بلومبرغ: التهديد النووي لبوتين مرعب.. حتى لو كان مخادعًا

مستبد مدفوع بالتظلم والفخر يستخدم استراتيجية الردع لخوض حرب برية في أوروبا... عندما ترحل العقائد القديمة يبقى الإرهاب

بلومبرغ: التهديد النووي لبوتين مرعب.. حتى لو كان مخادعًا

ترجمات - السياق

كل الأنظار تتجه نحو الحرب التقليدية الجارية في أوكرانيا، لكن نوعًا مختلفًا جدًا من الصراع يلوح في الأفق، فقبل الغزو أجرى بوتين تدريبات على الأسلحة النووية حول حدود روسيا مع أوكرانيا، وفي حال فاتت هذه المعلومة عن أي شخص، فإن خطابه الذي يبرر الغزو يذكّر المستمعين بأن بلاده لا تزال "واحدة من أقوى القوى النووية"، بحسب "بلومبرج".

والأسوأ من ذلك، أن هذه التصريحات جاءت مقرونة بتحذير لبوتين: "كل من يحاول عرقلتنا، وأن يسبب تهديدات لبلدنا، سيعاني عواقب لم يواجهها في تاريخه"، وبعد ذلك جاء إعلانه بوضع القوات النووية الروسية في "حالة تأهب قصوى".

 

السلاح المطلق

فسَّر العديد من الاستراتيجيين الغربيين كل ذلك، بأنه تهديد لحث الأوكرانيين على الاستسلام أو تخويف الأوروبيين.

مهما كانت دوافعه، فإن بوتين يستخدم الردع النووي كغطاء لهجوم عسكري تقليدي واسع النطاق، حقيقة هذا تحول مشؤوم للأحداث، فهو يحاول إجبار الخصوم على تبني مواقف حذرة وغير تصادمية.

لكن فهم كيفية تطور مذاهب الردع، خلال الحرب الباردة، يؤكد الدرجة التي وصلنا إليها ونحن نسبح في مياه مجهولة.

تبدأ أغلبية روايات الاستراتيجية النووية، بإلقاء الولايات المتحدة قنابل ذرية على اليابان عام 1945، وفي الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك، كتب مجموعة من العلماء في جامعة ييل مقالات عن الحرب النووية، جمعوها في كتاب قصير بعنوان "السلاح المطلق".

المقطع الأكثر تأثيرًا في مجموعة المقالات، كتبه المفكر العسكري برنارد برودي في فضاء بضع فقرات، حيث عرض الآثار المحيرة للعقل للقنبلة في الاستراتيجية العسكرية، ما يجعل مقالته تستحق القراءة.

 وأشار برودي إلى أنه "إذا كان من الممكن استخدام القنبلة الذرية، بلا خوف من انتقام كبير بالمثل، فمن الواضح أن المعتدي سيتشجع". 

وقال إن الطريقة الوحيدة لمواجهة هذا الأمر "التأكد قدر الإمكان من إيضاح الأمر للمعتدي الذي يستخدم القنبلة، أنها سوف تُستخدم ضده".

 في نهاية أسوأ حرب في تاريخ العالم، أقر برودي بأن "احتمال أن يصبح رجال غير مسؤولين أو يائسين مرة أخرى حكام دول قوية ممكن، ولا يمكن استبعاده في المستقبل"، لكنه أكد أنه من الممكن إبعاد هؤلاء القادة وأنصارهم العسكريين عن فكرة "أن العدوان سيكون غير مكلف".

واختتم برودي بهذه الأسطر المقتبسة: "حتى الآن كان الهدف الرئيس لمؤسستنا العسكرية هو كسب الحروب. من الآن فصاعدًا، يجب أن يكون هدفها الرئيس هو تفاديها. لا يمكن أن يكون لها أي غرض آخر تقريبًا ".

 

الانتقام الشامل

 هذه الحجة وجدت القليل من المتقبلين لها في البداية، ثم وجدت بعض المذاهب الأخرى صالحًا فيها، على سبيل المثال، قدم وزير الخارجية جون فوستر دالاس عقيدة "الانتقام الشامل"، حيث يمكن مواجهة الهجمات التقليدية برد نووي غير متناسب.

ويعتقد آخرون، مثل هنري كيسنجر، أن هناك مساحة لحرب نووية "محدودة"، حيث يمكن أن تتعايش الأسلحة النووية التكتيكية مع الأسلحة التقليدية، ولا يزال البعض يعتقد أنه من الممكن شن "الضربة الأولى" الوقائية التي تدمر الترسانة النووية للعدو.

ولم يكن لدى برودي سوى القليل من الصبر لمثل هذا التفكير، عام 1951، انتقل إلى مؤسسة راند، حيث وسع الفكرة التي اقترحها لأول مرة في مقالته الأساسية، وانضم إليه استراتيجيون آخرون: عالم السياسة ألبرت فولستيتر؛ الخبير الاقتصادي توماس شيلينج؛ متعدد الثقافات، وهيرمان كان، وغيرهم.

بدأ هؤلاء المفكرون مناقشة الفروق الدقيقة في الاستراتيجية النووية بحماسة، وكانت مؤسسة راند هي ديرهم، وأدت مداولاتهم إلى ظهور أساسيات الاستراتيجية النووية الحديثة.

 

حرب نووية

 لقد تقدموا في عرض أفكارهم، في وقت جعلت فيه التطورات التكنولوجية الضربة الأولى الناجحة مستحيلة بشكل متزايد: يمكن للغواصات التي اخترعت حديثًا وقتها أن تكمن من دون اكتشافها، وتطلق الضربة الانتقامية من الدولة المستهدفة؛ أو يمكن للصواريخ في الصوامع الجوفية أن تفعل الشيء نفسه.

دفعت هذه التطورات هؤلاء المفكرين إلى استنتاج ثوري: إذا أدرك كلا الجانبين أن الضربة الأولى ستؤدي حتمًا إلى ضربة ثانية مدمرة في المقابل، لن يستخدم أي من الطرفين الأسلحة النووية بشكل استباقي. 

وبدلاً من ذلك، سيسود "توازن رعب مستقر". وهذا بدوره من شأنه ردع الصراع التقليدي أيضًا، خوفًا من أنه قد يتحول إلى تبادل نووي.

التفاصيل الدقيقة لهذه الأفكار أو المذاهب يصعب تلخيصها، فبعضها يمكن أن يولد نتائج معاكسة. على سبيل المثال، أكد بعض منظري مؤسسة راند، أن الجهود التي ترعاها الحكومة للنجاة من حرب نووية محتملة -بناء ملاجئ للدفاع المدني، على سبيل المثال- كانت فكرة سيئة، لأن السوفييت يفترضون أن الأمريكيين كانوا يعتزمون النجاة من تبادل نووي. وهذا بدوره يمكن أن يساء تفسيره على أنه يعني شن هجوم وقائي.

وزير الدفاع روبرت ماكنمارا ، وهو نفسه من أنصار طريقة راند، وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ، في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية. أصبحت تُعرف بـ "التدمير المؤكد" أو "التدمير المؤكد المتبادل".

 كانت هذه هي نظرية الردع الأساسية التي ظلت سارية، مع بعض التعديلات، حتى نهاية الحرب الباردة.

 

ضربة انتقامية

على سبيل المثال، عندما أصبح واضحًا أن السوفييت طوروا قدرة هجومية منيعة، اعترف ماكنمارا بذلك، باعتباره تطورًا مرحبًا به.  لماذا؟ لأنه من خلال القيام بذلك، علم الاتحاد السوفيبتي أننا نعرف أن لديه خيار الضربة الانتقامية، وهنا تحقق توازن الرعب.

أدى ذلك إلى استقرار غريب في أوروبا، مع وجود خط محدد بشكل حاد يفصل بين الجانبين، كل منهما مسلح حتى الأسنان بأسلحة تقليدية ونووية، لكنهم لن يقاتلوا. وبدلاً من ذلك، ستخوض القوى العظمى حروبًا تقليدية بالوكالة في أماكن أخرى من العالم.

عام 1981، لاحظ الخبير الاستراتيجي النووي كينيث والتز: "لم تتمتَّع قوى عظمى مطلقًا منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648 بفترة سلام أطول مما عرفناه منذ الحرب العالمية الثانية. بالكاد يمكن للمرء أن يعتقد أن وجود أسلحة نووية، لا يساعد كثيرًا في تفسير هذا الوضع السعيد".

 بعد عقد من الزمان، انتهت الحرب الباردة، وكان هناك الكثير من الجدل في الدوائر الاستراتيجية، عما إذا كان الردع سينجح في عالم فوضوي متعدد الأقطاب، حيث يعتقد البعض، مثل والتز، أن الردع ممكن، إذا كتب: "ثبت بلا استثناء أن من يحصل على أسلحة نووية يتصرف بحذر واعتدال".

 وقد وصفت مراجعة حديثة للاستراتيجية النووية وجهة النظر هذه بأنها أفكار "الردع السهل". وفي المقابل هناك نظرية بديلة -ومخالفة- للردع النووي، مفادها أن القادة لا يتصرفون دائمًا بعقلانية.

تستحق هذه الكلمات أن نتذكرها ونحن نفكر في خطاب بوتين المثير للقلق. لم يعد العالم يعمل ضمن جدران الردع المشيدة بعناية، التي تشكلت خلال الحرب الباردة.

نحن الآن نواجه تحديًا لنظام مختلف تمامًا، حيث يستخدم زعيم مدفوع بالتظلم والفخر الردع النووي، لخوض حرب برية في أوروبا.  في غضون ذلك، قلب بوتين العقائد القديمة رأسًا على عقب. ما كان في السابق وسيلة للحفاظ على الوضع الراهن أصبح تهديدًا لتدميره.

إذا استمر ذلك فترة أطول، قد يختفي المنطق القديم للردع النووي إلى الأبد، لكن الإرهاب لن يذهب...!