هل ينتهي عصر العقوبات الأمريكية؟
يبدو أن الأيام الذهبية للعقوبات الأمريكية قد تنتهي قريبًا.

ترجمات – السياق
سلطت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، الضوء على اتخاذ الدول الواقعة تحت طائلة العقوبات الأمريكية، خلال السنوات الأخيرة، المزيد من الإجراءات البديلة لمقاومة هذه العقوبات، والعمل على تعزيز قدراتها الاقتصادية، الأمر الذي من شأنه الحد من فاعلية العقوبات الأمريكية على تلك الدول في المستقبل.
وتساءلت المجلة عن الكيفية التي حمى بها من سمتهم "أعداء أمريكا" أنفسهم، مشيرة إلى أنه طالما كانت العقوبات السلاح الدبلوماسي المفضل للولايات المتحدة، موضحة أن رد إدارة الرئيس جو بايدن على الغزو الروسي لأوكرانيا، خير مثال على ذلك، إذ فرضت واشنطن مجموعة من الإجراءات الاقتصادية العقابية على موسكو وحشدت الحكومات الأخرى لفعل الشيء نفسه.
ورأت أنه من المنطقي أن تكون العقوبات أداة شائعة لدى صانعي السياسة في الولايات المتحدة، لافتة إلى أنها تأتي كحل وسط بين التصريحات الدبلوماسية الفارغة والتدخلات العسكرية المميتة.
ومع ذلك، فإنه -حسب المجلة الأمريكية- يبدو أن "الأيام الذهبية للعقوبات الأمريكية قد تنتهي قريبًا".
مقاومة العقوبات
وأشارت "فورين أفيرز" إلى أن وقائع ثلاث حدثت خلال العقد الماضي، دفعت خصوم واشنطن في العالم إلى تعزيز جهودهم لدعم اقتصادهم الداخلي، وتبني بدائل لمواجهة تداعيات العقوبات، ما أدى إلى ظاهرة جديدة هي "مقاومة العقوبات".
وبينت أنه مع اعتماد واشنطن -بشكل متزايد- على العقوبات، بدأ عدد من الدول المخالفة لسياساتها تحصين اقتصاداتها ضد هذه الإجراءات، وقد أسهمت ثلاثة أحداث بالتحديد، وقعت خلال العقد الماضي، في إقناع هذه الدول بضرورة التصرف ضد أي عقوبات أمريكية محتملة.
عام 2012، قطعت الولايات المتحدة إيران عن نظام سويفت النقدي العالمي، في محاولة لعزلها ماليًا، وقد لاحظ أعداء الولايات المتحدة وخصومها الآخرون ذلك، متسائلين عما إذا كان دورهم سيأتي لاحقًا.
وعام 2014، فرضت الدول الغربية عقوبات على روسيا، بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، ما دفع موسكو إلى جعل الاستقلال الاقتصادي أولوية.
عام 2017، بدأت واشنطن حربًا تجارية مع بكين، سرعان ما امتدت إلى القطاع التكنولوجي، من خلال تقييد تصدير التكنولوجيا الأمريكية المرتبطة بصناعة وتطوير أشباه الموصلات إلى الصين، ما شكّل تحذيرًا لخصوم واشنطن، من إمكانية حظر وصولهم إلى تقنيات التكنولوجيا المهمة.
وحسب"فورين أفيرز"، أدت هذه الحلقات الثلاث إلى ظاهرة جديدة، أطلقت عليها المجلة الأمريكية "مقاومة العقوبات".
وأشارت إلى أن سلطة الولايات المتحدة، في فرض عقوبات على الدول الأخرى، تنبع من أولوية الدولار الأمريكي من جهة، ونطاق رقابة الولايات المتحدة على القنوات المالية العالمية من جهة أخرى.
ومن المنطقي، أن يسعى أعداء الولايات المتحدة إلى ابتكارات مالية تقلل من مزايا عقوبات الولايات المتحدة إذا حصلت، وقد وجدت هذه البلدان، على نحو متزايد، الحل في اتفاقيات مبادلة العملات، وفي بدائل لـ"سويفت"، وفي العملات الرقمية.
عملة صعبة
ورأت "فورين أفيرز" أن ما سمته الإفراط في استخدام العقوبات، لم يكن بالأمر الجيد، مشيرة إلى أنه عام 1998، أعرب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن أسفه لأن الولايات المتحدة أصبحت "سعيدة بالعقوبات".
وأعرب عن قلقه من أن البلاد "في خطر أن تبدو كأننا نريد معاقبة كل من يختلف معنا".
في ذلك الوقت، كانت هذه المخاوف مبالغًا فيها، إذ كانت الولايات المتحدة قوة اقتصادية منقطعة النظير، وكانت العقوبات في بعض الأحيان أداة فعّالة.
على سبيل المثال، أواخر التسعينيات، أجبروا الحاكم الليبي السابق معمر القذافي على تسليم المشتبه بهم في تفجير طائرتين وقبول تفكيك ترسانته من الأسلحة النووية والكيميائية، لكن منذ ذلك الحين، ازدادت وتيرة استخدام العقوبات بشكل كبير، ورد أعداء الولايات المتحدة، من خلال اتخاذ تدابير وقائية للالتفاف على العقوبات المحتملة.
وأوضحت المجلة، أن إحدى الطرق التي جعلت البلدان نفسها أكثر مقاومة للعقوبات، تكون من خلال مقايضات ثنائية للعملات، تسمح لها بتجاوز الدولار الأمريكي، عبر ربط صفقات البنوك المركزية مباشرة ببعضها، ما يلغي الحاجة إلى استخدام عملة ثالثة للتداول.
وأشارت إلى أن الصين تبنت هذه الأداة بحماسة، ووقعت اتفاقيات مبادلة العملات مع أكثر من 60 دولة، بما في ذلك الأرجنتين وباكستان وروسيا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية وتركيا والإمارات العربية المتحدة، بـ 500 مليار دولار، وبهدف واضح "تمكين الشركات الصينية من الالتفاف على القنوات المالية الأمريكية عندما تحتاج إلى ذلك".
ونوهت إلى أنه عام 2020، للمرة الأولى، سوت الصين أكثر من نصف تجارتها مع روسيا بعملة أخرى غير الدولار الأمريكي، ما جعل أغلبية هذه التبادلات التجارية محصنة ضد العقوبات الأمريكية.
ووصفت المجلة تطوير روسيا والصين قنوات الدفع باستخدام الرنمينبي والروبل بغير المفاجئ، لافتة إلى أنه في مارس 2020، كانت منظمة شنغهاي للتعاون، وهي نادٍ سياسي يعد الصين والهند وروسيا أعضاء، قد منحت الأولوية لتطوير المدفوعات بالعملات المحلية، في محاولة للتحايل على الدولار الأمريكي والعقوبات الأمريكية.
تخارج الحلفاء
ورأت "فورين أفيرز" أن رغبة الصين المتزايدة في التخلي عن الدولار الأمريكي أمر مفهوم، بالنظر إلى الحالة السيئة للعلاقات بين واشنطن وبكين، لكن المشكلة أصبحت أن حلفاء الولايات المتحدة يبرمون أيضًا صفقات مبادلة العملات.
عام 2019، اشترت الهند صواريخ إس400 للدفاع الجوي من روسيا، وكان من المفترض أن تؤدي الصفقة البالغة 5 مليارات دولار إلى فرض عقوبات أمريكية، لكن الهند وروسيا أعادتا إحياء اتفاقية مبادلة العملات، التي يعود تاريخها إلى الحقبة السوفييتية، فاشترت الهند الصواريخ الروسية باستخدام مزيج من الروبل والروبية الهندية، وتجنبت العقوبات الأمريكية التي كان من الممكن استخدامها لوقف البيع.
إضافة إلى المقايضة، طورت بعض البلدان أنظمة دفع موازية، لتجنُّب الاعتماد على نظام سويفت، وتأمين بديل حاضر حال فرض عقوبات اقتصادية عليها.
كما اتجهت بلدان مثل الصين إلى اعتماد عملة رقمية مرتبطة ببنكها المركزي مباشرة، ويمكن استخدامها داخل البلاد، وكذلك يمكن الدفع بواسطتها للشركات الصينية من المشترين خارج البلاد، ما ألغى الاعتماد على الدولار أو "سويفت".
وأوضحت المجلة، أن البديل الصيني، المعروف بنظام الدفع عبر الحدود بين البنوك (CIPS)ليس مطابقًا لنظام سويفت حتى الآن، فعام 2021، عالج هذا النظام ما لا يزيد على 12 تريليون دولار في المعاملات، وهو ما يعادل ما تقوم به "سويفت" في أقل من ثلاثة أيام، إضافة إلى ذلك، يركز البديل الصيني على المدفوعات المقومة بالرنمينبي، التي تمثل أقل من عشرة بالمئة من المعاملات المالية العالمية.
وكشفت أن نحو 1300 بنك في أكثر من 100 دولة انضمت إلى الإطار الصيني الجديد، لافتة إلى أنه إذا قُطعت روسيا والصين عن "سويفت"، فإن دعمهما سيكون جاهزًا، وقد تجبر بكين يومًا ما الشركات التي ترغب في الوصول إلى السوق الصينية على استخدام نظام CIPS.
وذكرت بأنه من خلال ذلك، ستعمل الصين على بناء قدرتها على قطع البلدان عن المدفوعات المقومة بالرنمينبي وعن الاقتصاد الصيني، كما يمكن للولايات المتحدة أن تقطع البلدان عن المدفوعات المقومة بالدولار ومن الاقتصاد الأمريكي.
العملة الرقمية
الأداة الثالثة التي يستخدمها خصوم الولايات المتحدة، للإفلات من العقوبات -حسب "فورين أفيرز"- العملة الرقمية.
وأشارت إلى أن قرابة 300 مليون صيني يستخدمون الرنمينبي الرقمي في أكثر من 20 مدينة، بما في ذلك بكين وشنغهاي وشنتشن.
وأفادت بأن هذه العملة الرقمية صادرة من البنك المركزي الصيني وتخزن على الهواتف المحمولة للصينيين.
وتشير التوقعات إلى أن مليار شخص سيستخدمون الرنمينبي الرقمي بحلول عام 2030.
ولا يخفي البنك المركزي الصيني رغبته في أن يتحدى الرنمينبي الرقمي هيمنة الدولار الأمريكي عالميًا.
وترى المجلة أنه على المستوى الفردي، لن يكون لاتفاقيات تبادل العملات وأنظمة الدفع البديلة والعملات الرقمية تأثير في فعالية العقوبات الأمريكية، لكن هذه الابتكارات مجتمعة تمنح البلدان -بشكل متزايد- القدرة على إجراء المعاملات، من خلال قنوات مقاومة للعقوبات وآمنة.
ويبدو أن هذا الاتجاه لا رجوع فيه، إذ لا يوجد سبب للاعتقاد بأن العلاقات بين واشنطن وبكين أو واشنطن وموسكو ستتحسن في وقت قريب، ومن ثمّ فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا أن الأمور تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ما يدفع بكين وموسكو إلى مضاعفة جهودهما في الالتفاف على العقوبات والتقليل من تأثيراتها.
وتضيف المجلة: "بطبيعة الحال، فإن تفاقم التجزئة في النظام المالي العالمي وتحوله إلى جزر منفصلة عن بعضها، يشكل تهديدًا للدبلوماسية الأمريكية والأمن القومي".
وأشارت إلى أنه إضافة إلى تقويض فاعلية العقوبات، سيكون لظهور القنوات المالية المقاومة للعقوبات تأثير في قدرة الولايات المتحدة، التي ستكون لديها نقطة عمياء بشكل متزايد، عندما يتعلق الأمر بالكشف عن الأنشطة العالمية التي تراها "غير مشروعة"، إذ يعد تتبع المعاملات المالية المشبوهة، أو التي تأتي من بلدان معينة أمرًا حيويًا لواشنطن.
وحسب المجلة "كل ذلك يعني أنه في غضون عقد من الزمن، قد يكون للعقوبات الأحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة تأثير ضئيل، ومن المحتمل أن تصبح الإجراءات المتعددة الأطراف البديل الأفضل بالنسبة لها، لكن صوغ هذه العقوبات سيكون أكثر صعوبة، لأنه يحتاج إلى إجماع وجهود دبلوماسية".
أمام ذلك، تؤكد المجلة الأمريكية أن البديل الأفضل لواشنطن، في مواجهة خصومها العالميين، يتمثل في تبني إجراءات عدة، مدعومة من حلفائها، الأمر الذي من شأنه اعتماد إطار عالمي لتعزيز فاعلية العقوبات.