صدمة الطاقة الجديدة... بوتين وأوكرانيا والاقتصاد العالمي
من المرجح أن تستفيد الأنظمة المصدرة للنفط والغاز في الشرق الأوسط، كما فعلوا في فترة الصعود الكبيرة لسوق النفط بين أعوام 2005و2008، التي عززت الازدهار الاقتصادي والبناء في الخليج.

ترجمات - السياق
أدى الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى ارتفاعات حادة في أسعار الطاقة العالمية ، ما زاد مخاطر ارتفاع التضخم وانخفاض النمو، بحسب "فايننشال تايمز".
وقالت الصحيفة إنه حتى قبل دخول الدبابات الروسية أوكرانيا الخميس، كانت الحكومات الغربية تكافح مع ارتفاع أسعار الطاقة بعد عامين من الوباء.
وأضافت: "من النفط الخام إلى الديزل إلى الغاز الطبيعي، يتم تداولها جميعًا عند مستويات قياسية أو نحوها، ما يهدد بإعادة رسم العلاقات الجيوسياسية بين المنتجين والمستهلكين، و ينبئ بزيادة التضخم وربما تعطيل مكافحة تغير المناخ".
الخميس، وصل خام برنت، إلى ما يقرب من 106 دولارات للبرميل، وهو أعلى سعر منذ عام 2014، حيث استوعب المتداولون الأخبار التي تفيد بأن ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم دخل في حرب، مع دولة بنيتها الأساسية في قلب شبكة تصدير الطاقة.
كما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا هذا الأسبوع، ما يعكس مخاوف من أن روسيا قد تحجب صادرات الغاز، التي تمثل نحو ثلث احتياجات القارة، كرد على العقوبات الجديدة وقرار ألمانيا بتعليق اعتماد خط أنابيب نورد ستريم2 إلى أجل غير مسمى.
لم يقد بوتين رئيس روسيا، أوروبا إلى واحد من أسوأ صراعاتها منذ الحرب العالمية الثانية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تفاقم أزمة طاقة بدأت تتكشف.
صدمة اقتصادية
يقول دانيال يرغين، مؤلف "الخارطة الجديدة"، وهو كتاب حديث عن سياسات الطاقة: "المرحلة التالية هي حرب اقتصادية، النتيجة النهائية لذلك يمكن أن تكون صدمة سلبية كبيرة للاقتصاد العالمي."
من المرجح أن تستفيد الأنظمة المصدرة للنفط والغاز في الشرق الأوسط، كما فعلوا في فترة الصعود الكبيرة لسوق النفط بين أعوام 2005و2008، التي عززت الازدهار الاقتصادي والبناء في الخليج.
وستستفيد روسيا أيضًا، حيث يملأ ارتفاع عائدات النفط خزائن الكرملين، ويثري من جديد العديد من القلة الحاكمة التي تخضع الآن للعقوبات الغربية.
أما في العواصم الغربية، فمن الممكن أن تكون أزمة أسواق الوقود الأحفوري، فرصة للسياسيين لتسريع خططهم للطاقة الخضراء، لكن يبدو أن المخاوف من التضخم وأمن الطاقة، مقدر لها أن تتفوق على سياسات المناخ، بما في ذلك ثورة الطاقة النظيفة، التي وعد بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، عندما دخل البيت الأبيض العام الماضي.
ومع اقتراب انتخابات التجديد النصفي وتراجع شعبيته، أصبحت أسعار البنزين من أولويات الرئيس.
"حتى الزيادات المتواضعة في أسعار الوقود، لها تداعيات سياسية كبيرة"... هذا ما قاله مورجان بازيليان، مفاوض سابق بشأن المناخ في الاتحاد الأوروبي، رئيس الآن معهد باين في كلية كولورادو للمناجم.
عرضة للأزمات
ربما كان الهجوم الروسي، الدافع وراء قفزة خام برنت فوق 100 دولار للبرميل، لكن أساسيات العرض والطلب الأعمق، وراء ارتفاع أسعار النفط بأكثر من الضعف، في الـ15 شهرًا الماضية.
قبل أقل من عامين، أدت عمليات الإغلاق -التي سببها كورونا- إلى تحطيم الطلب العالمي على النفط الخام، حتى أن المسؤولين التنفيذيين في قطاع النفط، تساءلوا عما إذا كان الاستهلاك العالمي قد بلغ ذروته، في مواجهة التحول المتسارع للطاقة إلى الوقود منخفض الكربون.
وكان ذلك خطأ فادحًا، إذ أدى الاغلاق الوبائي الذي اتخذته الحكومات إلى وضع الدفع بتعافي الطلب على النفط والغاز، حيث يسجل الاستهلاك في الولايات المتحدة مستويات قياسية تقترب من 23 مليون برميل يوميًا، أي ما يقرب من ربع الإجمالي العالمي.
وتقول وكالة الطاقة الدولية إن العالم سيحرق 100.6 مليون برميل في اليوم هذا العام، وهو مستوى مرتفع جديد.
وتقول أمريتا سين، كبيرة محللي النفط في "إنرجي أسبكتس": "لم يتكيف الطل -بأي حال من الأحوال- مع عالم منخفض الكربون. وأضافت أن الوباء لم يخفض الطلب، بل قمعه فقط، تاركًا انفجارًا مقبلًا مع إعادة فتح الاقتصادات... "الناس يريدون الخروج والسفر."
وذكرت "فايننشال تايمز" أن إنتاج الولايات المتحدة آخذ في الارتفاع، لكنه لا يزال أقل بنسبة 11 في المئة من أعلى مستوى له قبل انتشار الوباء، وهو بعيد كل البعد عن تلبية الحاجات العالمية.
ويمكن لأوبك -وهي منظمة منتجة للنفط بقيادة السعودية- أن تتدخل، ورغم الضغوط السياسية الهائلة من واشنطن، فقد أحجمت الرياض عن تسريع وتيرة الإمدادات.
إمدادات النفط
يتساءل بعض المحللين، عما إذا كانت أوبك قادرة على استعادة إمدادات النفط، التي قطعت على مدى الثمانية عشر شهرًا الماضية في محاولة لدعم الأسعار.
في السنوات السابقة، كانت مشكلة الكارتل، أن المنتجين يخرقون حصصهم، والآن تكافح بعض دول غرب إفريقيا -وحتى روسيا والعراق- لضخ كميات كافية.
وهذا أمر مزعج لسوق النفط، الذي كان يعتمد على أوبك، للحفاظ على مخزون وافر من الطاقة الاحتياطية في حالة الطوارئ.
يعتقد كريستيان مالك، المحلل في "جي بي مورغان"، أن المخزون المؤقت يمكن أن يتقلص إلى نحو 4 في المئة من السعة العالمية، "أقل بكثير من مستوى الراحة البالغ 10 في المئة ".
بينما يقول بن لوكوك، الرئيس المشارك لتجارة النفط في "ترافيجورا": "تدفع السوق علاوة ضخمة مقابل البراميل السريعة... سيكون من المستحيل بالنسبة للصناعة، أن توفر نفطًا كافيًا في الوقت المناسب، لوقف المزيد من التضخم".
وأضاف: "هناك الكثير من السيناريوهات، التي يكون فيها النفط، في الصيف عند سعر 150 دولارًا للبرميل".
ديناميكيات السوق
يجادل بعض المحللين، بأن الاتفاق النووي مع إيران، سيسمح بإعادة نفطها إلى السوق، كما يتوقعون أن أسعار النفط الخام المرتفعة ستقنع منتجي الصخر الزيتي بالضخ، بشكل أسرع مما كان مخططًا له.
لكن لوكوك وآخرين، يقولون إن ديناميكيات السوق اليوم -بما في ذلك العطش الشديد للديزل و "نواتج التقطير المتوسطة" الأخرى- تعكس تلك التي حدثت عام 2008، عندما سجل خام برنت رقماً قياسياً بلغ 147 دولاراً للبرميل.
درس آخر من عام 2008 -وقتها أضافت استعدادات موسكو لغزو جورجيا زخمًا صعوديًا لأسعار النفط الخام- تمامًا مثل ما يحدث الآن، كدخول الدبابات الروسية أوكرانيا، يمكن أن يكتسب أهمية كبيرة في سوق متقلب.
ويحاول المسؤولون الأمريكيون -حتى الآن- التقليل من أهمية التهديدات المادية للبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.
وعزل بايدن تجارة الطاقة الروسية، من أحدث مجموعة من العقوبات "الشديدة" التي أُعلِن عنها الخميس. كذلك ارتفعت واردات الولايات المتحدة المتواضعة من النفط الروسي العامين الماضيين، لكن الشغل الشاغل للبيت الأبيض هو السوق العالمية.
لا يزال التجار قلقين من أن استهداف البنوك الروسية -المشاركة في تجارة النفط- سيؤدي إلى مخاطر على الطرف المقابل، إذ أفادت وكالة التسعير بلاتس أن التجارة في الأورال، خام روسيا الرئيس المُصدر ، كانت "فوضى" الخميس، ما أجبر البراميل على التداول بخصم قياسي عن برنت هذا الأسبوع لجذب المشترين.
الغاز
قد يكون الأمر نفسه صحيحًا بالنسبة للغاز الطبيعي، فاعتماد أوروبا على الواردات الروسية -التي تمثل نحو ثلث حاجات القارة من الغاز- رفع العقود الآجلة للغاز الأوروبي ما يقرب من 70 في المئة إلى 142 يورو لكل ميغاواط/ساعة، بعد بدء الغزو... قبل عام كان 16 يورو.
يقول توم مارزيك مانسر، رئيس تحليلات الغاز العالمية في شركة الاستشارات ICIS إنه يتوقع استمرار الإمدادات الروسية إلى أوروبا، قائلاً إن الكرملين أشار إلى أنه سيحترم العقود طويلة الأجل مع العملاء في القارة.
لكن التخفيضات الحادة في صادراتها العام الماضي، دفعت الأسعار إلى مستويات قياسية، وبدا لبعض المحللين أن وراء ذلك دوافع سياسية.
الثلاثاء، بعد أن ألغت ألمانيا تصديقها على خط أنابيب الغاز نورد ستريم2 المثير للجدل، غرَّد ديمتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق، نائب رئيس مجلس الأمن الحالي، بتهديد مستتر من صدمة في أسعار الغاز الطبيعي.
ولا يمكن إصلاح أي انقطاع للإمدادات الروسية بسهولة، مع ارتفاع الأسعار العام الماضي، وصلت شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا من أستراليا والولايات المتحدة وقطر وأماكن أخرى، لكن هذه المصادر ليس لديها ما تصدره.
ومن المقرر أن يبدأ مشروع أمريكي جديد، التصدير في الأيام المقبلة، حيث يتجه معظم غازه إلى أوروبا، بما في ذلك بولندا. ولكن كما هو الحال في سوق النفط، أدى نقص الاستثمار في الطاقة الإنتاجية الجديدة للغاز الطبيعي المسال في السنوات الأخيرة، إلى تراجع الإمدادات عن الطلب المتزايد بسرعة، لا سيما في آسيا.
الضغط التضخمي
يأتي ارتفاع أسعار النفط والغاز، في وقت صعب للاقتصاد العالمي، حيث نمت الاقتصادات المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا، بشكل أسرع بكثير مما كان متوقعًا منذ أسوأ لحظات الوباء، بمساعدة الدعم الحكومي غير المسبوق وإطلاق اللقاحات.
وأدى النمو السريع وإعادة تشكيل الإنفاق على السلع الخدمات، إلى زيادة الطلب على الغاز والنفط عام 2021، ما دفع التضخم إلى الأعلى في معظم الاقتصادات المتقدمة، حتى مستويات لم نشهدها منذ أكثر من 30 عامًا وفرض الحاجة إلى إبطاء النمو، للتحكم في ارتفاع الأسعار.
وفي هذا السياق، توقع صندوق النقد الدولي في يناير أن معدلات نمو الاقتصادات المتقدمة ستنخفض من 4.4 في المئة العام الماضي إلى 3.5 في المائة عام 2022.
و استندت تلك التوقعات إلى انخفاض أسعار النفط 5 في المئة هذا العام بمتوسط 77 دولارًا للبرميل.
يقول نيل شيرينج، كبير الاقتصاديين في "كابيتال إيكونوميكس"، إن سعر النفط عند 120 دولارًا إلى 140 دولارًا للبرميل هذا العام، مع الزيادات المقابلة في أسعار الغاز، يمكن أن يرفع التضخم في الاقتصادات المتقدمة بنقطتين مئويتين إضافيتين، ما يدفع بالمعدلات في العديد من البلدان، إلى ما يقرب من 10 في المئة.
وأفرج البيت الأبيض بالفعل عن مخزون الطوارئ في الولايات المتحدة، ونظر في التخفيضات المحتملة على ضرائب البنزين الفيدرالية، وهي جهود لجعل البنزين أرخص بالنسبة لسائقي السيارات، الأمر الذي يتعارض مع تعهد بايدن بقيادة ثورة الطاقة النظيفة الأمريكية.
في المملكة المتحدة، حيث ارتفعت أسعار البنزين، وتواجه الأسر ارتفاعًا صارخًا في فواتير التدفئة والكهرباء، تدعو الحكومة -التي تروج لاستراتيجية "التعافي الأخضر"- إلى مزيد من التنقيب عن النفط والغاز.
وأعادت فرنسا وإسبانيا تقديم دعم لصناعة الوقود الأحفوري، بعد ثلاثة أشهر فقط من التعهد -في قمة المناخ- بالقضاء عليه.
يقول المحللون إن ذلك يعكس الحقائق السياسية لقادة يجب أن يفوزوا بأصوات السائقين، في عالم لا يزال بإمكان الجغرافيا السياسية أن تحدث فيه صدمات في أسعار الطاقة .
يقول كيفن بوك، المدير الإداري في شركة الاستشارات كلير فيو إنرجي برتنارز في واشنطن: "يبدو أن تغيير النظام يقضي على تغير المناخ، لسبب وجيه، لأن العالم يسخن ببطء، لكن أوكرانيا تغلي".