الحرب الأوكرانية... هل تدفع الولايات المتحدة لتغيير استراتيجيتها الكبرى؟

الحرب في أوكرانيا لحظة مثالية للتحرك نحو تقسيم جديد للعمل بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين

الحرب الأوكرانية... هل تدفع الولايات المتحدة لتغيير استراتيجيتها الكبرى؟

ترجمات – السياق

بعد مضي شهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، قيمت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، من خلال سبعة من كبار مفكري السياسة الخارجية، التأثير الذي سيحدثه في التخطيط للسياسة الخارجية والأمن القومي، في الولايات المتحدة وأوروبا.

وقالت المجلة: بعد مرور هذه المدة على الغزو، فإن تسميته التحول التاريخي تبدو فكرة مبتذلة ومكررة في حقيقة الأمر، مشيرة إلى أنها أول حرب عدوانية شاملة في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945.

وأشارت إلى أن الحرب كشفت عن توجه صيني أكبر تجاه روسيا التي وصفتها بـ"المنكوبة"، بينما لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها موحدين منذ عقود كما هم الآن، حتى أن ألمانيا أدركت حاجتها إلى إعادة التسلح.

الصدمة...!

ورأت "فورين بوليسي" أن ما سمتها "صدمة الحرب"، دفعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة كتابة مخططها للأمن القومي، مشيرة إلى أنه كان مقررًا في الأصل أن تصدر استراتيجية الدفاع الوطني لدى وزارة الدفاع الأمريكية، التي تحدد نهج واشنطن للتحديات الأمنية طويلة المدى، في فبراير الماضي، إلا أنها لم تصدر حتى الآن.

وشددت على أنه عندما تصدر النسخة المنقحة من أهم وثيقة أمنية لواشنطن، يتعين عليها أن تعكس الحقائق الجديدة على الأرض، مبينّة أن ما وصفته بـ"العدوان الروسي" غيّر الأمن الأوروبي تغييرًا جوهريًا بطرق لا تزال غير واضحة في ظل استمرار الحرب، لأسباب ليس أقلها انعدام اليقين بمدى التقارب بين بكين وموسكو بسبب الصراع، علاوة على ذلك، منحت استجابة الغرب فجأة -بما في ذلك حرب اقتصادية غير مسبوقة- المخططين للسياسة الخارجية، أدوات أكبر للاستفادة منها، أثناء تخطيطهم للتحديات المستقبلية.

وتساءلت المجلة الأمريكية: "كيف ستغير الحرب، الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، التي بدت -قبل شهر- تركز على الصين والمحيطين الهندي والهادئ؟"، مشيرة إلى أنها طلبت من سبعة مفكرين بارزين في السياسة الخارجية تقييم هذه الأوضاع.

من شرقي آسيا إلى الخليج

البداية كانت من ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، الذي قال عن الأمن الأوروبي: الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة ركزت -أكثر من قرن- على المساعدة في الحفاظ على توازنات مواتية للقوة في أوروبا وشرقي آسيا، وبدرجة أقل في الخليج العربي، موضحًا أن صعود الصين كان أكبر تحدٍ على المدى الطويل، لقدرة الولايات المتحدة في الحفاظ على هذه الترتيبات الإيجابية للقوة، ومن ثمّ فإن ما يراه "الغزو الروسي الوحشي" لأوكرانيا لا يغير هذه الحقيقة.

وأضاف والت: بالنظر إلى المستقبل، ينبغي لإدارة بايدن ألا تسمح للأحداث المروعة في أوروبا بصرف انتباهها عن المهمة الأكبر بإعادة بناء القوة في الداخل وموازنة القوة الصينية في الخارج.

وتابع "إذا فهمنا الأمر على النحو الصحيح، فإن الحرب في أوكرانيا تُظهر أن تحمل أوروبا مسؤولية أكبر عن أمنها، ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل ضروري أيضًا"، مشيرًا إلى أن الحرب كانت جرس إنذار للأوروبيين، الذين اعتقدوا أن نشوب حرب كبيرة في قارتهم أصبح مستحيلًا، بسبب القواعد ضد الغزو والمؤسسات الدولية، والاعتماد الاقتصادي المتبادل، والضمانات الأمنية الأمريكية.

قوة أوروبا المدنية

ووصف والت قرار روسيا بالغزو بأنه "تذكير وحشي" بأن القوة التي لا تقهر لا تزال شديدة الأهمية، وأن دور أوروبا الذي تنسبه لنفسها كقوة مدنية ليس كافيًا، مشيرًا إلى أن الحكومات من المملكة المتحدة إلى فنلندا استجابت بقوة، ما يدحض التنبؤات بأن التنافر الاستراتيجي داخل أوروبا، قد يمنع القارة من التعامل على نحو فعال مع التهديد المشترك، مضيفًا: "حتى ألمانيا المسالمة في عهد ما بعد الحداثة، يبدو أن الرسالة وصلت إليها".

وفي النهاية، يرى الكاتب أن أوروبا يمكنها التعامل مع التهديد الروسي المستقبلي بمفردها، مشددًا على أنه كثيرًا ما كانت لدى أعضاء "الناتو" الأوروبيين إمكانات قوة كامنة، تفوق بكثير التهديد الذي يواجههم من الشرق، لأنهم معًا لديهم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان روسيا، وأكثر من 10 أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي، مشيرًا إلى أنه حتى قبل الحرب، كان الأعضاء الأوروبيون في "الناتو" ينفقون ما بين ثلاثة وأربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على الدفاع كل عام، والآن مع الكشف عن قدرات روسيا الحقيقية، يجب أن تزداد الثقة بقدرة أوروبا في الدفاع عن نفسها زيادة كبيرة.

لهذه الأسباب -حسب والت- فإن الحرب في أوكرانيا لحظة مثالية للتحرك نحو تقسيم جديد للعمل بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، حيث تكرس واشنطن اهتمامها لآسيا، بينما يتولى شركاؤها الأوروبيون المسؤولية الأساسية للدفاع عن أنفسهم.

استسلام روسيا

وتنتقل المجلة لرؤية "شانون أونيل"، نائبة رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، التي قالت إن قرار الغزو الروسي قد يعيد في أوكرانيا أصداء ماضي أوروبا الوحشي في القرن العشرين، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها استجابوا برد واضح ينتمي للقرن الحادي والعشرين، عندما فرضوا عقوبات اقتصادية ومالية غير مسبوقة، مع توفير قدر من المساعدات العسكرية التقليدية لكييف.

وذكرت أونيل، أن استجابة الولايات المتحدة وحلفائها لم تكن مجرد رد فعل محسوب لتجنُّب التصعيد مع قوة نووية، بل كانت أيضًا تجربة جريئة في الابتعاد عن قرون من كيفية خوض الحروب وتحديد مكانة القوة العظمى، إذ إنه بدلًا من الاحتلال العسكري، يقوم نهج الولايات المتحدة على الإخضاع المالي والدمار الاقتصادي.

ورأت أن العقوبات الاقتصادية ضد روسيا حصار افتراضي وليست حصارًا فعليًا، لكن الهدف هو نفسه "الضغط على روسيا للاستسلام"، مشيرة إلى أن ذلك يمكن أن يغير أدوات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مع عواقب عميقة لنظرة واشنطن.

موسكو وبكين

أما توشيهيرو ناكاياما، أستاذ السياسة الأمريكية والسياسة الخارجية بجامعة كيئو اليابانية، فأعاد الحديث عن تطلعات الصين نحو الهيمنة، مشيرًا إلى أن حرب روسيا في أوكرانيا، ستُغير التصورات الجيوسياسية أكبر بكثير من تغييرها للواقع الجيوسياسي.

وأوضح، أن روسيا تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين تلوح في الأفق كتحدٍ قصير المدى، ستظل الصين تمثل التهديد المهيمن على المدى المتوسط إلى المدى الطويل، ويرى ناكاياما أن تحقيق التوازن بين الاثنين سيكون أمرًا مهمًا للغاية.

نظام دولي بتخطيط روسي

وأوضحت آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة نيو أمريكا، أن الرأي المتفق عليه بشأن غزو بوتين لأوكرانيا، أننا في مواجهة منعطف يخص الشؤون العالمية، وأن حقبة ما بعد الحرب الباردة انتهت، وأنه إذا انتصر بوتين، فسيعيد كتابة قواعد النظام الدولي الليبرالي.

وترى أن التغيير الأساسي اليوم ليس حرب بوتين، بل رفض الصين إدانة هذه الحرب، مشيرة إلى خطورة العالم الذي تدعم فيه الصين وروسيا بعضهما، في إعادة رسم الخرائط الإقليمية وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي، بدلًا من العمل على كسب النفوذ من داخل المؤسسات القائمة، موضحة أنه في هذا السياق، تتجلى أكثر مدى حماقة إدارة بايدن في تصعيد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، باعتبار ذلك التنافس نقطة محورية لسياستها الأمنية.

"الصين أولًا"

وعن ضرورة إتمام التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا، قال رجا موهان، زميل أول في معهد سياسة المجتمع الآسيوي: على عكس استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورأت كلًا من روسيا والصين تهديدًا مساويًا للولايات المتحدة، ركزت إدارة بايدن على الصين في توجيهاتها المؤقتة لعام 2021، حتى أن البيت الأبيض تواصل مع الكرملين سعيًا إلى علاقة مستقرة، ويمكن التنبؤ بها تسمح لواشنطن بالتركيز على أولوياتها في المحيطين الهندي والهادئ.

وتساءل الكاتب عن مدى استمرار ميل بايدن نحو المحيطين الهندي والهادئ، مضيفًا: "هل تمتلك الولايات المتحدة الحيز السياسي والموارد العسكرية الكافية للتعامل مع التحديات المتزامنة في أوروبا وآسيا؟"، مشيرًا إلى أن بعض المعلقين في آسيا يشعرون بالقلق من أن التهديد الذي تمثله روسيا في أوروبا، قد يجبر بايدن على تخفيف المواجهة مع الصين، والعودة إلى استراتيجية "الصين أولًا" في المنطقة.

أخطار استراتيجية

أما روبين نيبليت، مدير معهد تشاتام هاوس، فيرى أن تحدي واشنطن الأكبر هو الإبقاء على عزلة روسيا، مشيرًا إلى صعوبة محاولة فصل الصين عن روسيا في خضم هذه الأزمة، إذ إن التهديد بفرض عقوبات ثانوية على بكين، إذا قدمت دعمًا اقتصاديًا صريحًا لروسيا، سيحمل معه مخاطر كبيرة على استراتيجية الولايات المتحدة الأوسع، وستظل السوق الصينية مهمة للدول الأوروبية والآسيوية بطرق لا تنطبق على الاقتصاد الروسي، وستكون السيطرة على التحالفات -عبر المحيطين الأطلسي والهادئ- أكثر صعوبة إذا انفلت الصراع من كونه بين الغرب وروسيا فحسب، ليصبح بين الغرب والحليفتين روسيا والصين.

البراغماتية الجيوسياسية

ويرى كيشور محبوباني، الزميل البارز بمعهد أبحاث آسيا في جامعة سنغافورة، أن الدرس المستفاد لاستراتيجية الولايات المتحدة من حرب روسيا في أوكرانيا بسيط جدًا، هو أن البراغماتية الجيوسياسية أفضل في الحفاظ على السلام، من وجهة النظر الأخلاقية المطلقة، التي ترى أن كل بلد حر في اختيار مصيره، بصرف النظر عن العواقب الجيوسياسية.

وأشار إلى أنه على عكس الرد الغربي القوي على الغزو الروسي لأوكرانيا، لن يكون هناك رد آسيوي موحد مماثل ضد الغزو الصيني لتايوان في حال حدوثه، مشدداً على أن عدم وجود رد قوي، لن يثبت أن الدول الآسيوية غير أخلاقية، بل إنها لا توافق على التهور الجيوسياسي فحسب.