعاصير.
ويسمح المخطط للسلطات العامة بالإبلاغ -بشكل أفضل- عن المخاطر المرتبطة بالحرارة، والاستجابة بشكل أكثر فعالية، بما في ذلك تحذير الناس مما هو قادم.
ونقلت الصحيفة عن كاثي بوغمان ماكليود، مديرة مؤسسة (أرشت روكفلر فاونديشن)، التي دعمت مشروع إشبيلية، قولها: تسمية موجات الحر أداة الحكومات لإنقاذ الأرواح من الحرارة الشديدة، مضيفة: "النظام يلفت الانتباه إلى مشكلة الحرارة ويوصل رسالة مفادها أن السلطات تقف أمامها".
بناء للحرارة
وبينت "فايننشال تايمز" أنه على المدى الطويل، ستحتاج مدن إلى تنفيذ تدابير أكثر تكلفة، إذا أرادت تعديل البنى التحتية لتتناسب مع التغيُّرات المناخية المتلاحقة.
ففي المملكة المتحدة -حسب الصحيفة- تسببت حرارة يوليو غير المسبوقة في فوضى بالمطارات والسكك الحديدية، حيث ارتفعت درجة حرارة مسارات القطارات في البلاد - التي لم يتم بناؤها للطقس الحار- واضطر مطار لوتون في لندن إلى إلغاء الرحلات الجوية، لأن الحرارة ألحقت أضرارًا بالمدرج.
وعلى الصعيد العالمي، كانت الحكومات غير مستعدة لهذه الأنواع من الاستثمارات، إذ ذكر تقرير المناخ الصادر عن الأمم المتحدة هذا العام أن قرابة 384 مليار دولار من "تمويل المناخ" تم استثمارها سنويًا بالمدن في السنوات الأخيرة ، أي نحو 10 في المئة مما هو مطلوب "للتنمية الحضرية منخفضة الكربون".
تمتلك بريطانيا أيضًا -حسب الصحيفة- أقدم مخزون من المساكن في أوروبا، حيث تم بناء واحد من كل خمسة مساكن قبل عام 1919.
أمام هذه التحديات، شددت لجنة التغيُّر المناخي في بريطانيا، على ضرورة وضع خطة تشترك فيها الحكومة المركزية مع السلطات المحلية، لوضع خطة لتحديث المنازل في المملكة المتحدة، التي يرجع الكثير منها إلى القرن التاسع عشر، إذ تعاني سوء العزل الذي يجعلها غير قادرة على تحمُّل درجات الحرارة ولا ترطيب الطقس داخلها بعض الشيء.
وبينت الصحيفة، أنه رغم أن أجهزة تكييف الهواء لا تزال بين الحلول المقترحة لمواجهة الحر، إلا أن هذا الخيار يعد غير صديق للبيئة، علاوة على استهلاكه الكثير من الطاقة وارتفاع تكلفة استخدامه إلى حدٍ كبير، بحيث لا يستطيع الكثيرون تحمُّل نفقات تشغيله.
لكن -حسب الصحيفة- "هناك بعض الطرق، التي رغم بساطتها، يمكن أن يؤدي الجمع بينها إلى إحداث فارق في تحمُّل درجات الحرارة بالغة الارتفاع، وتتضمن تلك الطرق التصميمات الذكية للمنازل، التي قد تتضمن تغطية زجاج النوافذ، واستخدام الستائر، وزراعة الأشجار للحصول على ظل طبيعي، ووجود مساحات خضراء ومياه في الشوارع لتخفيف حدة الحرارة".
وأشارت إلى أن هذه التعديلات منخفضة التكلفة، ضرورية في البلدان النامية القريبة من خط الاستواء، حيث أصبحت الحرارة الشديدة بالفعل أكثر وحشية.
ومن هذه الحلول، قدمت يوغينيا كارغبو، التي عُينت العام الماضي كبيرة مسؤولي الحرارة في فريتاون بسيراليون، مظلات خفيفة الوزن من البولي كربونات، لتظلل على التجار بالسوق أثناء وجودهم في الهواء الطلق، وتخطط لرسم خريطة للحرارة في المدينة، لتحديد المناطق الساخنة.
أما أثينا، فتأمل إحياء جزء من ماضيها، للمساعدة في تخفيف حدة الحاضر، من خلال (قناة أثينا) تحت الأرض، التي اكتملت عام 140 بعد الميلاد وكانت مصدرًا رئيسًا للمياه لوسط المدينة، أواخر ستينيات القرن الماضي.
وتأمل شركة إمدادات المياه والصرف الصحي في أثينا "إيداب"، استخدام 20 بئرًا في المدينة، واستخدام المياه لأغراض غير صالحة للشرب، مثل ري الأشجار المزروعة حديثًا.
وتقدر الشركة أن أعمال تجديد الشبكة ستكلف قرابة 9 ملايين يورو ، تأمل أن تدفعها الصناديق الهيكلية والاستثمارية في الاتحاد الأوروبي، وأن تكتمل بحلول عام 2027.
يبلغ طول القناة، التي لا تزال تحتوي على بعض القرميد الروماني الأصلي، نحو 25 كيلومترًا وتمتد من منطقة جبلية قريبة إلى وسط أثينا.