كلى للبيع... آخر محاولة لأفغان يحاصرهم الفقر
تشهد أفغانستان أزمة اقتصادية وإنسانية، عمقتها سيطرة حركة طالبان على الحكم في أغسطس، وتجميد الولايات المتحدة على الأثر مليارات الدولارات من أصول المصرف المركزي

السياق
بعدما تراكمت ديونه ولم يعد قادراً على إطعام أطفاله، ظنّ نور الدين أن بيع كليته سيحل أزمته، لكنّه لم يتوقع أن خضوعه لعملية النقل في مدينة هرات الأفغانية، سيشل قدرته على العمل بعدما خارت قواه الجسدية.
ويقول الرجل، وهو أب لأربعة أطفال بمنزله المتواضع في هرات "وجب عليَّ أن أفعل ذلك من أجل أطفالي... لم يكن لدي أي خيار آخر".
لكن اليوم، يجوب ابنه فريد الذي لم يتجاوز 12 عاماً، بالنيابة عنه شوارع هرات، بحثاً عن زبائن يُلمع لهم أحذيتهم.
وتشهد أفغانستان أزمة اقتصادية وإنسانية، عمقتها سيطرة حركة طالبان على الحكم في أغسطس، وتجميد الولايات المتحدة على الأثر مليارات الدولارات من أصول المصرف المركزي.
وحذرت الأمم المتحدة مراراً، من أن أكثر من نِصف سكان البلاد يواجهون خطر الجوع، بينما فقدت العملة المحلية نحو ثلاثين في المئة من قيمتها أمام الدولار.
خلال السنوات الماضية، لجأ كثيرون من الأفغان إلى بيع كلاهم بمبالغ تؤمن لهم مصاريفهم الأساسية، ويدفع المحتاجون إلى كلى تكلفة المستشفى.
وتحدثت وكالة فرانس برس، مع ثمانية أشخاص على الأقل، باعوا كلاهم خلال السنوات الماضية، بينهم اثنان خضعا لعملية النقل خلال الخريف.
ويتراوح عادة ثمن الكلية بين ألفين وثلاثمئة آلاف وخمسمئة دولار أميركي، ولو أن البعض، نتيجة العوز، يقبل أحيانًا بمبلغ أقل.
وقال شخصان لوكالة فرانس برس، بينهما نور الدين، إنهما خضعا للعملية مقابل 1500 دولار فقط خلال الأشهر الستة الماضية.
ويقول نور الدين (32 عاماً)، بينما يجلس إلى جانب بئر قديمة تحت شجرة يابسة في باحة منزله الصغير: "في السابق، كان الكثيرون يعملون وكانت الشركات في حالة جيدة".
لكن قبل خمسة أشهر، حسم المعمل الذي كان يعمل به من راتبه، ليصل إلى ما يساوي ثلاثين دولاراً فقط، فلم يكن منه سوى أن استقال ظناً أنه سيجد دخلاً آخر.
وجد نفسه عاطلاً
في باحة المنزل، علقت العائلة ثياباً باهتة، بعضها ممزق، على أغصان أشجار يابسة. ويقي غطاء بلاستيكي ألصق على نافذة المنزل بدلاً من الزجاج، العائلة، من برد الشتاء.
ضاقت الحال بنور الدين، فقرّر بيع كليته، لكن المبلغ تبخر سريعاً، إذ سدّد منه الديون المتراكمة عليه.
ويقول: "أنا نادم جداً. لم يعد باستطاعتي العمل، أشعر بالألم، ولا يمكنني أن أحمل أي شيء ثقيل".
هكذا، بات فريد مسؤولاً عن تأمين لقمة عيش العائلة. بعد ساعات طويلة في الشارع، يعود إلى المنزل وفي جيبه ما يعادل سبعين سنتاً فقط.
مضطرة
ويعد بيع وشراء الكلى أمراً غير قانوني، بحيث يجدر بالمتبرع أن يكون أحد أفراد العائلة، أو أي شخص لا يبغى الربح، لكن العملية في أفغانستان ليست منظمة.
ويوضح الجراح المرموق السابق من مدينة مزار شريف الشمالية محمّد وكيل متين أنه "ليس هناك أي قانون... لإدارة كيفية التبرع بالأعضاء أو بيعها، لكن موافقة المتبرع ضرورية".
وتُعرف هرات، غربي البلاد، القريبة من الحدود الإيرانية، بعمليات نقل الكلى الذي بدأ العمل فيه قبل نحو ست سنوات في مستشفيين خاصيين بالمدينة.
ويقصد هرات أفغان من كل أنحاء البلاد لإجراء العملية، وفق ما يقول الجراح وخبير عمليات نقل الكلى محمّد بصير عثماني. كذلك يتوافد إليها أفغان من خارج البلاد، حتى في الهند وباكستان.
وخضع المئات لعمليات نقل الكلى، أغلبيتهم في مستشفيي هرات، وفق عثماني الذي يؤكد أن الأهم "موافقة" المتبرع.
وينفى الطبيب أي علاقة للمستشفى باتفاقيات بيع الكلى. ويقول: "لا نحقّق من أين يأتي المريض أو المتبرع أو كيف، هذه ليست وظيفتنا". ويضيف: "حين يأتون إلى المستشفى، نأخذ منهم الموافقة الخطية وتسجيل فيديو، وتحديداً من المتبرع".
وقد يجد الراغبون ببيع كلاهم مباشرة مرضى في المستشفى، يبحثون عن متبرعين أو قد يلجأون إلى سماسرة يأخذون حصتهم من العملية.
في غرفة تفوح منها رائحة العفن والرطوبة، تروي آزيتا أن "سمساراً" وجد لها زبوناً يتحدّر من محافظة نمروز الجنوبية، وقبل ثلاثة أشهر، خضعت للعملية.
وتقول: "بعت كليتي مقابل 250 ألف أفغاني (نحو 2500 دولار أميركي)، دفعت منها عشرة آلاف للسمسار".
ثم ترفع عباءتها الزرقاء الباهتة، ليظهر من تحتها أثر جرح على جانبها الأيسر.
وتقول: "بعتها كي لا يعاني أطفالي" خصوصًا بعدما وجب عليها إدخال اثنين منهم إلى المستشفى لتلقي العلاج من سوء التغذية.
وتضيف: "وجب عليَّ أن أقدم على هذه الخطوة، زوجي لا يعمل، وتراكمت علينا الديون".
لم يسعف ثمن الكلية العائلة طويلاً. اليوم، يفكر الزوج أيضاً في الإقدام على الخطوة ذاتها.
ويقول الرجل الذي يعمل بأجر يومي: "أصبح الناس أكثر فقراً... الكثيرون يبيعون كلاهم بدافع اليأس".
قرية الكلية الواحدة
وفي الدول المتطورة، يكمل المتبرع والمتلقي حياتهما بشكل طبيعي، خصوصاً بعد تلقيهما الاهتمام الطبي اللازم، لكن وسط قطاع صحي منهك في أفغانستان، فإن الوضع ليس بهذه السهولة.
ويشير متين إلى صعوبة حصول متابعة طبية جيدة، فيقول: "ليست هناك مؤسسات طبية حكومية، لتسجيل البائع والمتبرع، وإجراء فحوص دورية".
على مرّ السنوات الماضية، باع العشرات، وبينهم خمسة أشقاء، من قرية متواضعة قرب هرات، كلاهم حتى باتت القرية تُعرف بـ"قرية الكلية الواحدة".
ويقول غلام نبي، أحد الأشقاء الخمسة: "لم يجعلني ذلك ثرياً، لا تزال لدينا ديون وما زلنا فقراء".
قبل ستة أشهر، حذت جارته شكيلة (19 عاماً) الوالدة لطفلين حذو الأشقاء الخمسة.
وتقول: "لم يكن لدينا حل بسبب الجوع".
تجلس شكيلة على الأرض في منزل غلام نبي، إلى جانبها زوجها وقد غطت وجهها، الذي لا يظهر منه سوى العينين.
يبحث زوجها يومياً عن العمل في هرات، لكن ما يعود به إلى المنزل ليس كافياً لإعالة الأسرة.
وتقول: "إذا وجد عملاً نأكل، وإلا لا نأكل".
باعت شكيلة كليتها مقابل 1500 دولار فقط، واستخدمت أغلبية المبلغ لسداد الديون المتراكمة.
كليتي أو ابنتي
ولم ترد حركة طلبان على أسئلة وكالة فرانس برس عن الموضوع، لكن بعد عودتها إلى الحكم، أوقفت العمل ببرنامج نقل الكلى شهرين، وشكلت لجنة لتنظيم هذه العمليات.
وتكمن إحدى مهام اللجنة، وفق عثماني، في ضمان "ألا يكون هناك أي اتفاق مالي بين المتلقي والمتبرع".
لكن في هرات، لا يزال العوز يدفع بالبعض للبحث عن مشترين.
في باحة منزل تقطنه مع عائلات أخرى، لا تتمكن عزيزة (20 عاماً)، الوالدة لثلاثة أطفال، من حبس دموعها.
وتقول بصوت يرتجف: "أطفالي يتسولون في الشوارع".
وتضيف: "نرتجف جراء البرد من الصباح حتى المساء". ولذلك، تنتظر مشترياً لكليتها.
وتقول: "إذا لم أبع كليتي، سأجبر على بيع طفلتي" التي تبلغ عاماً واحداً فقط.
بصرامة مطلقة يتدخل زوجها، مؤكداً: "لا يهم... الكلية أو الابنة... عندما يأتي المشتري الأول، سنبيع".