كاتب أمريكي يتساءل: هل أعادت أمريكا تشكيل سياسات الشرق الأوسط أم بدأت تقليدها؟

يتساءل الكاتب: ما الذي يفسِّـر هذا التحول من التعددية التقليدية إلى النزعة القبلية الوحشية في الولايات المتحدة، وعدد من الديمقراطيات الأخرى؟

كاتب أمريكي يتساءل: هل أعادت أمريكا تشكيل سياسات الشرق الأوسط أم بدأت تقليدها؟

ترجمات – السياق

في يوم من الأيام، بعد ألف عام من الآن، عندما يراجع علماء الآثار معالم هذه الحقبة، لا شك في أنهم سيتساءلون، كيف أن قوة عظمى -مثل الولايات المتحدة- شرعت في تحويل الشرق الأوسط إلى نسخة منها، عبر تبني مبادئ التعددية وحُكم القانون، لكن انتهى بها الأمر بالتحول إلى نسخة قريبة من الشرق الأوسط، فباتت تقلِّد أسوأ العادات القبلية، وتضيف مستوى غير مسبوق من الفوضى إلى سياستها الوطنية، بحسب الكاتب الأمريكي توماس فريدمان.

وأضاف فريدمان، في مقال بصحيفة نيويورك تايمز: "قد يطلق الشرق أوسطيون على قبائلهم الكبيرة "السُّنة" و"الشِّيعة"، وقد يطلق الأمريكيون على قبائلهم "الديمقراطيين" و "الجمهوريين" ، لكن يبدو أن كلًا منهم يعمل بشكل متزايد وفق عقلية ملتزمة".

وقال: رغم أن مستويات الشدة مختلفة، فقد تسارعت القبلية الجمهورية -المتطرفة إلى حد كبير- مع ظهور الحزب الجمهوري، إذ أصبحت القبيلة تحت سيطرة قاعدة من المسيحيين البيض، الذين كانوا يخشون أن يتآكل تفوقهم، الذي طال أمده في هيكل السُّلطة الأمريكية، بسبب التغيير السريع للأعراف الاجتماعية، وتوسيع نطاق الهجرة والعولمة، ما يجعلهم يشعرون بأنهم لم يعودوا "في وطنهم" كما كانوا.

وتابع: للإشارة إلى ذلك، تمسَّكوا بدونالد ترامب، الذي أعطى صوتًا متحمسًا لأشد مخاوفهم القبلية القاسية، التي أدت إلى تصعيد سعي اليمين لحُكم الأقلية، وذلك لا يعني فقط دفع التلاعب المعتاد في الدوائر الانتخابية، لكن أيضًا الترويج لنظريات المؤامرة في انتخابات 2020، وإقرار قوانين قمع الناخبين الأكثر صرامة، واستبدال قرصنة قبلية جاهزة لخرق القواعد بمنظمي التصويت في الولاية المحايدين.

واستطرد فريدمان: "لأن فصيل ترامب هذا سيطر على القاعدة، فقد سار حتى الجمهوريون -ذوو المبادئ في الغالب- في الركب، واعتنقوا الفلسفة الأساسية، التي تهيمن على السياسات القبلية في أفغانستان والعالم العربي، وهي الفلسفة التي تقول: "الآخر هو العدو ، وليس مواطنًا مثلنا، والخياران الوحيدان هما: إما أن نحكم وإما أن ننزع شرعية النتائج".

 

هوس الديمقراطيين

 

وينتقل فريدمان إلى انتقاد الحزب الديمقراطي، ويقول: "إن علماء الآثار سيلاحظون أيضًا أن الديمقراطيين أظهروا نوعًا من الهوس القبلي الخاص بهم، مثل التفكير الجماعي القوي للتقدُّميين في الجامعات الأمريكية في القرن الحادي والعشرين"، مشيرًا إلى أنه على وجه الخصوص، كان هناك دليل على "إلغاء" الأساتذة والإداريين والطلاب، إما إسكاتهم وإما طردهم من الحرم الجامعي، للتعبير عن وِجهات نظر غير ملتزمة أو محافظة بشكل معتدل، بشأن السياسة أو العِرق أو الجنس أو الهوية الجنسية، معتبرًا أن ما سماه انتشار وباء الاستقامة السياسية القبلية من اليسار، أدى إلى تنشيط التضامن القبلي على اليمين.

ويتساءل الكاتب: ما الذي يفسِّـر هذا التحول من التعددية التقليدية إلى النزعة القبلية الوحشية في الولايات المتحدة، وعدد من الديمقراطيات الأخرى؟

ويجيب: باختصار، زادت صعوبة الحفاظ على الديمقراطية، لأن شبكات التواصل الاجتماعي تؤجِّج الانقسامات بين الناس، وتترسَّخ هذه الظاهرة أيضاً بسبب العولمة، والتغيُّر المناخي، والحرب على الإرهاب، وتوسع الفجوة بين المداخيل، وتسارع الابتكارات التكنولوجية الكفيلة بتغيير طبيعة الوظائف، مشيرًا إلى أن ذلك كله يضاف له أيضًا تفشي وباء كورونا خلال الفترة الأخيرة.

ويضيف: في رأي عدد متزايد من القادة المنتخَبين ديمقراطياً في العالم، أن من الأسهل حشد الدعم المطلوب عبر الدعوات القبلية، التي تركز على الهوية، بدل بذل جهود شاقة لبناء تحالفات معينة، وعقد التسويات في المجتمعات التعددية، خلال هذه الظروف المعقَّدة.

 

الهوية القبلية

ويعود فريدمان ليؤكد أن كل ما سبق، إنما يكون إرهاصات لهوية قبلية، قائلًا: "في ظروف مماثلة، تتحول جميع مظاهر الحياة لمؤشر إلى الهوية القبلية (وضع الأقنعة خلال الوباء، وتلقي لقاحات ضد فيروس كورونا والتغيُّر المناخي...).

في المقابل، يتراجع التركيز على المصلحة العامة، وتتلاشى -نهاية المطاف- القواسم المشتركة، التي تسمح بتغيير المسار المعتمد لتحقيق أصعب الأهداف، مشيرًا إلى أنه في الماضي، تكثَّفت الجهود المشتركة لإيصال أول إنسان إلى القمر، أما اليوم، فبصعوبة نستطيع الاتفاق على إصلاح الجسور المحطّمة...!

واستدل الكاتب الأمريكي بما يحدث في العراق، وقال: "خلال رحلة إلى العراق عام 2005، أجريت مقابلة مع مصطفى أحنصال، وهو بحار أمريكي مغربي عمل مترجمًا للغة العربية على السفن الأمريكية... قال لي: "في المرة الأولى التي ركبت فيها قاربًا، كان لدينا ستة أو سبعة أشخاص -شخص من أصل إسباني، وآخر أسود، وشخص أبيض، وامرأة في وحدتنا، وفجأة قال لي أحد البحارة العراقيين: "اعتقدت أن كل الأمريكيين من البيض"، ثم سألني أحدهم: "هل أنت في الجيش؟" لقد صدمتهم في الواقع".

ويضيف فريدمان: "أخبرني أحنصال أن ضابطًا في خفر السواحل العراقي، أعرب له ذات مرة عن دهشته لأن الناس من مختلف الأديان والأعراق، يمكن أن ينتجوا مثل هذا البحرية القوية في الولايات المتحدة، بينما "نحن هنا نقاتل في الشمال والجنوب، وكلنا أبناء عمومة وإخوة"...!

 

حِس القيادة

ويكمل فريدمان، مقاله بتأكيد أهمية وضرورة حِس القيادة، قائلًا: إن الشعب الأمريكي يتسم بالتنوع بقدر الجيش الأمريكي، لكن مظاهر التعددية والعمل الجماعي، التي يتمتع بها الرجال والنساء في الجيش، تضعف الانقسامات القبلية في صفوف القوات المسلحة، معتبرًا أن هذا الوضع ليس مثالياً، لكنه حقيقي، إذ تحتل القيادة الأخلاقية -المبنية على التعددية المبدئية- أهمية كبرى.

مشيرًا إلى أن الجيش الأمريكي آخر مَنْ يرفع راية التعددية، في زمن يفضِّل فيه عدد متزايد من السياسيين المدنيين، النزعة القبلية الرخيصة، وقال إن أكثر ما يثير الرعب، هو حجم تأثير عدوى القبلية على عدد من أكثر الديمقراطيات حيوية وتنوعاً في العالم، منها الهند وإسرائيل، وحتى البرازيل والمجر وبولندا.

وينتقل فريدمان، للحديث عن التجربة الهندية التي يصفها بالحزينة، قائلًا: تعد تجربة الهند تحديداً مؤسفة بمعنى الكلمة، لأن التعددية الهندية، بعد هجمات 11 سبتمبر، كانت أهم نموذج يدعونا إلى عدم اعتبار الإسلام بحد ذاته، مسؤولاً عن تحريض الإسلاميين في تنظيم القاعدة، إذ كان كل شيء يتوقف حينها على السياق السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي يترسخ فيه الإسلام أو أي دين آخر.

وأشار إلى أنه حين يكون الإسلام راسخاً في مجتمع تعددي وديمقراطي، يمكنه أن يزدهر كما يحصل مع أي ديانة أخرى، موضحًا أن الهند تضم أغلبية هندوسية كبيرة، لكنها شملت رؤساء مسلمين، وعيَّنت مسلمة في محكمتها العليا، كذلك تم تعيين مسلمين، منهم عدد من النساء، حُكامًا لبعض الولايات الهندية، وكان المسلمون من أنجح رجال الأعمال في البلد.

لكن -يضيف فريدمان- بدأت النزعة القومية الهندية، التي ترتكز على التعددية، تضعف اليوم للأسف بسبب الهندوس المتعصبين في حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، إذ ينوي هذا الحزب -على ما يبدو- تحويل الهند العلمانية إلى «باكستان الهندوسية»، كما قال المؤرخ الهندي البارز راماشاندرا جوها يوماً.

ويختم الكاتب الأمريكي الشهير بالقول: ما كان يمكن أن تصاب الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم بفيروس القبلية، في وقت أسوأ من هذا العصر، فقد أصبحت جميع المجتمعات والشركات والدول، مضطرة للتكيف مع التغيُّرات التكنولوجية المتسارعة ومظاهر العولمة والتغيُّر المناخي، ومن ثم لا يمكن تحقيق هذا الهدف داخل الدول وبينها، إلا عبر رفع مستوى التعاون بين الشركات والنقابات والمعلمين ورواد الأعمال الاجتماعية والحكومات، بدل الاتكال على مبدأ «أنا أو لا أحد»، أو فرض خيارات لا بديل لها، مؤكدًا أننا: "بحاجة إلى إيجاد الترياق لهذه القبلية بسرعة، وإلا سيكون المستقبل قاتماً للديمقراطيات في العالم".