منح الشعر حريته وأماتته كلمة... 40 عامًا على رحيل صلاح عبدالصبور

في مثل هذا اليوم، 13أغسطس 1981 غادر دنيانا، تاركًا إرثًا ثقافيًا وأدبيًا لا يقدَّر بثمن، بينما تتأهب الهيئات الثقافية في مصر والوطن العربي، للاحتفاء بمرور 40 عامًا على رحيله، بتنظيم المسابقات الشعرية، وعقد ندوات نقدية تناقش مؤلفاته، وتقديم خصومات مادية، على أعماله المطبوعة.

منح الشعر حريته وأماتته كلمة... 40 عامًا على رحيل صلاح عبدالصبور

السياق


التاجر: انظر ماذا وضعوا في سكتنا،
الفلاح: شيخ مصلوب... ما أغرب ما نلقى اليوم
الواعظ: يبدو كالغارق في النوم
التاجر: عيناه تنسكبان على صدره، وكأن دنياه ثقلت على جفنيه، أو غلبته الأيام على أمره
التاجر: فحن الجذع الموجود، وحدق في الترب
الواعظ: ليفتش في موطئ قدميه عن قبره، أجعلها في الجمعة المقبلة موعظتي في مسجد المنصور

بهذه الجمل، يبدأ صلاح عبد الصبور المولود عام 1931، في دلتا مصر رائعته الخالدة "مأساة الحلاج" وبها يسدل الستار على مرحلة جديدة من الشعر المسرحي.  

وحسب نُقّاد، تناولوا عبدالصبور وأعماله على مدى عقود، فإن المسرحية الشعرية العربية، اكتمل بناؤها ونضج متنها، وتحدَّد هدفها، على يد عبدالصبور، وذلك على غير ما أنتجه أمير الشعراء أحمد شوقي والشاعر المبدع عزيز أباظة.

ورغم روعة أعمالهم المسرحية، فإنها غلب عليها الطابع الغنائي، الذي يأتي باللفظ ووزنه وقافيته ونغمته على حساب التجربة، ورصد الواقع والمتغيرات والقضايا الحياتية، وسلاسة الحكاية الشعرية، ورسم شخصيات الأبطال، وهو ما برع فيه صاحب "مأساة الحلاج".
وفي مقال لجريدة الأهرام المصرية، تحدَّث نقاد عن أن عبدالصبور من شعراء العرب النادرين، الذين تجاوزت أعمالهم المسرحية مرحلة المونولوجات والحوارات، إلى المسرح بخواصه، لكن صياغته شعراً لا نثراً.

وفي هذا التقرير، نعرج على المحطات الرئيسة في حياة صلاح عبدالصبور وملابسات وفاته، فضلًا عن التناول النقدي لأشهر أعماله "مأساة الحلاج".

 

زنديق كافر...!

تبدأ المسرحية الشعرية، بآخر مشهد عرفه العالم عن الشاعر الصوفي-العباسي- الحسين بن منصور الحلاج، وهو إعدامه بتهم سياسية ودينية، ويحكي حالة الشغف والفضول، التي اجتاحت العامة وقت رؤيتهم جثة الحلاج، ويحكي صلاح عبدالصبور على لسان قاتلي الحلاج:
صفونا.. صفًا.. صفًا، الأجهر صوتًا والأطول، وضعوه في الصف الأول. أما ذو الصوت الخافت والمتواني، فوضعوه في الصف الثاني، أعطوا كلًا منا دينارًا من ذهب قانٍ، براقًا لم تلمسه كف من قبل.
 قالوا: صيحوا زنديق كافر، صحنا: زنديق كافر  

وتتناول المسرحية، جانبًا من سيرة أحد رواد الصوفية، الذي وُلد منتصف القرن الثالث الهجري، لكن عبدالصبور لم يرصد حياة الحلاج، كما ذكرتها كتب التاريخ، وإنما استلهم ما يخدم نصه الشعري.
فقدَّمه على أنه شاعر رقيق، متصوف زاهد، سلاحه القلم لا السيف، راح يبث أفكاره الإصلاحية، متحيِّــزاً إلى الفقراء، وهو ما عرَّضه إلى اتهامات ومحاكمات، إلى أن تم اتهامه بالزندقة وحوكم بشكل صوري، وسُجن وأعدم بطريقة بشعة.
يرى نقاد، أن مأساة الحلاج -كما وصفها صلاح عبدالصبور- مأساة الإنسان في كل زمان ومكان، الحاكم والعالِم، والظالم الذي لا يحكمه شرع ولا دين ولا مبدأ، والجاهل والمغلوب على أمره والمنساق.
وفي النص المسرحي، تمكن ببراعة من أن يسقط التاريخ على الواقع، فناقش فيها قضايا العدالة الاجتماعية، والحق الإنساني في حياة كريمة، وأزمة المثقف بشكل عام -انطلاقا من كون الحجاج شاعرًا- في مجتمع تحكمه القوة الحديدية الجاهلة، لا الحرية التي يوجِّهها الضمير.

 

منجزات ومؤلفات

في مثل هذا اليوم، 13أغسطس 1981 غادر دنيانا، تاركًا إرثًا ثقافيًا وأدبيًا لا يقدَّر بثمن، بينما تتأهب الهيئات الثقافية في مصر والوطن العربي، للاحتفاء بمرور 40 عامًا على رحيله، بتنظيم المسابقات الشعرية، وعقد ندوات نقدية تناقش مؤلفاته، وتقديم خصومات مادية، على أعماله المطبوعة.
غير مأساة الحلاج، كتب عبدالصبور أربع مسرحيات شعرية: مسافر ليل (1968)، والأميرة تنتظر (1969)، وليلى والمجنون (1971)، وبعد أن يموت الملك" 1975".

كما أنتج خلال تجربته الأدبية، التي استمرت قرابة ثلاثين عامًا 6 دواوين شعرية أولها «الناس في بلادي» 1957، وآخرها «الإبحار في الذاكرة» 1977، وبينهما «أقول لكم» 1961، «أحلام الفارس القديم» 1964، «تأملات في زمن جريح» 1970، و«شجر الليل» 1973.

وحصل على جائزة الدولة التشجيعية، عن مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج" عام 1966، وحصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982، والدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا في العام نفسه، والدكتوراه الفخرية من جامعة بغداد.

 

كلمة أماتته

تحكي سميحة غالب، زوجة الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور، في حوار صحفي عن تفاصيل الليلة الأخيرة في حياته، وأن غضبًا قويًا داهم قلبه، بعد أن قال له صديق في جلسة جمعتهما: "لقد بعت نفسك بمليم"، فأصابته جلطة في الشريان التاجي، أودت بحياته.
وتقول زوجة الشاعر الراحل: كانت الكلمة طعنة غادرة في ظهر صلاح، طمست الحقائق ووجَّهت اتهامات باطلة له، وتمالك صلاح نفسه ورد على صديقه الذي اتهمه، الرسام بهجت عثمان: كيف بعت نفسي؟ ولمن؟ وبأي ثمن بعت نفسي؟

وخرج صلاح عبدالصبور إلى الطريق، طلبًا للهواء النقي لعله يشفيه من الطعنة الغادرة، وخرج خلفه أحمد حجازي، وجابر عصفور، وبعد أكثر من ساعة عادا ليقولا لي إن صلاح في غرفة الإنعاش بالمستشفى، وفارق الحياة بعد دقائق قليلة.

وكان ذلك على هامش حالة من الجدل، عصفت بالمشهد الثقافي المصري، إثر مشاركة وفد إسرائيلي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، عام1981 إذ فتحت المعرض السيدة جيهان السادات وكان وزير الثقافة وقتها منصور حسن، وكان عبدالصبور رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب.

 

السهرة القاتلة

ويحكي الكاتب أحمد عبد المعطي حجازي، حيث كانوا في منزله، للاحتفاء بعيد ميلاد ابنته، وكان يرافقهما الشاعر أمل دنقل والناقد جابر عصفور والرسام بهجت عثمان: حدثت السهرة كما تحدث سهرة عيد الميلاد... احتفال وغناء ورقص، وبعد ذلك جاء انتقاد واتهام بهجت عثمان لصلاح عبدالصبور بلهجة قاسية، وبعد دقائق شعر صلاح بأنه متعب، وطلب أن نخرج لكي يشم الهواء المنعش، لكن إحساسه بالتعب ازداد، فحملناه بالسيارة إلى المستشفى القريب جدًا من بيتي، وفيه توفي على يدي، بعد خمس دقائق من وصولنا.