الألغام والذخائر.. الإرث المرير للحرب لا يزال تحت الأرض في العراق
بحسب تقرير لدائرة الأمم المتحدة المتخصصة بنزع الألغام، فإن نحو 1100 ميل مربع حتى الآن، ضمن الأراضي التي تنتشر فيها المتفجرات.

ترجمات – السياق
قالت مجلة فورين بوليسي الامريكية، إن آلاف الالغام والذخائر العنقودية والعبوات الناسفة غير المنفجرة في العراق، تعيق قدرته على استعادة عافيته الاقتصادية، وإعادة إعمار بنيته التحتية، التي دمرتها الحروب والاحتلالات والنزاعات المسلحة، خلال العقود الماضية.
وذكرت المجلة أن مجموعة "هالو تراست" البريطانية غير الربحية، التي تعمل على نزع الألغام والعبوات غير المتفجرة، في إطار عمل دائرة الأمم المتحدة المتخصصة بنزع الألغام، استطاعت إزالة نحو 700 عبوة ناسفة بدائية الصنع، من أحد الحقول الشاسعة في مدينة بيجي بمحافظة صلاح الدين شمالي بغداد.
ووصفت المجلة الأمريكية، عملية تطهير أحد الأماكن من مخلفات الحروب بأنها: "مثل رقبة الزرافة، تمد عربة كاسحة ألغام دلوًا مسننًا إلى الأمام، وتغمس أسنانها في الأرض المنكوبة، لسحب التربة الجافة للخلف، قبل وضعها برفق على حافة الحقل".
وأضافت: "الحاوية التي استُخرجت تحتوي على 20 لترًا (نحو 5 جالونات) من المتفجرات، وهي قوة نيران كافية لقتل العديد من الأشخاص وتحطيم عربة مصفحة"، مشيرة إلى أن خطورة هذه المتفجرات تأتي من أنها منثورة في كل مكان، إذ إن هناك حقلًا شاسعًا مليئًا بالعشرات من القنابل والعبوات الناسفة والألغام.
جزء بسيط
ووصفت "فورين بوليسي" تلك المخلفات، بأنها جزء بسيط جدًا من مئات آلاف المتفجرات محلية الصنع التي زرعها تنظيم داعش، عندما كان يشيع الرعب في كل أرجاء العراق.
وأوضحت أنه في بيجي -تلك المدينة الصناعية الواقعة في الطريق الرابط بين العاصمة بغداد ومدينة الموصل شمالي البلاد- تمتد أحزمة القنابل المدفونة في باطن الأرض، بالقرب من مصفاة نفط كبيرة، وهي أكبر مصافي النفط في العراق، التي كانت يومًا من الأيام تحت سيطرة مقاتلي داعش.
ونقلت عن عمر حسام -وهو قائد فريق تابع لمنظمة "هالو ترست"- قوله: تنظيم داعش زرع عبوات ناسفة بدائية الصنع، على بُعد 3 إلى 5 أمتار من بعضها، مشيرًا إلى أن هناك العديد من المناطق التي تعج بهذه الأنواع من المتفجرات الخطيرة.
وذكرت "فورين بوليسي" أن هذه الأسلحة العشوائية، إلى جانب القذائف غير المنفجرة وحقول الألغام من الحروب السابقة، جعلت العراق أحد أكثر الدول تلوثًا بالمخلفات الحربية والعبوات الناسفة.
وأضافت: "مثل الرماد الناجم عن ثوران بركاني، تسببت عمليات اندلاع الصراع المتكررة -على مدى العقود الماضية- في ترك متفجرات متناثرة عبر مساحات شاسعة من البلاد".
ضحايا بالآلاف
وعن الضحايا الذين يدفعون أرواحهم ثمنًا لوجود مثل هذه المتفجرات، أظهر أحدث بيانات مرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية، أن الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، تتسبب في "أعداد كبيرة من الضحايا"، مشيرة إلى سقوط أكثر من 7 آلاف قتيل وجريح، في جميع أنحاء العالم عام 2020، أي ما يقرب من 20 شخصًا يُقتلون أو يُصابون كل يوم.
كما أشارت المجلة إلى أن الحرب الإيرانية العراقية، وحرب الخليج عام 1991، والغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، خلفت العديد من حقول الألغام القديمة والذخائر العنقودية غير المنفجرة منذ الثمانينيات، مضيفة أن هذه المشكلة تفاقمت بسبب الاستخدام غير المسبوق للعبوات المتفجرة اليدوية الصنع من قبل تنظيم داعش في مناطق الشمال، إلى جانب عدد كبير من قذائف الهاون والمدفعية، التي أطلقتها القوات العسكرية، سواء "الجهادية" أو الحكومية.
وأوضحت "فورين بوليسي" أن مشكلة استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة، لا تكمن في قدرتها على قتل السكان وإصابتهم وهلعهم ونزوحهم فحسب، بل في تصميمها الذي لا يمكن التنبؤ بأدائه، وفي الاستخدام غير الدقيق لها، الذي يتسبب في عدم انفجار الكثير منها.
وترى أن تلك المخلفات تهدد أرواح المدنيين سنوات عدة بعد انتهاء الصراع، ما يجعل الأوضاع تدور في حلقة مفرغة، مشيرة إلى أن "الوجود المستمر لتلك المتفجرات يعيق النمو الاقتصادي وعودة النازحين إلى ديارهم، ويعرقل الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية، والخدمات الأساسية".
إعادة الإعمار
وأكدت "فورين بوليسي" أن هذه المتفجرات، تعيق بالفعل جهود إعادة الإعمار، مشيرة إلى أن التلوث الناجم عن الذخائر المتفجرة في المناطق الزراعية، منع الفلاحين في العراق من استغلال أراضيهم أو كسب قوتهم بالشكل الأمثل، كما اكتُشف تلوث مماثل في مشاريع البنية التحتية، ما أعاق جهود إعادة الإعمار ودوران عجلة الاقتصاد.
وأضافت المجلة، أنه بحسب تقرير لدائرة الأمم المتحدة المتخصصة بنزع الألغام، فإن نحو 1100 ميل مربع حتى الآن، ضمن الأراضي التي تنتشر فيها المتفجرات، مشيرة إلى أنه "لم تتم إزالة سوى قدر ضئيل منها، كما لا تُعرف على وجه الدقة المساحة الحقيقية لهذا النوع من الأراضي".
وحسب المجلة الأمريكية، لم يتضح عدد ضحايا تلك المتفجرات في العالم، إلا أن الباحثين يقدرونها بأكثر من 10 آلاف قتيل، ونحو 24 ألف جريح خلال العقدين الماضيين.
وأوضحت "فورين بوليسي": رغم دحر تنظيم داعش إلى حد كبير حاليًا، فإنه لا تزال بعض جيوب التمرد في العراق، مشيرة إلى أن ما تسميه "هوس" تنظيم داعش بملء مناطق سيطرته بالمتفجرات الفتاكة، يلقي بظلاله على المشهد، ويواصل إلحاق خسائر فادحة بالمدنيين.
وذكرت أنه في كثير من المناطق، يتم تطهيرها من مخلفات الحروب "يدويًا"، مشيرة إلى أن الأزمة أكبر من ذلك، خصوصًا في بيجي، إذ تحتاج إلى تدخل دولي وتطهيرها آليًا، لمعرفة الأماكن الموبوءة.
وأشارت إلى أن فريق عمل "هالو تراست" البريطانية يعتمد في بعض الأحيان، على تجنيد السكان لرسم خريطة للتهديدات، وتثقيف العائلات بالمخاطر، وتحديد الطرق الآمنة للأطفال للذهاب إلى المدارس، ونشر المركبات المدرعة المتخصصة لجعل الأرض آمنة مرة أخرى.
معاناة امرأة
ورصدت "فورين بوليسي" معاناة امرأة عراقية تدعى عتاب جلوي، إذ فقدت بصرها في انفجار عبوة ناسفة، في السيارة التي كانت بها هي وأفراد أسرتها أثناء فرارهم في يناير 2015 من مدينة بيجي، بعد سيطرة تنظيم الدولة عليها.
وأشارت إلى أن جلوي (33 عامًا) كُتبت لها النجاة مع فقد بصرها، بينما لقي اثنان من أبنائها مصرعهما في الحادث، ونقلت المجلة عنها قولها: "لقد دمر تنظيم الدولة حياتي ومستقبلي".
وتعلق المجلة الأمريكية على ذلك بالقول: بيجي تجسد المأساة القاسية لحرب المدن، التي باتت نمطًا من العنف، يزداد شيوعًا في الصراعات الحديثة، التي امتد تأثيرها لأكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم.
وتضيف: "لكن ليست العبوات الناسفة وحدها التي ما زالت تصيب بيجي، فقد دمرت الاشتباكات بين القوات الموالية للحكومة وتنظيم الدولة الكثير من المدينة، تاركة عددًا مخيفًا من المخلفات غير المنفجرة".
ويشكل المدنيون أغلبية الضحايا، لا سيما في المناطق التي يجبر فيها الفقر الناس على المخاطرة في المناطق الملوثة بالمتفجرات، بينما شكل الأطفال، الذين يميلون إلى حمل مخلفات المتفجرات واللعب بها، نِصف عدد الضحايا المدنيين العام الماضي.
ضعف التمويل
وعن عمليات التمويل الدولية، لتطهير العراق من مخلفات الحروب، أوضحت "فورين بوليسي" أنه بين عامي 2014 و2015، زاد التمويل الغربي للتطهير والتوعية بالمخاطر ومساعدة الضحايا هناك بأكثر من 40 في المئة، بعد صعود تنظيم داعش، حيث ارتفع من 36 مليون دولار إلى ما يقرب من 52 مليون دولار، وفقًا لمرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية.
وأشارت إلى أن هذا التمويل بلغ ذروته عام 2017 بأكثر من 203 ملايين دولار، لكنه بدأ الانكماش منذ ذلك الحين، إذ إنه في آخر إحصاء، انخفض إلى ما يقرب من نِصف هذا المبلغ.
ونقلت المجلة عن ميشيل رنتنار، السفير الهولندي في العراق، الذي تعد بلاده من المانحين الرئيسيين للعمل ضد الألغام، قوله: "بشكل عام، المساعدات للعراق آخذة في التناقص، ليس فقط من حيث إزالة الألغام، وإنما هناك إحجام عن الاستمرار في تقديم المساعدات لهذا البلد منذ فترة طويلة".
وعن دور الولايات المتحدة، أوضحت "فورين بوليسي" أن واشنطن تأمل أيضًا تسليم (قضية إزالة الألغام) إلى الحكومة العراقية، لكنها تعهدت بالحفاظ على المستويات الحالية لدعم إزالة الألغام في العراق، التي استقرت في السنوات الأخيرة، بعد الانخفاض الكبير عام 2018 من أكثر من 107 ملايين دولار إلى 40 مليون دولار عام 2020، وفقًا لأحدث بيانات مرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية.
ونقلت المجلة عن ماثيو تولر، سفير الولايات المتحدة في العراق، قوله: "بشكل عام، هناك إنفاق أقل من المانحين الآخرين، وربما من الحكومة العراقية أيضًا، لكن بالنسبة للولايات المتحدة، ما زلنا نعطي الأولوية للتعامل مع التلوث في المناطق المحررة من داعش".