فرنسا تستدعي سفيريها في أمريكا وأستراليا... فما الذي أغضبها؟

القصة بدأت بإعلان الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، عقد شراكة أمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، تساعد استراليا في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية الأمريكية، ما من شأنه إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية مع كانبرا الموقَّعة قبل 5 أعوام بـ 40 مليار دولار.

فرنسا تستدعي سفيريها في أمريكا وأستراليا... فما الذي أغضبها؟

السياق

«طعنة في الظهر»، توصيف فرنسي، كان أوقع تعبير عن غضب باريس من إبرام الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، اتفاقية أمنية تاريخية، تمنح واشنطن ولندن بموجبها، تكنولوجيا ضرورية لكانبرا، لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية.

إلا أن الاتفاقية، التي ينظر إليها على أنها محاولة لمواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي، أغضبت باريس، ودفعتها إلى الانغماس في أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع الولايات المتحدة واستراليا، بعد أن استدعت سفراءها من البلدين.

لكن مالذي أغضب فرنسا إلى هذا الحد؟ وما قصة الاتفاقية الأمنية؟ وما أهميتها بالنسبة لاستراليا وفرنسا؟ وإلى أين تصل الأزمة الحالية؟ «السياق» تجيب عن تلك الأسئلة في هذا التقرير.

القصة بدأت بإعلان الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، عقد شراكة أمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، تساعد استراليا في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية الأمريكية، ما من شأنه إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية مع كانبرا الموقَّعة قبل 5 أعوام بـ 40 مليار دولار.

الشراكة الجديدة أعلنت باسم «أوكوس»، خلال مؤتمر صحفي مشترك عن بُعد بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ونظيره الاسترالي سكوت موريسون.

وقالت استراليا، إنها ستلغي صفقة بـ 40 مليار دولار وُقِّعت عام 2016 لمجموعة نافال الفرنسية، لبناء أسطول من الغواصات التقليدية، وستبني بدلاً من ذلك ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية على الأقل، باستخدام التكنولوجيا الأمريكية والبريطانية، بعد شراكة أمنية ثلاثية، بحسب وكالة رويترز.

وستصبح استراليا، بفضل الاتفاقية، الدولة السابعة في العالم، التي تستخدم غواصات تعمل بالطاقة النووية، وسيتشارك بموجبها الحلفاء، القدرات الإلكترونية والذكاء الصناعي، وتقنيات أخرى تحت سطح البحر.

وستشارك أمريكا تكنولوجيا الغواصات الخاصة بها لأول مرة منذ 50 عامًا، بعد أن شاركتها مع بريطانيا فقط، ما يعني أن استراليا ستكون قادرة على بناء غواصات أسرع تعمل بالطاقة النووية، يصعب اكتشافها من خلال الأساطيل البحرية، التي تعمل بالطاقة التقليدية، وبإمكانها أن تظل في المياه لأشهر، فضلًا عن قدرتها على إطلاق صواريخ لمسافات أطول.

 

غضب فرنسي

الإعلان الثلاثي أغضب فرنسا، فاتهمت الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ«طعنها في ظهرها» والتصرف مثل سلفه دونالد ترامب، بعد استبعاد باريس من عقد تصدير دفاعي تاريخي، لتزويد استراليا بغواصات.

وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لـ«راديو فرانس انفو»: «هذا القرار الوحشي والأحادي الجانب، الذي لا يمكن التنبؤ به، يذكرني بما كان ترامب يفعله(..) أنا غاضب وأشعر بالمرارة... هذا لا يحدث بين الحلفاء».

وعام 2016، اختارت استراليا شركة بناء السفن الفرنسية Naval Group لبناء أسطول غواصات جديد بـ 40 مليار دولار، لتحل محل غواصات Collins التي مضى عليها أكثر من عقدين.

وقبل أسبوعين فقط، أعاد وزيرا الدفاع والخارجية الأستراليان، تأكيد الصفقة لفرنسا، بينما أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعقود من التعاون المستقبلي، عندما استضاف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون في يونيو.

 

طعنة في الظهر

المفاجأة أغضبت فرنسا، إلى حد دفع لودريان إلى القول: «إنها طعنة في الظهر(..) أنشأنا علاقة ثقة مع أستراليا وانهارت تلك الثقة».

وقالت السفارة الفرنسية في واشنطن، إنها ألغت حفلًا خاصًا بالعلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا، بعد الأحداث الأخيرة.

وفي محاولة لتهدئة الغضب الفرنسي، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين الخميس، إن فرنسا شريك حيوي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مشيرًا إلى أن واشنطن ستواصل التعاون مع باريس.

إلا أن مسؤولًا فرنسيًا، قال إنه لم يتم إبلاغهم بالاتفاق، إلا قبل ساعات قليلة من إعلانه، مشيرًا إلى أن باريس لن تنخدع بالكلمات «التافهة».

 

تصعيد فرنسي

وفي تصعيد للغضب الفرنسي، أعلنت باريس استدعاء سفرائها من أستراليا وأمريكا، في قرار قال عنه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إن «القرار النادر الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، جاء بسبب الخطورة الاستثنائية للأمر».

وقال لو دريان، إن الصفقة غير مقبولة، مشيرًا إلى أن «إلغاء المشروع... وإعلان شراكة جديدة مع الولايات المتحدة، بهدف إطلاق دراسات عن تعاون محتمل في المستقبل، بشأن الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، يشكلان سلوكًــا غير مقبول بين الحلفاء والشركاء».

وأضاف المسؤول الفرنسي، أن العواقب «تؤثر بشكل مباشر في الرؤية التي لدينا، لتحالفاتنا وشراكاتنا وأهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ لأوروبا».

وبينما لم يشر بيان الخارجية الفرنسية إلى بريطانيا، قال مصدر دبلوماسي لوكالة رويترز، إن فرنسا ترى أن بريطانيا انضمت إلى الاتفاق بطريقة انتهازية.

وأضاف المصدر: «لسنا بحاجة إلى إجراء مشاورات مع سفيرنا البريطاني، لمعرفة ما يجب فعله أو استخلاص أي استنتاجات».

وقال مصدر دبلوماسي في فرنسا، إن هذه هي المرة الأولى التي تستدعي فيها باريس سفراءها بهذه الطريقة.

 

أستراليا تأسف

القرار الفرنسي، عبَّـرت أستراليا عن أسفها منه، مشيرة إلى أنها تقدِّر العلاقة مع فرنسا، وستواصل مع باريس بشأن قضايا أخرى.

ورفض رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، الانتقادات الفرنسية القائلة إنه لم يتم تحذيرها بشأن الصفقة الجديدة، قائلًا إنه أثار احتمالًا -في محادثات مع الرئيس الفرنسي- بأن أستراليا قد تلغي صفقة المجموعة البحرية.

وأصر موريسون على أنه أبلغ ماكرون في يونيو الماضي، على أن أستراليا راجعت تفكيرها، قائلًا: «أوضحت الأمر للغاية، لقد تناولنا عشاءً مطولًا في باريس، بشأن مخاوفنا البالغة من قدرات الغواصات التقليدية، للتعامل مع البيئة الاستراتيجية الجديدة التي نواجهها»، مشيرًا إلى أنه أوضح «أن هذه مسألة ستحتاج أستراليا لاتخاذ قرار بشأنها، بما يخدم مصلحتنا الوطنية».

وقال موريسون إن أستراليا تتطلع إلى مواصلة العمل «بشكل وثيق وإيجابي» مع فرنسا، مضيفًا أن «فرنسا صديق وشريك رئيس لأستراليا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ».

وقالت المتحدِّثة باسم وزيرة الخارجية ماريس باين -في بيان- إن «أستراليا تتفهم خيبة أمل فرنسا العميقة من قرارنا، الذي تم اتخاذه بما يتفق مع مصالح الأمن القومي الواضحة والمُعلنة».

من جانبه، قال المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، إن فرنسا «حليف حيوي»، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة ستشارك في الأيام المقبلة لحل الخلافات.

 

كلمات ليست كافية

بيير موركوس، الزميل الزائر في مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية، وصف الخطوة الفرنسية، بأنها «تاريخية»، مشيرًا إلى أن «الكلمات المطمئنة مثل تلك التي سمعتها من الوزير بلينكين ليست كافية لباريس، خاصة بعد أن علمت السلطات الفرنسية، أن هذا الاتفاق استغرق شهورًا في الإعداد».

 

النقطة الأدنى

يمثِّل الخلاف أدنى نقطة في العلاقات بين أستراليا وفرنسا منذ عام 1995، عندما احتجت كانبيرا على قرار فرنسا، استئناف التجارب النووية جنوبي المحيط الهادئ، واستدعت سفيرها للتشاور.

وتعد الأحداث الأخيرة، أحدث تطور دراماتيكي في مسابقة شهدت معركة بين قوى بناء السفن البحرية لسنوات، بشأن ما وصفه العديد من المراقبين بأنه أكبر صفقة لتصدير الأسلحة في العالم.

وتوترت العلاقات الفرنسية مع الولايات المتحدة خلال رئاسة ترامب، الذي أثار غضب الحلفاء الأوروبيين، بمطالبتهم بزيادة إنفاقهم الدفاعي لمساعدة الناتو، والتواصل مع خصوم مثل روسيا وكوريا الشمالية.

كما توترت العلاقات الفرنسية مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بسبب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

ويقول دبلوماسيون: كانت هناك مخاوف في الأشهر الأخيرة من أن بايدن ليس صريحًا مع حلفائه الأوروبيين.

وقال محللون سياسيون لوكالة رويترز: إن تصرفات واشنطن في أستراليا، من المرجَّح أن تزيد توتر العلاقات عبر الأطلسي.

 

هزيمة فرنسية

«كان من المقرر أن يطرح الاتحاد الأوروبي استراتيجيته الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الخميس، بينما تستعد باريس لتولي رئاسة الاتحاد الأوروبي»، أشار برونو تيرتريس نائب مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية ومقرها باريس، في تغريدة على "تويتر"، إلى هزيمة بحرية فرنسية عام 1805 أعقبتها فترة طويلة من التفوق البحري البريطاني.

وأشار المحلل الفرنسي، إلى أن تلك الصفقة «ستعقِّد التعاون عبر الأطلسي في المنطقة وحولها، وستستفيد بكين».

لكن بعض المحللين حذَّروا من أن رد فِعل فرنسا الغاضب من العقد الأسترالي، قد يأتي بنتائج عكسية، وأشاروا إلى تقارير عن شكوك أسترالية في وتيرة التنفيذ.

وهذه هي النكسة الثانية للصادرات الدفاعية الفرنسية في ثلاثة أشهر، بعد أن رفضت سويسرا طائرات داسو رافال (AVMD.PA) لشراء مقاتلات أمريكية الصنع من لوكهيد مارتن (LMT.N) من طراز F-35.

 

ضربة كبيرة

وقال المحللون، إن خسارة عقد الغواصة الأكبر بكثير، كانت ضربة كبيرة لفرنسا، التي بذلت آلة بيع الأسلحة ذات الخبرة الخاصة بها قصارى جهدها، لانتزاع صفقة الغواصات من اليابان، الفائز المحتمل في عهد وزير الدفاع آنذاك لو دريان عام 2016.

وجاء فوز فرنسا عام 2016 بالصفقة، بعد عقد من إصلاح فرنسا جذريًا للطريقة التي تعاملت بها مع مبيعات الأسلحة، بعد إحراج باريس لخسارة مسابقة لبيع مقاتلين للمغرب.

وطمأنت تاليس الفرنسية (TCFP.PA)، التي يقول المحللون إنها ستكسب نحو مليار دولار من مبيعات السونار والإلكترونيات الضوئية -عيون وآذان الغواصات الفرنسية- المستثمرين بسرعة أن ماليتها لعام 2021 لن تتضرر.

 

رافال... منقذ فرنسا

وقال المحلل الدفاعي المقيم في المملكة المتحدة فرانسيس توسا: إن «الخيانة لغة خاطئة وتضر بمكانة فرنسا في استراليا، ويمكن أن تسمم البئر»، مضيفًا أن فرنسا ستعتمد الآن على بيع طائرات رافال، لتأمين مكانتها في سوق الأسلحة العالمية.

تأتي التوترات في العلاقات متعددة الأطراف، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى دعم إضافي في آسيا والمحيط الهادئ، نظرًا للقلق من التأثير المتزايد لصين أكثر حزماً.

إلا أن تشاو ليجيان، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الصينية، قال إن التحالف يخاطر «بإلحاق أضرار جسيمة بالسلام الإقليمي، وتكثيف سباق التسلح»، منتقدًا ما وصفها بأنه «عقلية الحرب الباردة التي عفا عليها الزمن»، محذِّرا من أن الدول الثلاث «تضر بمصالحها».