أبرزهم ابن حزم.. قصص عشق الفقهاء في الأندلس
لقد لاحظت بنفسي النساء وعرفت أسرارهن إلى حد لا مثيل له تقريبًا، لأنني نشأت في أحضانهن، وتربيت بينهن، ولم أكن أعرف أي مجتمع آخر، لم أجلس مع الرجال حتى كنت شابًا

ترجمات - السياق
سلَّطت مجلة نيولاين الأمريكية، الضوء على ما سمتها (قصص عشق الفقهاء المسلمين، خصوصًا في الأندلس (إسبانيا حاليًا)، مشيرة إلى أن الإمام ابن حزم الأندلسي، رغم أنه اشتهر بتفسيراته القرآنية الصارمة، فإن كتابه "طوق الحمامة" أظهر جانبًا مختلفًا، إذ كتب بصراحة عن الحب.
وقالت في مقال للكاتب محمد شعبان أيوب -باحث ومؤلف متخصص في تاريخ وثقافة الشرق الأوسط- إنه قرب نهاية القرن السابع عشر، ووسط تعقيدات في العلاقات الأوروبية العثمانية، عيَّنت الجمهورية الهولندية سفيرًا جديدًا في اسطنبول اسمه ليفينوس وارنر لتمثيل بلاده في البلاط العثماني، مشيرة إلى أنه ظل في هذا المنصب 22 عامًا، حيث أصبح -إضافة إلى تتبع حروب وتطورات الامبراطورية العثمانية- جامعًا شغوفًا للمخطوطات العربية.
وأشارت إلى أنه عندما توفي العالم والموسوع العثماني العظيم الحاج خليفة (المعروف أيضًا باسم كاتيب جلبي) عام 1658، سقط كنز نادر في يد وارنر، لافتة إلى أن الحاج خليفة كان يمتلك واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في اسطنبول، واشترى وارنر منها نحو 1000 كتاب.
طوق الحمامة
لحسن الحظ للقراء والعلماء على حد سواء -حسب شعبان أيوب- كان أحد الكتب النادرة التي تم الحصول عليها في هذه المكتبة الضخمة "طوق الحمامة"، وهو من تأليف الموسوعي والفقيه الأندلسي ابن حزم (994-1064).
ويعد "طوق الحمامة" أحد أكثر الأعمال أصالة عن الحب والعاطفة في اللغة العربية، وقد ظل جوهرة مخفية في مكتبة جامعة لايدن الهولندية -حيث انتهى المطاف بمجموعة وارنر- حتى أوائل القرن التاسع عشر، عندما عثر عليه المستشرق الهولندي راينهارت دوزي، المتخصص في التاريخ والحضارة الأندلسية، صاحب سلسلة كتب "الإسلام الإسباني... تاريخ المسلمين في إسبانيا".
وقد أخذ دوزي قصة حب ابن حزم الأولى من "طوق الحمامة" وترجمها إلى الفرنسية، وسرعان ما انتشرت القصة في جميع أنحاء أوروبا، ثم تُرجمت إلى الألمانية والإسبانية والروسية، ما أسهم في شهرة "ابن حزم" عالميًا.
وأشار شعبان إلى أنه على عكس أعماله الفقهية والأصولية، التي جعلته أحد المؤسسين العظماء لمدرسة الفقه السُّني المعروفة بالمدرسة الظاهرية، التي تعتمد في تفسيرها على المعنى الظاهري أو الخارجي للنصوص الدينية، فإن "طوق الحمامة" يؤرخ -كعمل يتعامل مع الحب والرحمة بطرق صريحة وبلا خجل- للحالة العقلية للعشاق والسيرة الذاتية الرومانسية للمؤلف.
وأوضح أن الدافع لتأليف هذا الكتاب، جاء من صديق مقرب طلب من ابن حزم أن يكتب "واقعيًا في وصف الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يحدث له وبسببه"، كما روى ابن حزم في مقدمة الكتاب.
ويبين شعبان أن الكتاب ليس عن الحب فقط، وإنما يتنوع على نطاق واسع، بما في ذلك الإشارات إلى المشايخ الذين علموا ابن حزم، والشخصيات العامة في قرطبة -عاصمة الأندلس الإسلامية- والمراجع التاريخية، والأحداث المهمة، والحفلات الخاصة، والتخطيط العمراني لقرطبة، فضلًا عن وصف منازل عائلة ابن حزم وأسلوب حياتهم، مشيرًا إلى أن هذه الكتابات لم تكن شائعة بالأدب في ذلك الوقت.
ومن خلال الكتاب، يكشف ابن حزم -رجل الدين والعلم- أنه تردد بداية في الكتابة عن الحب الشائك هذا، موضحًا أنه قد لا يكون مفيدًا لرجال التقوى، ما يجعله مجهودًا عقيمًا، ورغم ذلك قرر المضي قُدمًا في المشروع مُتحديًا التقاليد والعادات والتعصب الديني.
كسر التابوهات
وحسب شعبان، أراد ابن حزم كسر التابوهات التي اعتادها مجتمعه في ذلك الوقت، إذ يكشف فيه ذكريات واضحة عن نفسه وأصدقائه وآخرين غير معروفين (كلهم عشاق يناقشون تنهداتهم ومشاعرهم ودموعهم، مستخدمين الحمام والوسطاء للتراسل مع بعضهم، ويعانون الكارهين والثرثارين، ويموتون من أجل الحب).
يتحدث الكتاب عن الجوانب العاطفية لابن حزم وكثير من معاصريه، ومنهم رجال السياسة والجيش والأدب والعلم في الأندلس، إلا أنه يذكر -في بدايته- أنه لم يذكر أسماءهم احترامًا لخصوصيتهم.
كما يتحدث الكتاب عن الحب من منظور إسلامي وثقافي أندلسي أصيل، لكنه أيضًا عالم، ويتجاوز الزمان والمكان وثقافة واحدة، ويتعمق في أرواح العشاق في كل مكان.
وقد قسَّم ابن حزم "طوق الحمامة" إلى 30 فصلاً، بدءًا من الفصل الخاص بعلامات أو أعراض الحب، مثل إدمان النظر إلى الحبيب، والاندفاع إلى المكان الذي يوجد فيه، والارتجاف أو الارتباك عند رؤية الحبيب.
وهناك أيضًا فصل خاص عن (الحب الهائم) الذي ينشأ في الأحلام، كما يتضمن فصولًا أخرى عن الطرق التي يتعامل بها العشاق مع بعضهم، وردود الفعل عندما يتلقى الشخص رسالة من حبيبه، ولقاءاتهم السرية، والدور الحاسم للوسطاء عندما تصبح اللقاءات مستحيلة، والولاء، والمسافة، والانفصال، وحتى الكارهين.
وفي كل فصل من فصول كتابه -حسب شعبان أيوب- يقدم ابن حزم الملخص الفكري والفلسفي للموضوع المطروح، مع ذكر حكايات عشاق حقيقية لدعمها، وقصائد عربية بليغة تثبت المعنى الذي يتعامل معه.
وفي أحد الفصول، يتحدث عن "الحب الناجح"، حيث يكون العشاق في مأمن من الكارهين والافتراءات والرقابة، وقريبين من بعضهم، بلا مشاجرات ولا ملل ولا لوم، وهم متوافقون في الشخصية والأخلاق، ومتساوون في الحب، ويعيشون حياة مريحة لا يفصل بينهم إلا الموت.
هيبة الحب
وخلال "طوق الحمامة" يتحدث ابن حزم عن "هيبة الحب"، قائلاً: "لقد دست على بساط الخلفاء، وشاهدت سجلات الملوك، لكنني لم أر هيبة تعادل هيبة أحد الأحباء من قِبل حبيبه، لقد رأيت كيف يمكن للأقوياء أن يهيمنوا على رؤسائهم، والوزراء يسيطرون على دولة وسلطة حراس الدولة، لكنني لم أر أعظم من الفرح عندما يكون الحبيب متأكدًا من أنه يمتلك قلب حبيبه، وعندما يثقون بحبهم".
لكن اللافت في "طوق الحمامة" -حسب شعبان- أنه لا يتعامل مع المرأة الأندلسية في سياق ظاهرة الحب والرحمة فحسب، بل يتعامل أيضًا مع الجانب الاجتماعي وتجربته المباشرة، إذ كتب: "لقد لاحظت بنفسي النساء وعرفت أسرارهن إلى حد لا مثيل له تقريبًا، لأنني نشأت في أحضانهن، وتربيت بينهن، ولم أكن أعرف أي مجتمع آخر، لم أجلس مع الرجال حتى كنت شابًا"، كما يخبرنا ابن حزم -خلال كتابه- أن النساء وثقن به، وكشفن له أسرارهن في الحب.
وأشار شعبان أيوب، إلى تصنيف المحبوبات في "طوق الحمامة" إلى 30 نوعًا، كلهن ينتمين إلى الطبقات الاجتماعية العليا.
وبيّن أنه في 25 حالة من هذه الحالات، يتحدث ابن حزم عن قصته الخاصة أو قصة أحد أصدقائه أو شخص معروف لديه، فيما يتعلق بالحالات الخمس المتبقية بنساء من الدرجة العالية، يتمتعن بقدر كبير من التطور والثقافة والمكانة.
وحسب الكتاب، لم يكن الرجال فقط هم الذين بدأوا الحب، لكن أيضًا وقعت كثيرات في الحب، وروى قصصهن، إذ إنه في إحدى الحالات، وقعت فتاة تُدعى عفراء في حب الأمير أبي عامر، حفيد الحاكم الأسطوري منصور بن أبي عامر، مؤسس البيت الأميري الذي كان أواخر عهد الأسرة الأموية الحاكم الفعلي للأندلس.
وقد أحبت عفراء، أبا عامر، لكنه أخبر صديقه ابن حزم بأنه لا يحبها وأنه ملّ سماع اسمها.
ويشير الكتاب إلى أنه رغم النهاية الحزينة لقصة عفراء، فإن ابن حزم يروي قصصًا أخرى لا حصر لها بين عشاق كانت لها نهاية سعيدة.
وحسب شعبان، لم يخجل ابن حزم من ذكر قصة حب أخيه الأكبر أبو بكر بن حزم مع حبيبته عتيقة بنت قندو، التي انتهت بالزواج وظل الاثنان معًا حتى وفاتهما، قبل أن يبدأ ابن حزم كتابة "طوق الحمامة" بثلاث سنوات فقط.
حُب ابن حزم
ينحدر ابن حزم من عائلة أرستقراطية ثرية، ونشأ في بيئة محاطة بالنساء، ساعدته في تعلم القرآن والأدب والشعر، وقد تركت هذه التنشئة أثرًا واضحًا في سيكولوجية حياته.
ويقر ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة" بدور النساء في تعليمه، قائلا: "علمتني النساء القرآن، وتلون لي الكثير من الشعر، ودربنني على فن الخط".
وفي واحدة من أفضل حكاياته من الكتاب، تتعامل مع حبه الشديد لفتاة تبلغ من العمر 16 عامًا لم ترد بالمثل على عواطفه، ويبدو أن رفضها قد أشعل حبًا ورغبة شديدة في كيان ابن حزم وروحه، كما يتضح من وصفه اللطيف والهادف لتلك اللحظات مع الفتاة، بعد 15 عامًا أو أكثر من الواقعة.
وعن حبه لهذه الفتاة يقول ابن حزم: "لقد استمتعت في شبابي بحب جارية نشأت في منزلنا، وكانت وقت قصتي تبلغ من العمر ستة عشر عامًا، وكان لديها وجه جميل للغاية، علاوة على ذلك، كانت ذكية وعفيفة ونقية وبريئة وذات تصرف جميل".
وأضاف في وصفها: "كانت تعزف العود بشكل جميل، فوجدت نفسي منجذبًا إليها بشكل لا يقاوم، وأحبها بكل العاطفة العنيفة لقلبي الشاب، إذ إنني لمدة عامين أو ما يقارب ذلك الوقت، جاهدت بأقصى طاقتي للفوز بمقطع لفظي واحد من استجابتها، أو لسماع كلمة واحدة من شفتيها، لكن جهودي باءت بالفشل".
يتذكر ابن حزم أنه كان جالسًا بجانب هذه الفتاة الأندلسية الجميلة يومًا مشمسًا لا يُنسى، بين مجموعة من الأخريات في منزلهن الواسع على قمة أحد تلال قرطبة، وكانت المجموعة تستمتع بالمنظر البانورامي الجميل للمدينة المزدهرة من خلال نوافذ الخليج الكبيرة، وتشجع الفتاة على الغناء لهم، ثم يذكر كيف حاول الاقتراب من هذه الفتاة، على أمل أن تعطيه كلمة أو نظرة أو حتى تميل نحوه.
ويقول ابن حزم في ذلك: "أذكر أنني كنت أحاول الوصول إلى الخليج حيث كانت واقفة، والاستمتاع بقربها، لكنها ما إن لاحظتني حتى غادرت ذلك الخليج وبحثت عن آخر، وهي تتحرك بخفة ودلال ليس لهما مثيل"، مضيفًا: "حاولت مجددًا الاقتراب منها، إلا أنها انتقلت إلى آخر أيضًا، إذ إنها كانت تدرك جيدًا افتتاني بها، بينما كانت الأخريات غير مدركات لما كان بيننا".
ورغم ابتعاد هذه الفتاة لمكان آخر، فإنها لما توفي والده، وجاءت لتعزيه يصف ابن حزم هذه اللحظات بأبرع الكلمات قائلًا: "لقد أعادت إحياء هذا الشغف المدفون في قلبي فترة طويلة، وتذكرت حبي القديم، وعصرًا مضى، وزمنًا تلاشى، وشهورًا غادرت، وذكريات باهتة، وفترات هلكت، وأيامًا ذهبت إلى الأبد، وآثار طُمست، فقد أيقظت أحزاني، ورغم أنني كنت مُحبطًا في ذلك اليوم لأسباب عدة، فإنني لم أنسها بالفعل، فقد اشتد حزني، واشتعلت النيران في قلبي مجددًا".
ومع ذلك، سرعان ما جمع ابن حزم نفسه وبدأ شيئًا فشيئًا نسيان الفتاة، ولم يمض وقت طويل حتى انبهر بحب جديد لفتاة تدعى (نِعم)، قال عنها: "لقد كانت إحدى جارياتي، وعلى عكس حبي الأول، كانت متوافقة تمامًا معي".
وحسب شعبان يبدو أن الاثنين -ابن حزم ونِعم- كانا متجهين لعلاقة مدى الحياة معًا، لكن القدر سيحكم بخلاف ذلك، إذ يقول ابن حزم: "كنت مغرمًا بعمق بجارية كانت في حوزتي، اسمها نِعم، وأحبها بشدة، وكانت نموذجًا للجمال الجسدي والأخلاقي، وكنا في وئام تام، إذ لم تكن تعرف رجلاً آخر قبلي، وكان حبنا متبادلاً ومرضيًا تمامًا، ثم سلبها القدر مني، ورغم أنني رجل لا يبكي فإنني بكيت من أجلها".