استقالة ماريو دراغي... عادة إيطالية تضع الاقتصاد الأوروبي في مأزق

كأن إيطاليا تأبى الخروج عن التقاليد التي جعلتها تبدل 59 حكومة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

استقالة ماريو دراغي... عادة إيطالية تضع الاقتصاد الأوروبي في مأزق

ترجمات - السياق 

"تغيير الحكومة... عادة إيطالية التي لا تنتهي"... هكذا علَّقت صحيفة وول ستريت الأمريكية، على استقالة رئيس الحكومة الإيطالية ماريو دراغي، مشيرة إلى أنه مع استعداد رئيس الوزراء لإلقاء كلمة أمام البرلمان الإيطالي، الأربعاء المقبل، عن الخطوات المحتملة، دعا حزب اليمين المتطرف -المتصدر في استطلاعات الرأي- إلى إجراء انتخابات فورية.

وتشهد إيطاليا أزمة حكومية رسمية، بعد إعلان دراغي استقالته، خلال اجتماع مجلس الوزراء، الخميس، التي رفضها بعد ذلك رئيس الجمهورية سيرغو ماتاريلا.

وحسب الصحيفة الأمريكية "يتزايد القلق بشأن من سيقود الحكومة الإيطالية، بعد أن أعلن دراغي فجأة أنه سيتنحى، ما قد يعرض الاقتصاد الإيطالي -الذي يكافح لإيجاد أرضية تنقذه من توابع تأثير جائحة الفيروس التاجي والحرب في أوكرانيا- لخطر شديد".

وبقرار دراغي، فكأن إيطاليا تأبى الخروج عن التقاليد التي جعلتها تبدل 59 حكومة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقف على شفا أزمة تهدد بسقوط الائتلاف الحاكم، بعد أن قررت حركة النجوم الخمس، التي تملك أكبر كتلة برلمانية، عدم المشاركة في التصويت على الثقة بالحكومة في مجلس الشيوخ، ما يعني عمليًا انسحابها من الائتلاف الذي يرأسه دراغي، ويضم جميع الأحزاب البرلمانية، باستثناء حزب "إخوان إيطاليا" اليميني المتطرف، الذي يتحين فرصة الانتخابات العامة التي ترجح الاستطلاعات فوزه فيها.

كان زعيم "النجوم الخمس"، الرئيس السابق للحكومة جيوزيبي كونتي، أعلن أن انسحاب كتلته من مجلس الشيوخ لدى التصويت على الثقة، يجب ألا يؤثر في بقاء الحكومة، لكن زعيم حزب الرابطة اليميني، ماتيو سالفيني، سارع إلى التحذير من أنه في حال انسحاب "النجوم الخمس" من الجلسة، سيسحب تأييد حزبه للحكومة، ما يؤدي حتمًا إلى سقوطها والدعوة إلى انتخابات عامة قبل موعدها في الربيع المقبل.

خريف ساخن

ورأت "وول ستريت جورنال" أن تتابع الأحداث في إيطاليا، يمهد لخريف ساخن، خصوصًا بعد أن بلغ التضخم مداه، بينما يتراجع معدل النمو الاقتصادي بشكل يومي، ولا تزال الإصلاحات التي تعهدت الحكومة بإجرائها للحصول على مليارات صندوق الإنعاش الأوروبي مجرد "حبر على ورق".

وبينت الصحيفة أنه بمجرد إعلان رئيس الوزراء الإيطالي تنحيه، تسابق قادة الحزب لخلافته، إذ قال دراغي -رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ذو الخبرة الاقتصادية الكبيرة- إنه استقال من الحكومة بعد أن بدأت الانشقاقات تضرب الائتلاف الحاكم بشأن كيفية الاستجابة للأزمة في أوكرانيا وتفاقم التضخم. 

وأفادت بأن حكومة دراغي تعرضت -كغيرها من الحكومات الأوروبية- لضغوط شديدة مع ارتفاع الأسعار بشكل مطرد، ونتيجة لذلك دعا بعض قادة الأحزاب إلى انتخابات مبكرة وعلى رأسهم جيورجيا ميلوني زعيمة جماعة الإخوان اليمينية المتطرفة.

وأشارت الصحيفة، إلى أن حزب ميلوني يتصدر استطلاعات الرأي الأخيرة، خصوصًا أنه الحزب السياسي الرئيس الوحيد خارج الائتلاف.

بينما ناشد الحزب الديمقراطي وغيره من مجموعات يسار الوسط، دراغي، تشكيل حكومة جديدة، ورفض الرئيس ماتاريلا قبول استقالته، ولفتت الصحيفة الأمريكية، إلى أن التركيز ينصب على الأربعاء المقبل، عندما يُلقي دراغي خطابًا أمام البرلمان بشأن استقالته والخطوات المقبلة.

عرقلة اقتصادية

وقالت "وول ستريت جورنال" إن دخول إيطاليا فترة طويلة من التذبذب السياسي، أو حتى مع رئيس وزراء جديد ضعيف، يمكن أن يعرقل محاولات البلاد لمواجهة ارتفاع التضخم، الذي أضر -بشكل خاص- ذوي الدخل المنخفض.

وأشارت إلى أن الاقتصاد الإيطالي يترنح حاليًا، بعد "عودة قوية" مؤقتة، العام الماضي من التباطؤ الناجم عن وباء كورونا.

وحسب الصحيفة، يُنظر إلى افتقار إيطاليا للنمو في السنوات الأخيرة وارتفاع الديون -التي قفزت أثناء الوباء وتشكل أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي- على أنها أكبر التهديدات طويلة الأجل لاستدامة اليورو.

وبينت أنه خلال الأزمة المالية، كان القادة الأوروبيون، بمن فيهم دراغي -عندما كان رئيسًا للبنك المركزي الأوروبي- حريصين على بذل كل ما في وسعهم لحماية إيطاليا، حتى لا يضر تراجع اقتصادها بقية الدول الأوروبية، التي تشترك معها في العملة الموحدة.

ورأت الصحيفة، أن الانخفاض الأخير في قيمة عملة الاتحاد الأوروبي مقابل الدولار، سيؤدي هذه المرة، إلى مزيد من الضغط التصاعدي على التضخم، من خلال زيادة تكلفة الواردات من السلع التامة الصُنع، إلى المواد الخام مثل النفط الخام، لافتة إلى أن الشركات المُصدرة خارج الكتلة، بما في ذلك العلامات التجارية للسلع الفاخرة، ستستفيد حيث تصبح منتجاتها أقل تكلفة.

انتخابات مبكرة

ورغم هذه التحديات الكبيرة، فإن العديد من المحللين السياسيين، استبعدوا دعوة الإيطاليين للتصويت في انتخابات مبكرة بعد انتهاء الصيف الحالي، مشيرين إلى أن إيطاليا لم تشهد مطلقًا إجراء انتخابات وطنية في الخريف، منذ أن أصبحت جمهورية بعد الحرب العالمية الثانية.

يُذكر أن دراغي، وهو الحاكم السابق للمصرف المركزي الأوروبي، كان أعلن -منذ أيام- أنه في حال خروج "النجوم الخمس" من الائتلاف الحاكم سيعد ولايته في حكم المنتهية، وأنه ليس مستعدًا لتعديل التشكيلة الوزارية أو تشكيل حكومة جديدة، وبذلك لا مفر من الدعوة إلى إجراء الانتخابات.

إلا أن الصحيفة الأمريكية، رأت أنه من الحلول الممكنة التي قد يلجأ إليها ماتاريلا أن يطلب من دراغي تشكيل حكومة من دون مشاركة "النجوم الخمس"، لكن بتأييد من الفريق المنشق عن الحركة، ما يؤمن لها الأغلبية البرلمانية اللازمة، إلا أن دراغي كان حذر -أكثر من مرة في الأيام الأخيرة- من أنه ليس مستعدًا لقيادة ائتلاف حكومي بأغلبية برلمانية مختلفة عن الأغلبية الحالية.

ومع ذلك -حسب الصحيفة نقلًا عن مراقبين- فإن ماتاريلا قد ينجح في إقناع دراغي بتمديد الولاية حتى الاستحقاق الانتخابي المقبل، إذ يتردد أن ماتاريلا قد يستقيل من رئاسة الجمهورية، ويفتح الباب لوصول دراغي إلى سدة الرئاسة، لكن إذا لم تحصل مفاجآت في الأيام أو الساعات المقبلة، فإن إيطاليا على موعد مع انتخابات عامة مبكرة في سبتمبر المقبل، ليكون دراغي الرئيس الثاني لحكومة دولة أوروبية كبرى يسقط منذ بداية الحرب في أوكرانيا.

خيار آخر -حسب الصحيفة- أن يبقى دراغي في منصب رئيس الوزراء، مع الأحزاب نفسها التي تدعمه أو مع مغادرة حزب واحد أو أكثر للائتلاف، أو بدلاً من ذلك، يمكن أن يجد رئيس إيطاليا زعيمًا آخر لتشكيل أغلبية في البرلمان.

وأشارت الصحيفة، إلى أن عودة دراغي أو وجود تكنوقراطي جديد على رأس السلطة، ستسمح للمجلس التشريعي الحالي بالبقاء حتى أوائل العام المقبل، عندما يحين موعد الانتخابات الوطنية المقبلة.

ما سيحدث بعد ذلك يقع على عاتق دراغي، لكن أيضًا مع ثلاثة أحزاب سياسية دعمت حكومته المنهارة ولم تعلن نيتها بوضوح.

من التوقعات المقترحة أيضًا، أن تعود حركة "الخمس نجوم"، التي فجرت الأزمة، من خلال عدم دعم دراغي في تصويت برلماني، الخميس، إلى حظيرة حكومة دراغي، خصوصًا بعد تراجع شعبيتها.

كانت الحركة فازت بنحو 33% من الأصوات في الانتخابات الوطنية الأخيرة عام 2018، ما جعلها أكبر الأحزاب في البرلمان، لكنها الآن تحصل على قرابة 12% فقط.

وحسب الصحيفة الأمريكية، يعني هذا الانخفاض في الإجماع، أن معظم المشرعين الحاليين للحزب لن يُعاد انتخابهم، ما يجعلهم حريصين على إيجاد طريقة للبرلمان الحالي للتعثر فيها.

من جانبه، لم يعلن سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء السابق -حتى الآن- كيف سيتحرك حزبه فورزا إيطاليا في الأزمة القائمة، إلا أن بعض مساعديه أعربوا عن دعمهم لدراغي، إذ كتب ريناتو برونيتا، وهو وزير في عهد دراغي وحليف مقرب من برلسكوني، عبر تويتر "إيطاليا لا تستطيع الاستمرار من دون ماريو دراغي".

موقف اليمين

وعن موقف اليمين، رأت "وول ستريت جورنال" أن واحدة من أكبر علامات الاستفهام هي كيف سيكون رد فعل الرابطة الشعبوية اليمينية، لافتة إلى أن ماتيو سالفيني، زعيم الحزب، لم يصدر تصريحات حتى الآن، لكن بعض الأعضاء البارزين في الرابطة طالبوا دراغي بإعادة النظر في استقالته.

وأشارت إلى أنه بينما دعمت الرابطة حكومة دراغي، انتقد بعض الأعضاء رئيس الوزراء خلال الـ 17 شهرًا التي قضاها في السلطة، لافتة إلى أنه يبدو أن الحزب اليميني هو المجموعة البرلمانية التي من المرجح أن تعرقل حكومة دراغي الجديدة، ومع ذلك، فإن حجم الأغلبية التي حصل عليها رئيس الوزراء في الحكومة السابقة يعني أنه يمكنه تجميع أغلبية من دون الرابطة.

وأوضحت أن الدعم الشعبي للرابطة انخفض، منذ أن قرر سالفيني الدخول في تحالف دراغي الكبير، الذي شمل جميع الأحزاب الرئيسية باستثناء "إخوان إيطاليا".

ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فقد استفاد حزب ميلوني كثيرًا من تراجع شعبية الرابطة، ومن ثمّ فإنه يضغط على برلسكوني وسالفيني، للانضمام إلى دعوته لإجراء انتخابات فورية.

وبالفعل، اتفق الزعماء الثلاثة على الترشح معًا في ائتلاف بالانتخابات المقبلة، وبحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، فإنهم سيفوزون بالأغلبية البرلمانية إذا أجريت الانتخابات.

وفي حديثها عن قرار شركائها المحتملين الانضمام إلى حكومة دراغي، قالت ميلوني: "إن ارتكاب خطأ بشري قد يكون مقبولًا، لكن الإصرار على هذا الخطأ أمر شيطاني".

أما عن الموقف الأوروبي، فبينت الصحيفة الأمريكية، أن الحلفاء الأوروبيين، الذين يؤيدون بقوة بقاء دراغي في الحكم، سيضغطون لإقناعه بالبقاء حتى نهاية الولاية، ليس فقط لأن حزمة الإصلاحات الموعودة للحصول على حصة الأسد من صندوق الإنعاش الأوروبي تتوقف على رئاسته للحكومة الإيطالية، بل أيضًا لأن الفائز في الانتخابات الإيطالية -حال إجرائها- ستكون زعيمة حزب إخوان إيطاليا اليميني المتطرف، جيورجيا ميلوني، على الأرجح متحالفة مع ماتيو سالفيني، الذي ما زالت صورته داخلاً البرلمان الأوروبي مرتديًا قميصًا عليه صورة فلاديمير بوتين، ماثلة في الأذهان.