في لبنان... مؤسسات رسمية منهارة وسط شلل سياسي وأزمة اقتصادية خانقة
أتى الانهيار الاقتصادي، الذي يعصف بلبنان منذ نحو ثلاث سنوات، على مؤسسات حكومية نهشها الفساد والمحسوبية لعقود، فلم تعد قادرة على تقديم سوى ما قلّ من خدمات لمواطنين منهكين يبحثون عن سُبل للاستمرار في بلد يبدو الأمل بالنهوض به ضئيلاً.

السياق
رغم أنه يعمل في الحر من دون مُكيف هواء، جراء الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، يمتنع القاضي فيصل مكي عن شرب الماء في وقت العمل، كي لا يضطر إلى دخول الحمامات الخارجة عن الخدمة بقصر العدل في بيروت.
يقول رئيس دائرة التنفيذ في بيروت، القاضي فيصل مكي: "المتطلبات الأساسية الضرورية للإبقاء على القطاع العام فعالاً، لم تعد موجودة".
ويضيف: "ليست هناك أوراق، ولا حبر ولا أقلام ولا حتى مغلفات. الحمامات لا تعمل والمياه مقطوعة".
انهيار اقتصادي
أتى الانهيار الاقتصادي، الذي يعصف بلبنان منذ نحو ثلاث سنوات، على مؤسسات حكومية نهشها الفساد والمحسوبية لعقود، فلم تعد قادرة على تقديم سوى ما قلّ من خدمات لمواطنين منهكين يبحثون عن سُبل للاستمرار في بلد يبدو الأمل بالنهوض به ضئيلاً.
ومنذ بدء الانهيار، تتكرّر إضرابات موظفي القطاع العام الذين تدهورت رواتبهم، جراء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق السوداء، وآخرها بدأ منتنصف يوليو. وانضم إليهم القضاة منذ نحو أسبوعين بإعلان إضراب مفتوح، في انتظار أن تجد الحكومة حلاً لمشكلاتهم المادية.
في قصر العدل الذي يأكل العفن والرطوبة جدرانه، مع عدم وجود إمكانات لصيانة أو تصليحات، علِق قضاة في المصاعد جراء الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، ومنهم من تعثّر وسقط على السلالم وسط الظلام، وبينهم قاضية كُسرت يدها مؤخراً جراء ذلك.
أما الحمامات فحدِّث ولا حرج، المياه مقطوعة عنها منذ فترة.
ويقول مكي لوكالة الأنباء الفرنسية: "أحاول ألا أشرب المياه خلال الدوام، كي لا أضطر إلى الذهاب إلى المنزل، أو إلى مكاتب نقابة المحامين المجاورة لدخول الحمام".
كما يضطر القضاة لشراء مستلزمات مكاتبهم من مالهم الخاص.
ويتساءل مكي: "لا يمكننا حتى شراء حاجاتنا الأساسية الخاصة، فهل يتوقع منّا أيضاً أن ننفق على قصر العدل؟".
لا دفاتر ولا أقلام
وتتكرّر المعاناة ذاتها في كل الوزارات والمؤسسات الرسمية.
في وزارة الصحة التي عملت بأقصى طاقاتها خلال السنوات الثلاث الماضية لمواجهة وباء كورونا، يقول أحد مسؤولي الأقسام لوكالة فرانس برس: "كيف أطلب من موظفة راتبها مليون وثمانون آلف ليرة فقط -أي 33 دولاراً- أن تأتي إلى الدوام؟".
على غرار آخرين، توقفت كريستين، الموظفة منذ 26 عاماً في القطاع العام، عن الذهاب إلى عملها في قائمقامية منطقة المتن شمالي شرق بيروت، إذ بات راتبها لا يتخطى 75 دولاراً في الشهر، بعدما كان يعادل 1600 دولار قبل الأزمة.
تذهب كريستين (50 عاماً)، الوالدة لطفلين، مرة واحدة كل أسبوعين إلى وظيفتها لتضمن ألا تُعد مستقيلة.
وتقول: "يضطر الموظفون للصعود سبعة طوابق على السلالم جراء انقطاع التيار الكهربائي". وبالكاد تؤمن مؤسسة كهرباء لبنان، جراء الشح في الفيول، ساعة واحدة فقط من التغذية بالتيار كل 24 ساعة. كما تُقنن المولدات الخاصة إمداداتها جراء غلاء المازوت.
وتتابع كريستين: "ليس هناك تبريد في المكاتب، ولا أوراق ولا أقلام، ولا ماكينات طباعة(...) ويجدر بك أن تحمل زجاجة مياه إلى الحمام بعد استخدامه، إذ لا توجد فيه مياه".
وتقول كريستين إنها عرفت أن الوظيفة في القطاع العام لا تأتي بـ"حياة وردية" مهترئة يستشري فيها الفساد، لكنها كانت تعوِّل على الأقل على الضمان الاجتماعي والمعاش التقاعدي.
لكن مع تدهور الليرة، حتى المعاش التقاعدي فقد قيمته، ولم يعد الضمان قادراً على تغطية نفقات الاستشفاء.
وتقول كريستين: "تجسيد الفقر هو الموظف في الدولة اللبنانية".
"بالقطارة"
بالطبع، انعكس تدهور مؤسسات الدولة على الخدمات المقدمة للمواطنين، الذين بات من الصعب عليهم حتى استخراج قيد أو جوازات سفر، إذ ليس هناك حبر ولا أوراق كافية.
ويقول موظف في إحدى دوائر النفوس جنوبي لبنان: "نصدر إخراجات القيد بالقطارة"، مشيراً إلى أن متبرعًا قدّم قبل مدة مبلغًا لطباعة أوراق إخراجات القيد التي انقطعت تماماً لفترة.
كما علّقت السلطات اللبنانية -أكثر من شهر- إصدار جوازات سفر بعدما شارف مخزون الأمن العام من المستلزمات على النفاد. ورغم استئناف إصدار جوازات السفر في يونيو، ينتظر المواطنون أشهراً قد تصل إلى سنة لحجز موعد لمعاملة جواز السفر.
وجراء انفجار مرفأ بيروت قبل عامين، طالت الأضرار مؤسسات حكومية عدة بينها مؤسسة كهرباء لبنان، ومقار وزارات عدة مثل الخارجية والبيئة والمالية. ولا يحضر إلى الوزارات سوى عدد قليل من الموظفين.
في مرفأ بيروت، يعمل موظفو الجمارك في كرافانات، بدلاً من مبناهم المتضرر، ولم يتمكن موظفو وزارة الخارجية -حتى الآن- من العودة إلى مكاتبهم التي استعاضوا عنها بمقر مؤقت آخر.
أما وزارة البيئة، فيعمل موظفوها القلائل تحت ألواح مربعة تتدلى من الأسقف الاصطناعية.
ويقول وزير البيئة ناصر ياسين لـ "فرانس برس": "الأبواب لا تزال مكسورة ولا يمكن إغلاقها"، مشيراً إلى أن "بعض الغرف تفتقر إلى خدمات أساسية، فلا يوجد فيها حتى لمبات".
في طرابلس، يقف مبنى البلدية الذي أحرقه متظاهرون العام الماضي، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، مثالاً أيضاً على شلل المؤسسات.
ويواظب الموظفون على الحضور إلى مبنى جدرانه محترقة ومتصدعة.
ويقول رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، الذي سحبت منه الثقة مؤخرًا نتيجة خلافات سياسية: "نحن ذاهبون نحو الأسوأ... انهيار تام وفوضى عارمة".