فورين أفيرز: بوتين ونقاط القوة العمياء للسلطة
علم النفس يقدم إجابة وحيدة على ذلك، بأن غالبًا ما يخرق الأقوياء القواعد التي وضعوها

ترجمات - السياق
أفردت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، تقريرًا عن معنى (ما يغفل عنه أصحاب النفوذ) أو ما تسمى (نقاط القوة العمياء)، وأسقطت هذا المعنى على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشيرة إلى أنه على مدى عقدين من الزمن، كان بوتين موضع إعجاب وخوف على حد سواء، كاستراتيجي ذكي ورجل قوي، رسَّخ حكمه في الداخل، وعزَّز المصالح الروسية في الخارج.
وأشارت إلى أنه سواء بقمعه المعارضة المحلية، أم بضمه شبه جزيرة القرم، ظهر بوتين كزعيم صارم وعنيد، مبينة أن وسائل الإعلام الغربية قد تلجأ لتشويه صورته باعتباره مستبدًا، إلا أن العديد من السياسيين الغربيين اعترفوا أيضًا باحترامهم لقدرته على القيادة.
ورغم ذلك -حسب المجلة- فقد أدى غزو بوتين لأوكرانيا في فبراير الماضي، إلى تراجع هذه السمعة، إذ افترض أنه سيحقق نصرًا سريعًا، لكن قواته تعثرت بشكل سيئ.
كما كانت للحرب تداعيات مروِّعة على روسيا، إذ دمرت اقتصادها ومكانتها في العالم، وحفَّزت أيضًا تحالفًا مناهضًا لموسكو، وبذلك -حسب وصف المجلة الأمريكية- "حوّل بوتين روسيا إلى دولة منبوذة، من دون تحقيق أي من أهداف غزوه".
أخطاء بوتين الفادحة
وتساءلت "فورين أفيرز": لماذا يرتكب هذا القائد القوي ذلك الخطأ الفادح؟، مشيرة إلى أن الإجابة تكمن في طبيعة القوة نفسها، مضيفة: "غالبًا ما يضع القادة الذين يحتلون مناصب ذات نفوذ هائلة غمامة على أعينهم تجعلهم يرتكبون أخطاءً جسيمة، وبذلك يمكن لهذه القوة أن تكون مُضللة، لدرجة تمنع فيها الأقوياء من تقييم عواقب أفعالهم".
وأشارت المجلة، إلى أن هجوم بوتين على أوكرانيا أظهر عددًا من المآزق والعثرات المتعلقة بالنفوذ، موضحة أنه غالبًا ما يتخيل الأقوياء أنهم فوق القواعد، وقد سعى بوتين إلى إعفاء نفسه من القانون الدولي، حتى عندما استخدم لغة قانونية لتبرير أفعاله، لكنه -بانتهاكه القانون الدولي- قوَّض الأمن الروسي.
وأضافت: "في الحقيقة، يعتقد القادة غالبًا أنهم أقوى مما هم عليه، وفي حالة بوتين، فقد أخطأ في الحكم على البراعة القتالية الحقيقية لجيشه، وأغرق بلاده في حرب استنزاف أوهمه بعض المخططين الروس بأنها ستكون سهلة".
واستطردت: "قد ينبع هذا الفشل جزئيًا من مأزق آخر يقع فيه الأقوياء، هو عدم الرغبة في طلب المشورة وتقبُّل النقد"، مشيرة إلى أن بوتين لم يتشاور مع حكومته ولا مع جيران روسيا وشركائها في التخطيط للحرب وتبعاتها، وقد أثرت تداعيات هذا الخطأ في روسيا.
في المقابل -حسب المجلة- لا تعد أخطاء بوتين استثنائية وحِكرًا عليه، كما أنها ليست مجرد نتائج مترتبة على العادات السيئة للديكتاتوريين، إذ إن زعماء الدول القوية أيضًا، بما في ذلك الديمقراطيات الكبرى، أعمتهم السلطة واتخذوا قرارات غير حكيمة.
وتضيف المجلة: "يجب أن تذكر صراعات بوتين في أوكرانيا جميع صانعي السياسة بمخاطر النفوذ وكيف يمكن للحكومات أن ترتكب أخطاءً فادحة عندما تكون مفتونة بقوتها".
بوتين الاستثنائي
أمام تأثير النفوذ في القرارات، بينت "فورين أفيرز" أنه غالبًا ما يقنع النفوذ أصحابه بأنهم استثنائيون، وأن القواعد لا تنطبق عليهم.
ورأت أن غزو بوتين لأوكرانيا في فبراير الماضي، انتهك القانون المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر أي استخدام للقوة ضد وحدة الأراضي أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى.
وأصر الرئيس الروسي على أن التوغل كان ضربة استباقية ضد هجوم أوكراني، ودفاعًا مُقدسًا عن روسيا الوطن الأم، واستمرارًا للقتال السوفييتي ضد النازية.
وبالطبع -حسب المجلة الأمريكية- تعد تلك التسويغات جوفاء، إذ إن ادعاءات بوتين بأنه يرد على الهجمات المزعومة من القوات الأوكرانية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، على المعابر الحدودية وعلى الأراضي الروسية، ليست مقنعة لأي شخص خارج روسيا.
ووفقًا للمجلة، فإن "الأكثر زيفًا وأنانية تأكيدات بوتين أن أوكرانيا ترتكب إبادة جماعية في دونباس، وأن حكومتها مليئة بالنازيين الجدد، بيد أن تلك الحجج الوهمية، أو الساخرة، لتبرير انتهاك القانون الدولي ليست حِكرًا على المستبدين فقط".
وأضافت: "من المغري الاعتقاد أن الديمقراطيات لديها تدابير حماية مدمجة، تمنع صانعي السياسات من ارتكاب انتهاكات صارخة لأهم المعايير القانونية الدولية التأسيسية، لكن الواقع مختلف، ففي عام 2003، غزت القوات الأمريكية والبريطانية العراق، وسعى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى إضفاء الشرعية على الغزو من خلال التذرع بالقانون الدولي، فأشارا إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1990 الذي سمح باستخدام القوة ضد العراق بعد غزو الكويت، وجادلا أن عدم امتثال العراق لعمليات التفتيش على الأسلحة، يُعد (خرقًا جوهريًا) لوقف إطلاق النار المتفق عليه منذ أكثر من عقد، لذلك أكدا أن للولايات المتحدة والمملكة المتحدة الحق في تعليق وقف إطلاق النار ومواصلة الأعمال العدائية ضد العراق، بموجب القرار الأصلي الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1990".
كذلك -وفق المجلة- أكدت الولايات المتحدة -حينها- حق الدفاع الاستباقي عن النفس في هجومها على العراق، مشيرة إلى أن بيتر غولدسميث، المدعي العام البريطاني في ذلك الوقت، لم يؤيد تلك المزاعم كأساس للحرب، لكن الموقف البريطاني، كما عبَّر عنه المدعي العام اللاحق، جيريمي رايت، عام 2017، اقترب من الموقف الأمريكي.
أمام هذا التناغم الأمريكي البريطاني، ظلّ المحامون الدوليون متشككين في أن تلك التبريرات كانت أكثر بكثير من مجرد واجهة زائفة وإجراء شكلي، وهي وجهة نظر كررتها نتائج تحقيق غون تشيلكوت، رئيس لجنة التحقيق بشأن حرب العراق، عام 2016 الذي أجرته الحكومة البريطانية عن دور البلاد في الحرب.
لكن في الواقع -حسب المجلة- تمثل حرب العراق معضلة، إذ إن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهما دولتان بذلتا مجهودًا كبيرًا لإنشاء نظام دولي قائم على القواعد، انتهكتا قواعد ذلك النظام وقوَّضتاه.
وللإجابة عن سؤال: لماذا تقدم هذه الدول على انتهاك قواعد النظام الدولي؟ أوضحت المجلة الأمريكية، أن علم النفس يقدم إجابة وحيدة على ذلك، بأن غالبًا ما يخرق الأقوياء القواعد التي وضعوها، التي يستفيدون منها لأنهم يعتقدون أنهم يستطيعون ذلك.
كما وجد علماء النفس أن الأثرياء أكثر ميلاً إلى الكذب والغش، عندما يراهنون على شيء أو يتفاوضون، وإلى تغيير مسارات سياراتهم فجأةً، والانتقال أمام السائقين الآخرين عند القيادة، وإلى تأييد السلوك غير الأخلاقي في مكان العمل.
كسر القواعد
وترى "فورين أفيرز" أنه غالبًا ما يميل قادة الدول القوية إلى كسر القواعد، رغم أنهم مبتكروها ومنفذوها والمستفيدون منها، مشيرة إلى أن القواعد الدولية تتخذ أشكالاً عدة، من الاتفاقيات التجارية إلى تحديد حقوق صيد الأسماك، وليست كلها متساوية.
ويناقش المحامون الدوليون -بحنكة شديدة- لماذا تلتزم الدول بالقانون الدولي، في ذلك السياق، يشير النفعيون إلى الدور المؤثر للمصالح المباشرة، بينما يذكر الكانطيون ثقل الالتزامات الأدبية والأخلاقية المشتركة، ويلفت أتباع الفيلسوف الإنجليزي غيريمي بينثام إلى الحوافز التي أفرزتها العملية الجماعية لبناء القانون الدولي.
لكن في منحى مقابل، يصر الواقعيون، من الكاتب الإيطالي نيكولو مكيافيلي في عصر النهضة إلى صانعي السياسة الأمريكيين مثل جورج كينان وهنري كيسنغر في حقبة الحرب الباردة، على أن بعض القواعد يمكن ويجب انتهاكها عندما يكون من مصلحة الدولة ذلك، لكن هناك قواعد تفرض شرعية وقوة معينة تجعلان انتهاكها أكثر تكلفة من انتهاك القواعد الأخرى.
ويعد ميثاق الأمم المتحدة قاعدة من هذا النوع، صادرة عن صك من صكوك القانون الدولي المصدق عليه من 193 دولة، الذي يُنظم أبسط المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية.
وترى المجلة الأمريكية، أن هذا النظام القانوني يُعين الأقوياء من خلال منحهم مسؤوليات خاصة للحفاظ عليه، مشيرة إلى أن تنفيذ ميثاق الأمم المتحدة -في الواقع- بيد مجلس الأمن التابع لها، وبشكل أكثر تحديدًا، الأعضاء الخمسة الدائمين فيها (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، إذ يتطلب اتخاذ أي إجراء تنفيذي موافقتها بالإجماع.
وفي حين أن الدول الأضعف التي تنتهك ميثاق الأمم المتحدة قد تعاقَب من قِبل مجلس الأمن، يمكن للأعضاء الدائمين استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي إجراء تنفيذي يتخذه مجلس الأمن ضدهم، وبذلك يمكنهم التصرف من دون رادع ولا عقاب، أو هكذا يعتقدون.
فاتورة القوى العظمى
وترى "فورين أفيرز" أنه في الحقيقة، لا تزال القوى العظمى تدفع تكاليف خرق تلك القوانين، حتى لو اعتقدت أنها محمية من التداعيات.
وفي ذلك الإطار، التكلفة الأكثر وضوحًا التي تترتب على مخالفة ميثاق الأمم المتحدة، أن ذلك يشير إلى الدول الأخرى بأنه لا يمكن الوثوق بالمخالف من ناحية الالتزام بالقانون الدولي.
وأضافت المجلة: "يمكن أن ينتشر الخوف من أن الدول الأخرى ستفعل الشيء نفسه، ما يضعف تصميم جميع البلدان على الامتثال للقواعد"، مشيرة إلى أن ميثاق الأمم المتحدة يبني مجتمعًا دوليًا تنتمي إليه الدول، ويمكن أن تصوغ فيه بعض التوقعات الأساسية لسلوك الآخرين، وبذلك إذا خالف الأعضاء الأقوى القواعد التي أنشأوها، سينتهي بهم المطاف إلى تقويض وجود هذا النظام الاجتماعي وتهديده بشكل جوهري.
واستشهدت المجلة، بالجارتين المتنافستين (الأرجنتين والبرازيل)، إذ تملك كل منهما قدرات نووية يمكن تحويلها إلى أسلحة، مشيرة إلى أنه إذا حصلت واحدة منهما على أسلحة نووية أو طورتها، من المحتمل أن تحذو الأخرى حذوها.
وبدلاً من ذلك -حسب المجلة- فالدولتان تعتمدان على قواعد عدم الانتشار وكل منهما ترصد بعناية امتثال الأخرى، من خلال الوكالة البرازيلية الأرجنتينية للمحاسبة والرقابة على المواد النووية، لافتة إلى أنه إذا تبنى الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو تأييد نجله المعلن للأسلحة النووية، سيغير ذلك حسابات الأرجنتين، ويضعف القيود السلوكية التي تشجعها القواعد.
جدير بالذكر أن انتهاك تلك القوانين، يدخل نوعًا ماكرًا من الفوضى في العلاقات الدولية، وهو السبب في أن تحقيق تشيلكوت وجد أن الإجراءات الأمريكية والبريطانية عام 2003 قوَّضت -بشكل خطير- صلاحيات الأمم المتحدة.
أمام ذلك، رأت المجلة، أن خرق بوتين للقواعد -خلال غزوه لأوكرانيا- أدى إلى الارتداد عليه بالفعل، ما أضر بروسيا، مشيرة إلى أنه طالما اتهم الولايات المتحدة بتهديد الأمن الروسي، من خلال دعم توسع "الناتو" نحو حدود روسيا، لكن حتى مايو الماضي، لم تدخل في الحلف سوى خمس دول لا غير من الدول الـ14 المتاخمة لروسيا، بيد أن تصرفات بوتين غيَّرت تلك الأرقام، إذ تقدَّمت فنلندا والسويد بطلب للانضمام إلى "الناتو"، ما بدل اتجاه سياسات الحياد المتبعة منذ أمد بعيد.
وتابعت: "لقد أضر غزو بوتين بالأمن الروسي، من خلال خرق القواعد التي كان حياد فنلندا والسويد مبنيًا عليها فترة طويلة".
نقاط عمياء
وبالعودة لتوضيح مفهوم (النقاط العمياء)، أشارت "فورين أفيرز" إلى أن الولايات المتحدة ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، تتحرك بسرعة لتوسيع عقوباتها الاقتصادية على روسيا، بيد أن محاولاتها لدفع قوى صاعدة أخرى للانضمام إليها كانت أقل نجاحًا.
وأشارت إلى أن نقطة الولايات المتحدة العمياء، كانت في التقدير المبالغ فيه لمكانتها في العالم، لافتة إلى أنها قد تشبثت فترة طويلة بفكرة أن دول مجموعة السبع هي التي تضع القواعد، وأن بقية الدول هي التي تلتزم بها، حتى مع تحول ميزان القوة الاقتصادية العالمية.
بينما في الواقع، -حسب المجلة- تملك الدول من خارج مجموعة السبع أفكارًا أخرى، ولديها سبب للشك في نوايا الدول القوية، التي فشلت -في كثير من الأحيان- في الالتزام بالقواعد ذاتها التي وضعتها.
وأضافت: "يجب على الولايات المتحدة وأعضاء مجموعة السبع توخي الحذر من تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار، وأنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، خشية أن تتعامى عن مخاوف الدول الأخرى، التي لا ترى العالم بالطريقة نفسها".
وترى المجلة، أن تلك النقاط العمياء ليست حتمية، كما أن الديمقراطيات ليس محكومًا عليها بها، مشيرة إلى أنه يمكن لقادة الدول القوية حماية أنفسهم من مخاطر النفوذ، والتأكد من أن النفعية القصيرة المدى لا تقف في طريق الصورة الكبيرة.
وبينت أن خط الدفاع الأول لتجنُّب الخطأ يكمن في المجموعة المحيطة بالقائد، لافتة إلى أنه لدى كل من روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مجلس وزراء يضم وزراء يختارهم رئيس الحكومة، وعلى نحو مشابه، تملك الصين اللجنة الدائمة للمكتب السياسي.
وأشارت إلى أنه من الناحية النظرية، تتحمل تلك الهيئات المسؤولية الجماعية عن القرارات التي تتخذها الحكومة، لكن ينبغي أن يحدث ذلك من الناحية التطبيقية، إذ إنه خارج مجلس الوزراء، يجب أن تعمل المؤسسات الأخرى.
واستطردت: "في الواقع، يلعب كل من المسؤولين الحكوميين والتكنوقراطيين والمحاكم والهيئات التشريعية ووسائل الإعلام والرأي العام دورًا في التأكد من أن القائد لا يعميه النفوذ"، مشددة على أنه في روسيا، تم إخضاع تلك المؤسسات الثانوية -بشكل مطرد- لسيطرة بوتين، ما أدى إلى إزالة القيود المفروضة على سلطته.