ألويس برونر... حكاية متشابكة للنازي الهارب والمخابرات السورية

مجرم الحرب النازي ألويس برونر عاش مختبئًا في دمشق لعقود، بينما فشلت إسرائيل في قتله مرتين

ألويس برونر... حكاية متشابكة للنازي الهارب والمخابرات السورية
صورة متداولة - ألويس برونز

ترجمات - السياق

كشفت مجلة نيولاينز الأمريكية، تفاصيل علاقة الأجهزة السرية السورية في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، بالقيادي الأمني النازي الكبير، ألويس برونر، أحد أشهر الناجين من المحاكمات والملاحقات التي شملت المسؤولين الأمنيين النازيين بعد الحرب العالمية الثانية.

وبينت أن مجرم الحرب النازي ألويس برونر عاش مختبئًا في دمشق لعقود، بينما فشلت إسرائيل في قتله مرتين.

وقالت: "بينما كانت دمشق ذات يوم جوهرة تاج أماكن السفر في الشرق الأوسط، إلا أن بعض الأماكن بها كانت حساسة وسرية للغاية، بحيث لا تظهر في أي خرائط أطلس".

وأشارت إلى أن أحد هذه المناطق -التي لا تظهر على الخرائط- كان شارع جورج حداد، الذي لا يمكن العثور عليه حتى اليوم في خرائط جوجل، لافتة إلى أنه كان مجرد "زقاق صغير" في حي راقٍ يسمى (أبو رمانة) خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

ورغم ذلك، فإن هذا الحي كان يحظى -في ذلك الوقت- باهتمام بالغ من ضباط الشرطة السورية، سواء الذين يرتدون الزي الرسمي أو بملابس مدنية، حيث كانت أعينهم ترقب المارة، لدرجة أنهم لا ينفكون يوقفون السياح أو الوافدين لسؤالهم عن أعمالهم أو سبب وجودهم في هذا المكان، وبذلك فإن أولئك الذين لم يتمكنوا من إعطاء إجابة مقنعة كانوا عُرضة للاعتقال والترحيل السريع، إن لم يكن أسوأ.

أصل القصة

وحسب "نيولاينز"، كانت مهمة الأمن الرئيسة في شارع جورج حداد، مراقبة منزل واحد على وجه الخصوص، هو المبنى رقم 22.

وأشارت المجلة إلى أن هذا المنزل -على الأقل في الخمسينيات من القرن الماضي- كان ضمن ممتلكات الحكومة السورية مع العديد من الشقق المؤجرة لضيوف الدولة ذوي الرتب المنخفضة والمغتربين والمستشارين الأجانب، إلا أن بعضهم كانوا من مجرمي الحرب النازيين الهاربين.

ففي هذا المنزل -حسب المجلة الأمريكية- عاش فرانز ستانغل، قائد معسكر الإبادة في تريبلينكا، فترة قصيرة أواخر الأربعينيات.

لكن "الضيف" الأكثر شهرة في هذا المبنى كان ألويس برونر، أحد أشرس مرتكبي المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

انضم برونر، الذي ولد في النمسا، إلى النازيين عام 1931، عندما كان مراهقًا، وفي يناير 1943، تم تعيينه مسؤولاً عن معسكر درانسي خارج باريس، المحطة الأخيرة لليهود قبل إرسالهم إلى غرف الغاز.

فقد كان برونر مسؤولًا رفيع المستوى في الغستابو -البوليس السري الألماني خلال الحرب العالمية الثانية- والساعد الأيمن لأدولف أيخمان ، رئيس "إدارة الشؤون اليهودية" في الغستابو.

واشتهر برونر كـ (أحد منظمي الهولوكست)، إذ أشرف على اعتقال وترحيل وقتل عشرات الآلاف من اليهود، في فرنسا وسلوفاكيا واليونان ودول أخرى.

وحسب بعض التقديرات، كان برونر مسؤولاً عن اعتقال وتعذيب 47000 يهودي في النمسا، و44000 في اليونان، و23000 في فرنسا و14000 في سلوفاكيا.

وقد عرَّف (أيخمان) -الذي حوكم وشنق في القدس لدوره في الهولوكوست- برونر بأنه "أفضل رجاله".

وبينت المجلة الأمريكية، أن برونر اختبأ بعد الحرب فترة قصيرة في ألمانيا، لكنه عام 1954 شعر بأن الخناق يضيق حول رقبته، خصوصًا عندما حكمت عليه محكمة فرنسية بالإعدام غيابيًا، ومن ثمّ بمساعدة الأصدقاء النازيين هرب إلى مصر إبان حكم جمال عبدالناصر، ليبدأ بذلك إقامة في الشرق الأوسط لم تنتهِ إلا بوفاته، بعد نصف قرن من هذا التوقيت.

برونر ومصر

وعكس ما أشيع، فقد أكدت "نيوزلاينز"، أن برونر لم يخدم النظام المصري، إذ إنه تم ترحيله من القاهرة بشكل سريع نسبيًا، لافتة إلى أنه رغم أن (ناصر) وظف العديد من الخبراء الألمان في مجالات العلوم العسكرية والصواريخ، وكذلك بعض الدعاية وخبراء الأمن الداخلي، فإنه لم يكن بحاجة إلى متخصصين في الإبادة الجماعية.

كان برونر وصل إلى مصر بداية الخمسينات بجواز مزيف باسم جورج فيشر، ومن مصر انتقل فورًا إلى سوريا للعمل تحت إمرة قيادي نازي آخر شرس، رئيس مكتب الشؤون اليهودية في ألمانيا زمن العهد النازي.

وتكشف المجلة أنه بمساعدة أمين الحسيني، مفتي القدس السابق و "الملاك الحارس" للنازيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، هرب برونر إلى سوريا، وحصل على تأشيرة عمل، وانضم إلى المشهد المزدهر لتجار السلاح النازيين في دمشق عام 1955.

وفي سوريا عاش في 22 شارع جورج حداد كمستأجر من الباطن من صاحب المنزل، وهو ضابط ألماني يدعى كورت ويتزكي -عمل مستشارًا للحكومة السورية- إلا أنه سرعان ما وشى بالضابط الألماني للمخابرات السورية، وبذلك حكم على صاحب المنزل بالاعتقال والتعذيب، ليحصل لنفسه على الشقة.

وحسب المجلة، يكتنف الغموض تفاصيل أفعال برونر في دمشق خلال الخمسينيات، إذ زعمت روايات أنه كان يدير الفرع الدمشقي لفرع نازي دولي سري بقيادة الرايخليتر مارتن بورمان (الذي لقي حتفه عام 1945) وأيخمان (الذي كان يكسب لقمة العيش كعامل يدوي في الأرجنتين حتى ألقي القبض عليه من قِبل إسرائيل، وإعدامه).

لكن روايات أخرى بينت أن برونر عمل في سوريا لصالح المخابرات الألمانية أيضًا، التي أتلفت ملفه عام 1994 "بطريق الخطأ" وفق الرواية الرسمية الألمانية.

وفي دمشق سعى برونر إلى التواري عن الأنظار تحت مسمى أبوحُسين، وتفادي إثارة الاهتمام به، لكن المخابرات الأمريكية كانت تعرف منذ 1950 أن برونر يُقيم في دمشق بمباركة الأجهزة الأمنية السورية، ما يُفسر مثلاً تعرضه إلى محاولة اغتيال عام 1961، بواسطة طرد بريدي ملغوم، تسبب بعد انفجاره في فقدانه إحدى عينيه.

إلى جانب حياة الرجل في دمشق، تكشف المجلة عن دور برونر في تأسيس الأجهزة الأمنية السورية السرية في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، حتى قبل وصوله الرسمي إلى السلطة بداية السبعينيات.

ارتبط برونر أيضًا في سوريا بزملائه الهاربين النازيين، وأهمهم فرانز راديماخر "الخبير السابق للشؤون اليهودية" في وزارة الخارجية النازية، والدكتور فيلهلم بيسنر، الجاسوس سيئ السمعة الذي كانت مهمته (إبادة يهود فلسطين حال انتصار ألمانيا في الحرب).

الجزائر

ويروى أيضًا -حسب "نيولاينز"- أن برونر شارك في تأسيس (شركة أورينت للتجارة)، إلى جانب شركات وهمية أخرى في ألمانيا ودول أخرى، يديرها في الغالب النازيون والنازيون الجدد، حيث كانت هذه الشركة واجهة لأعمال مربحة للغاية لتهريب الأسلحة من الكتلة الشرقية إلى الحركة السرية الجزائرية (جبهة التحرير الوطني)، التي كانت تقاتل ضد الاستعمار الفرنسي.

وأشارت المجلة إلى أنه بداية الحرب الجزائرية، كان الاتحاد السوفيتي مترددًا في دعم جبهة التحرير الوطني، لذا فقد أدار دعمه بشكل غير مباشر من خلال وسطاء، بعضهم نازيون سابقون.

وأوضحت أن برونر أثرى نفسه بشكل كبير في هذا العمل، لكن عام 1959 كان حظه على وشك النفاد، إذ كان عملاء المخابرات السورية يراقبون نشاطه، ولم يكونوا سعداء بذلك.

ففي عام 1958، بينما كان برونر يتاجر بالسلاح، ضمت مصر -بزعامة عبد الناصر- سوريا، واندمج البلدان في الجمهورية العربية المتحدة.

وفي سوريا، المعروفة باسم المحافظة الشمالية من الجمهورية العربية المتحدة، كان هناك ما لا يقل عن ثلاثة أجهزة استخبارات، كان أكثرها وحشية وأسوأها معروفًا باسم "المكتب الخاص" الذي أسسه عبدالحميد السراج، الرجل القوي للمحافظة الشمالية، وتم تصميمها ككيان قوي ومستقل، له سلطة الإشراف على الأجهزة الأمنية الأخرى.

وأشارت المجلة إلى أن أحد قادة المكتب الخاص، كان يدعى "النقيب لحام"، الذي كان يملك عددًا من الفلل المهجورة والمباني الأخرى في ضواحي دمشق، التي يتم فيها تعذيب المعتقلين.

ومن ثمّ -حسب المجلة- أواخر عام 1959، ألقي القبض على برونر وإحضاره إلى إحدى هذه المنشآت، والتحقيق معه بتهمة الجاسوسية، إلا أنه مع اشتداد الخناق حوله، اعترف للنقيب لحام بأنه كان مساعدًا لأيخمان، وأنه مطارد لأنه عدو لليهود، وتغير موقف لحام فجأة، وقام وصافح برونر، وابتسم قائلاً: "مرحبًا بكم في سوريا... عدو عدوي صديقي".

ومنذ ذلك اليوم، أصبح برونر مستشارًا للشؤون الألمانية في المخابرات السورية، وبمباركة من لحام، جنَّد العديد من أصدقائه النازيين.

وتمثلت مهام برونر في جمع معلومات استخباراتية عن الألمان والنمساويين، الذين عاشوا في سوريا وهربوا الأسلحة إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

التعذيب النازي

في الوقت نفسه -حسب "نيولاينز"- خدم برونر المخابرات السورية كمدرب على أساليب التعذيب النازي والاستجواب، حيث كان يسافر يوميًا إلى وادي بردى، وهو حي يقع في ضواحي دمشق، ليعلم الضباط السوريين أساليب الغستابو وكيفية التحدث باللغة الألمانية "بلهجة فيينا الساحرة".

وحسب المجلة، كان بعض قادة المخابرات السورية سيئي السمعة في المستقبل، مثل الجنرال علي ضبا (قائد جهاز الأمن العسكري، أقوى وكالة استخبارات في سوريا من 1973 إلى 2000)، من طلاب برونر.

ووصلت شهرة برونر في سوريا، حد أن البعض ينسب إليه اختراع ما يسمى الكرسي الألماني، وهو جهاز تعذيب شنيع للغاية.

لكن ما لم يدركه برونر أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (موساد) كان يلاحقه منذ عامين، للانتقام منه لدوره في الهولوكوست.

وبسرعة كبيرة، قرر الموساد أنه من الصعب للغاية اختطاف برونر من دمشق، وهكذا ألغيت خطط تقديمه للمحاكمة واستبدلت بها مخطط اغتيال أو بلغة الموساد "هجوم عقابي"، إلا أن المحاولة باءت بالفشل، رغم أنها انتهت بفقدان برونر إحدى عينيه.

ومع تفكيك الوحدة السورية المصرية، لم يتغير الأمر بالنسبة لبرونر، واستمر بعمله في تعليم أساليب التعذيب للأنظمة البعثية التي تولت السلطة في سوريا بعد ذلك، والذين أغدقوا عليه بالهدايا، بل وتوسيع علاقاته إلى أعلى المستويات.

ولكن النظام السوري -حسب المجلة- لم يكن قادرًا على الاستمرار في الاكتفاء بإنكار وجود برونر في ضيافته، خاصةً بعد انتشار المعلومات عن وجوده حيًا في دمشق.

أواخر 2001، بعد وفاة الأسد الأب عام 2000، أصبح بشار الأسد في مأزق بسبب برونر، ما اضطره إلى التخلص منه باعتقاله، ذلك أنه لم يكن مقبولاً بالنسبة للنظام السوري الجديد، ترك برونر طليقًا خارج سوريا بعد عقود من الإنكار، وعليه أمر الأسد الابن باعتقال برونر في بيت مدني تحت رقابة المخابرات السورية العامة.

وتضيف المجلة: "يبدو أن اعتقال النازي القديم، رغم الخدمات التي قدَّمها للنظام البعثي في دمشق، بعد سنوات طويلة من الهروب من ألمانيا، كان له الأثر الحاسم في تدهور صحة الرجل، حسب شهادة ثلاثة سوريين عملوا تحت إمرة برونر في المخابرات السورية، وحرصوا على تأمينه بعد صدور القرار بإقامته الجبرية في بيته، ليتأثر وضعه الصحي سريعًا قبل أن يموت في ديسمبر 2001".

وبناءً على شهادة ضباط المخابرات السورية -الذين تحدثوا للمجلة- توفي "برونر في ظروف غامضة، لكنه دُفن على الطريقة الإسلامية في مقبرة العفيف في دمشق، بعيدًا عن الأنظار".

وقد توفي برونر بعد أن قضى سنواته الأخيرة في البؤس والقذارة، إذ نقلت المجلة عن أحد حراس سجنه قوله: "صدرت الأوامر لنا... لا تقتلوا هذا الخنزير، لكن لا تحاولوا إبقاءه على قيد الحياة أيضًا".

وكشف حراس برونر أنه لإذلاله، كان عليه أن يختار كل يوم بين بيضة مسلوقة وطماطم.

ولكن "أخيرًا، انتهت حياة برونر في ظروف أسوأ مما كانت ستقدمه أي دولة غربية، ومع ذلك، أفضل بكثير من المعاناة التي فرضها على العديد من ضحاياه اليهود"، حسب وصف "نيولاينز".