حرب أوكرانيا غيَّـرت استراتيجية الصين... كيف تحاول بكين تطويق أمريكا؟
من الخطأ تجاهل تحذيرات الصين -وتهديداتها بالعمل العسكري- لمجرد أن التحذيرات السابقة لم تتحقق.

ترجمات - السياق
بعد قرابة ستة أشهر من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، مع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق، كانت الصين محورًا مهمًا في تلك العملية العسكرية، التي تسببت في أكبر موجة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية.
ذلك المحور «المهم» تبوأته الصين، بسبب علاقة الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين، إلا أنه كبد بكين الكثير، خاصة أنها كانت في موقف ضعيف، في أعقاب العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، وظلت في حالة ارتباك لأسابيع في رسائلها التي وُصفت بـ«المربكة».
إلا أنها تغيرت كثيرًا، فاستعادت الصين مكانتها إلى حد كبير، إضافة إلى أن مخاوفها المبكرة من أن الحرب ستزيد بشكل كبير من الإنفاق الدفاعي الأوروبي لم تتحقق، بحسب «فورين أفيرز».
وقالت الصحيفة الأمريكية: رغم أن الصين تفضل أن تنتهي الحرب بانتصار روسي واضح، فإن الخيار الثاني الأفضل وهو رؤية الولايات المتحدة وأوروبا تستنفدان إمداداتهما من المعدات العسكرية لدعم أوكرانيا، بالموازاة مع تهديد ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم وتصميم الحكومات الأوروبية على التمسك بالعقوبات، ما يشير لبكين إلى تآكل محتمل في الوحدة عبر الأطلسي.
ورغم تدهور الرأي العام بشأن الصين في الدول الغربية، لا تزال بكين تتمتع بقبول واسع لمساعدتها التنموية والرسائل الدبلوماسية، بحسب «فورين أفيرز».
بيئة خطرة
تقول «فورين أفيرز» إن الصين تشعر بالقلق من أن الولايات المتحدة قد تستفيد من خط الصدع المتنامي هذا، لبناء تحالفات اقتصادية أو تكنولوجية أو أمنية لاحتوائه، بينما تعتقد أن واشنطن وتايبيه تعمدتا إثارة التوتر في المنطقة، من خلال ربط الهجوم على أوكرانيا بسلامة تايوان وأمنها، مشيرة إلى أن بكين قلقة من أن الدعم الدولي المتزايد لتايوان سيعطل خططها لـ«إعادة التوحيد».
هذه التصورات عن التدخل الغربي، وضعت بكين مرة أخرى في موقف الهجوم، بحسب «فورين أفيرز» التي قالت إنه من الآن فصاعدًا سيتم تحديد السياسة الخارجية للصين بشكل متزايد، من خلال تأكيد أكثر «عدوانية» لمصالحها واستكشاف مسارات جديدة للقوة العالمية، التي تتحايل على نقاط الاختناق التي يسيطر عليها الغرب.
إعادة البوصلة
وتقول الصحيفة الأمريكية، إن بكين بعد العملية العسكرية الروسية، أعادت توجيه بوصلتها في مجالات عدة على أعلى مستوى، فقد أعلنت عن إطار عمل استراتيجي، باسم «مبادرة الأمن العالمي»، سيعزز رغم أنه لا يزال في مراحله الأولى خيوطًا عدة من تصور بكين المتطور للنظام العالمي، إضافة إلى أنه يشير إلى محاولة شي لتقويض الثقة الدولية بالولايات المتحدة، كمزود للاستقرار الإقليمي والعالمي، وإنشاء منصة يمكن للصين من خلالها تبرير زيادة شراكاتها الخاصة.
وبحسب «فورين أفيرز»، فإن الرئيس شي كان يسعى، من خلال إعلانه عن مبادرة الأمن العالمي، إلى انتزاع السيطرة السردية على الأمن العالمي، بعيدًا عن الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتثبيط الدول عن الانضمام إلى الكتل أو التجمعات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة، بهذه المبادرة، مشيرة إلى أن شي وضع شيئًا آخر على الطاولة للتنافس مع مناقشة بقيادة الولايات المتحدة للشكل الذي يجب أن يبدو عليه النظام الدولي بعد الحرب في أوكرانيا.
ضغط صيني
وأشارت إلى أن الصين التي تعد قوة في مواجهة الولايات المتحدة المتقلبة بشكل متزايد، والتي لا يمكن التنبؤ بها، تواصل وضع نفسها كمبدع ورائد في الحوكمة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
ومنذ الإطلاق الأولي لمبادرة الأمن العالمي، أصبحت عنصرًا قياسيًا يتم تضمينه في قراءات الاجتماعات من المشاركات الصينية الثنائية والمتعددة الأطراف، عبر جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو دليل على أن بكين تضغط للتطبيع الدبلوماسي لمبادرتها الجديدة.
ورغم أن مبادرة الأمن العالمي، قد لا تكتسب الكثير من الزخم في طوكيو أو كانبيرا أو بروكسل، فإنها ستجد صدى في جاكرتا وإسلام أباد ومونتيفيديو، حيث يتجلى الإحباط من النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، بحسب «فورين أفيرز».
وأكد المسؤولون الصينيون، بوضوح شديد، أن بكين ترى علاقة مباشرة بين وجود "الناتو" المتزايد في أوروبا وتحالف الولايات المتحدة المتنامي من الشركاء الأمنيين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وقال لي يوتشنغ، المسؤول الكبير بوزارة الخارجية بخطاب ألقاه في مايو الماضي: «لبعض الوقت، ظلت الولايات المتحدة تستعرض قوتها على عتبة الصين، وأنشأت مجموعات حصرية ضد الصين وأثارت قضية تايوان لاختبار الخط الأحمر».
وتابع: «إذا لم تكن هذه نسخة آسيا والمحيط الهادئ من توسع (الناتو) باتجاه الشرق، فما هي إذن؟» كان ربط البيئة الأمنية الروسية بالصين أيضًا مكونًا مركزيًا، في البيان المشترك الذي أصدره شي وبوتين في 4 فبراير الماضي.
أصدقاء أكثر قربًا
وبحسب «فورين أفيرز»، فإن الصين تعمل على تعزيز الشراكات بسرعة مع البلدان التي تقع خارج المعسكر الغربي، أي معظم الجنوب العالمي، مشيرة إلى أنه طالما سعت الصين إلى تعميق صداقاتها في الخارج، لكنها تدرك الآن أن بعض البلدان، مثل الديمقراطيات الأوروبية، لن تقف معها عندما تضطر إلى الاختيار.
وتقول «فورين أفيرز»، إن بكين لا تريد أن تواجه مصير أوكرانيا، إذا وجدت نفسها في صراع ضد تايوان أو أي من جيرانها، بينما قال الباحث الصيني يوان تشنغ، إن بكين تعتقد أن الحرب بالوكالة المحتملة، هي ما يتوقعه بعض الأفراد والجماعات المتشددة في الولايات المتحدة في جوار الصين.
وحتى إذا كان القادة الصينيون لا يزالون واثقين بالنظام السياسي لبلدهم وقوتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية، فإنهم يدركون أنها لا تزال تعتمد على السلع والموارد الخارجية، لتغذية تطورها وقدراتها العسكرية المتنامية، بحسب «فورين أفيرز»، ما دفع بكين للتحرك بسرعة لتعميق وتوسيع الشراكات، لزيادة مناعتها ضد العقوبات المعوقة، ولضمان أنها ليست وحدها في الأوقات الصعبة.
وقالت «فورين أفيرز»، إن الصين حريصة على ترسيخ كتل حصرية من الدول التي ستدعمها -أو على الأقل لا تدعم الولايات المتحدة، أبرزها محاولة بكين تعزيز وتوسيع البريكس- البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا- ككتلة بديلة للعالم النامي، للتنافس مع الرباعي ومجموعة السبع ومجموعة العشرين.
إضافة إلى توسع بريكس، تسعى بكين إلى تحويل منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم روسيا، إلى كتلة قوية يمكنها الاستفادة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العميقة، بحسب «فورين أفيرز»، التي قالت إنه طالما دفعت الصين من أجل المزيد من التعاون الاقتصادي لمنظمة شنغهاي للتعاون، واقترحت إنشاء اتفاقية تجارة حرة وبنك لمنظمة شنغهاي للتعاون.
ورغم فشل هذه الأفكار، العام الماضي، ناقشت منظمة شنغهاي للتعاون في مايو 2022، الحاجة إلى زيادة التفاعلات بين الدول الأعضاء، لاسيما بشأن الأمن الدولي والتعاون الاقتصادي.
ومع توسع العضوية الرسمية في منظمة شنغهاي للتعاون لتشمل إيران، وربما بيلاروسيا في المستقبل، فإن المنظمة مستعدة لأن تصبح أكثر حزماً على المسرح العالمي، بينما اقترحت طهران في يونيو الماضي أن تتبنى منظمة شنغهاي للتعاون عملة موحدة.
الصين تستعد
العنصر الأخير في إعادة التفكير في سياسة الصين الخارجية يتعلق بالقوة العسكرية، بحسب «فورين أفيرز»، التي قالت إن بكين تعتقد أن الغرب غير قادر على فهم أو التعاطف مع ما تعدها مخاوف أمنية روسية مشروعة.
وأشارت إلى أنه لا يوجد سبب يدعو الصين إلى افتراض أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيتعاملون مع مخاوف الصين بشكل مختلف، لأن الدبلوماسية ليست فعالة، وقد تحتاج الصين إلى القوة لإظهار عزمها.
وأشارت إلى أن بكين قلقة أكثر من أي وقت مضى من نية الولايات المتحدة تجاه الجزيرة وما تعدها استفزازات متزايدة. وقد أدى ذلك إلى نقاش بين بعض محللي السياسة الخارجية الصينيين في ما إذا كانت أزمة أخرى في مضيق تايوان وشيكة، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن للصين أن تستعد؟
وقال يانغ جيتشي، وهو دبلوماسي يعمل في المكتب السياسي للصين، إن بكين ستتخذ إجراءات حازمة -بما في ذلك القوة العسكرية- لحماية مصالحها، مشيرًا إلى أن جيش التحرير الشعبي الصيني دخل في مزيد من التدريبات بالقرب من تايوان، في محاولة لردع تدخل محتمل من طرف ثالث.
ومن المحتمل أن تفسر هذه الديناميكيات إصدار بكين تحذيرات حادة بشكل غير عادي بشأن الزيارة إلى تايوان التي خططت لها نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، قائلة إن هذه الرحلة «سيكون لها تأثير سلبي شديد في الأسس السياسية للصين».
تحذيرات الصين
وتقول «فورين أفيرز»، إنه سيكون من الخطأ تجاهل تحذيرات الصين -وتهديداتها بالعمل العسكري- لمجرد أن التحذيرات السابقة لم تتحقق، ورغم أن احتمال «غزو» تايوان لا يزال بعيدًا، فإن لدى بكين العديد من المسارات للتصعيد بعيدًا عن الصراع المباشر، بما في ذلك إرسال طائرات للتحليق فوق الأراضي التايوانية، مشيرة إلى أنه إذا اتخذت بكين إجراءات أكثر تشددًا بسبب الإحباط من السلوك الأمريكي الأخير، فقد يؤدي ذلك بسهولة إلى أزمة.
وأشارت إلى أنه بإلقاء نظرة خاطفة على الخطوط العريضة الأولية لخطة الصين المعدلة، من محاولتها إيجاد روابط أعمق مع دول يمكن أن تدعمها أو تكون حيادية، مرورًا بإعادة توظيف المؤسسات القائمة بقيادة بكين مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وإحداث مفاهيم جديدة للأمن تتماشى مع رؤيتها الخاصة للنظام الدولي، فإن تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل جيد، سيؤدي -بلا شك- إلى تعقيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ورغم ذلك فإن «فورين أفيرز» قالت إن هذه الجهود تستغرق وقتًا طويلاً، ويمكن أن تنهار إذا كان سلوك بكين العدواني والقسري المتزايد ضد جيرانها يولد معارضة دولية أو تحفظًا تجاه العمل مع الصين.