بوليتيكو تكشف علاقات المال القطري بالنفوذ السياسي في ألمانيا
قطر كانت قد أمضت معظم العقد الماضي في رعاية ألمانيا كشريك استراتيجي، واستثمرت قرابة 25 مليار يورو فيها.

ترجمات -السياق
سلَّطت صحيفة بوليتيكو الأمريكية، الضوء على ما سمتها محاولات قطر للتعتيم على تجاوزات حقوق الإنسان، خلال استعداداتها لكأس العالم الأخير، مشيرة إلى أن هذه المحاولات بلغت حد استمالة عديد الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا.
وبينت أنه خلال الصيف الماضي، عندما كانت وسائل الإعلام الأوروبية تنتقد -بشكل متزايد- استضافة قطر لكأس العالم، قررت الدوحة إرسال حسن الذوادي، المنظم الرئيس للحدث، إلى ألمانيا، في محاولة لتحسين صورة بلاده.
وأشارت الصحيفة إلى أن قطر كانت قد أمضت معظم العقد الماضي في رعاية ألمانيا كشريك استراتيجي، واستثمرت قرابة 25 مليار يورو في البلاد، وذلك من أكبر الرهانات للدولة الخليجية في أي مكان في العالم، لكن مع تزايد المخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، لا سيما معاملتها للعمال المهاجرين وكذلك المثليين، تكشفت حقيقة "النيات الحسنة" التي أبدتها قطر للعالم.
ورأت أن زيارة الذوادي كانت فرصة لمحاولة نزع سلاح المنتقدين، ونشر بعض أبرز الداعمين الألمان، لتحسين صورة البلاد مع استضافة قطر لنهائيات كأس العالم.
ونوهت الصحيفة الأمريكية، إلى أن من هذه المحاولات، زيارته لملعب نادي بايرن ميونيخ العريق، ويبدو أن الأمر كان مقصودًا، إذ إن الخطوط الجوية القطرية الراعي الرسمي للفريق.
كان نادي بايرن ميونخ تعرض لانتقادات من مشجعيه بسبب علاقاته مع قطر، ورفع مشجعو الفريق البافاري لافتة ضخمة خلال إحدى مبارياته بالدوري الألماني في نوفمبر 2021، على ملعب أليانز أرينا، ينتقدون فيها النادي لما وصفوه بـ "الغسل الرياضي" لانتهاكات حقوق الإنسان في قطر، بقبوله رعاية من شركة الطيران الوطنية القطرية.
وخلال الزيارة، تحدث الذوادي إلى أعضاء النادي -الذين كان لدى كثيرين منهم تحفظات على انتماء فريقهم إلى قطر، بشأن "قدرة كرة القدم على إحداث تغيير إيجابي".
اللقاء لم يكن على المستوى الرياضي فقط، وإنما ضم مجموعة من المسؤوليين السياسيين الألمان، منهم زيغمار غابرييل، نائب المستشار الألماني السابق ووزير الخارجية، وكريستوف هيوسغن، مستشار الأمن القومي السابق للمستشارة آنغيلا ميركل، والممثل الدائم لألمانيا لدى الأمم المتحدة.
مائدة مستديرة
وكشفت "بوليتيكو" أن الإعلان عن الاجتماع، الذي ضم مجموعة من الخبراء العُماليين ونشطاء حقوق الإنسان، صُور على أنه نقاش "مائدة مستديرة" عن انتقاد حقوق الإنسان في قطر، لكن بمساعدة غابرييل وهيوسغن، سرعان ما تحول إلى إعلان تجاري طويل عما اعتبراه "التطوير الذي شهدته قطر مؤخرًا، والتقدم المذهل المفترض الذي حققته البلاد خلال السنوات الأخيرة في مجال حقوق الإنسان، والدور الرئيس الذي تلعبه في الشؤون العالمية".
وقد تحدث غابرييل عن قطر قائلًا: "قطر من الأماكن القليلة المستقرة في هذا العالم الهش للغاية الذي نعيش فيه"، مضيفًا: "قطر بلد مستقر بشكل مذهل في منطقة غير مستقرة".
بينما ردد هيوسغن، الذي أدار المناقشة، ما قاله الوزير السابق، واصفًا قطر بأنها "نموذج يحتذى" للدول الأخرى.
وردًا على هذه التصريحات، نقلت الصحيفة الأمريكية عن المتحدث باسم هيوسغن -الذي اشتهر بالضحك على تصريحات دونالد ترامب أثناء حديثه في الأمم المتحدة، حينما حذر الرئيس الأمريكي السابق، ألمانيا من اعتمادها المفرط على روسيا في الطاقة- قوله: الممثل الدائم لألمانيا لدى الأمم المتحدة وافق على حضور المائدة المستديرة لأنه من مشجعي بايرن ميونيخ، مضيفًا أنه "لم يحصل على أجر".
وقال هيوسغن، خلال اللقاء: "لقد تعلمت شيئًا ما عن قطر على هذه الطاولة اليوم"، وأضاف مبتسمًا: "كرة القدم كانت حافزًا كبيرًا للتغيير في الإمارة الخليجية".
شبكة الحلفاء
وأفادت "بوليتيكو" بأنه بينما تعرضت قطر لفضيحة فساد كبرى في بروكسل -مقر الاتحاد الأوروبي- بعد مزاعم عن تقديم الدوحة رشى مالية ضخمة لأعضاء في البرلمان الأوروبي، لشراء النفوذ والمشاركة في تحسين صورتها الحقوقية أوروبيًا، كانت وسيلة التأثير المفضلة لديها في ألمانيا، أكثر شفافية، وإن كانت أقل فاعلية، وهي (سوق الأسهم).
فعلى مدار العقد الماضي، أسهم صندوق الثروة السيادية للإمارة -جهاز قطر للاستثمار- مع أعضاء من الأسرة الحاكمة، في تشكيل مناصب رئيسة في بعض أسماء الشركات الأكثر شهرة في ألمانيا، بما في ذلك 11 بالمئة من أسهم "فولكس فاغن"، أكبر شركة لصناعة السيارات في البلاد، و 6 بالمئة في "دويتشه بنك"، أكبر بنوكها.
الخريف الماضي، استحوذ القطريون على 5 بالمئة في "بورش"، ما جعل قطر من أكبر المساهمين في شركة صناعة السيارات الرياضية الفاخرة.
ولسنوات، يمكن اعتبار قطر أيضًا من أكبر العملاء في صناعة الدفاع الألمانية.
علاوة على ذلك، مع الحرب في أوكرانيا، التي أجبرت ألمانيا على الابتعاد عن البترول الروسي، أصبحت قطر -أكبر مصدر للغاز الطبيعي السائل في العالم- مزودًا رئيسًا للطاقة.
وتعليقًا على ذلك، قالت الصحيفة الأمريكية: "يمكن اعتبار صورة نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد روبرت هابيك وهو ينحني بشدة لوزير الاقتصاد القطري الشيخ محمد بن حمد آل ثاني، خلال زيارته للدوحة الربيع الماضي، أثناء البحث عن إمدادات غاز جديدة، على أنها صورة مميزة للحكومة الألمانية الحالية".
وأشارت إلى أنه رغم أن قطر استثمرت على نطاق مماثل في المملكة المتحدة وفرنسا، فإن تركيز مشاركتها الألمانية كان مختلفًا.
ففي المملكة المتحدة، اشترت قطر فندق ريتز ومتجر هارودز متعدد الأقسام الشهير عالميًا، وأقامت برج شارد، أطول مبنى في البلاد.
وفي فرنسا، استحوذت على نادي باريس سان جيرمان لكرة القدم، لكن في ألمانيا، تشمل المشتريات الرئيسة للدولة الخليجية حصصًا في عملاق الشحن هاباغ لويد ومرفق الطاقة "آر دبليو إي".
وبينّت الصحيفة، أنه حتى لو تركت الاستثمارات شيئًا مرغوبًا فيه من حيث العوائد المالية، فإن مشاركة قطر في الاقتصاد الألماني ساعدتها في تكوين صداقات بأعلى أروقة السلطة.
ونوهت إلى أنه رغم عدم وجود ما يشير إلى الفساد الذي يزعم المدعون البلجيكيون أنه حدث في البرلمان الأوروبي، فإن تحركات قطر المؤسسية أكسبتها شبكة هائلة من الحلفاء المؤثرين، بمن في ذلك وزراء سابقون وغيرهم من كبار المسؤولين الحكوميين، ما ساعد في إسماع صوتها ببرلين.
وحسب الصحيفة، فإن أبرز هؤلاء الحلفاء في ألمانيا زيغمار غابرييل، الزعيم السابق للحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، لافتة إلى أنه من خلال منصبه وزيرًا للاقتصاد -من 2013 حتى عام 2017- أقام علاقات قوية مع قطر، كما تزعم مجموعة من رجال الأعمال لزيارة الإمارة الخليجية عام 2015 لتوقيع عدد من الاتفاقات.
عام 2020، بعد عامين من تركه للمنصب، انضم غابرييل إلى مجلس الإشراف في "دويتشه بنك" بناءً على طلب من قطر.
وكان غابرييل كتب على "تويتر" في أكتوبر الماضي: "الغطرسة الألمانية بشأن قطر تجعلني أشعر بالغثيان"، في معرض رده على بعض انتقادات المسؤولين الحكوميين لمعاملة الإمارة للمثليين، مشيرًا إلى أن "المثلية الجنسية كانت غير قانونية في ألمانيا حتى عام 1994".
لكن -حسب الصحيفة- لم يكن غابرييل، الألماني البارز الوحيد الذي أعرب عن استيائه من الطريقة التي تُعامل بها قطر، إذ إنه بعد أيام من تغريدته، شاركه يوشكا فيشر، أحد أسلاف غابرييل كنائب للمستشار ووزير الخارجية ذات الرأي، ودافع عن سياسة الدوحة تجاه المثليين.
مؤتمر ميونيخ
أيضًا -حسب بوليتيكو- كان من الوسائل الرئيسة للتواصل الألماني القطري، مؤتمر ميونيخ للأمن (إم إس سي) الذي ترعاه الدولة، وهو مؤتمر الأسلحة والدبلوماسية السنوي، الذي يديره هيوسغن والدبلوماسي الألماني وولفغانغ إيشينغر.
فعام 2018، منح إيشينغر، أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني امتيازًا نادرًا، لإلقاء كلمة في الجلسة الافتتاحية للجنة السلامة البحرية، بينما كان رؤساء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وحلف شمال الأطلسي يتابعون.
رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، كان أيضًا عضوًا في مجلس أمناء مؤتمر ميونيخ للأمن، وهي الهيئة المخصصة لأكبر المانحين للمؤتمر.
كانت قطر أيضًا عميلًا مهمًا لشركة استشارات إيشينغر "مجموعة أغورا الاستراتيجية"، التي استأجرتها الإمارة عام 2017 لتدريب سفيرها في ألمانيا آنذاك الشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني، وهو رئيس الديوان الأميري الحالي، على أدق نقاط الدبلوماسية.
ووفق الصحيفة الأمريكية، رغم الجهود الجبارة التي بذلتها شبكة التأثير الألمانية في قطر، فإن تحويل الرأي العام لصالح الإمارة في ألمانيا، أثبت أنه يمثل تحديًا ولم يؤتِ أكله.
فإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز ضد مجتمع الميم، كان على المدافعين عن قطر التعامل مع التقارير التي تفيد بأن الدولة الخليجية تجسست على ثيو زوانزيغر، الرئيس السابق لاتحاد كرة القدم الألماني، المنتقد الصريح لتنظيم كأس العالم في قطر.
كان زوانزيغر عضوًا في اللجنة التنفيذية للفيفا، ووصف قرار منح قطر البطولة بأنه "أحد أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في الرياضة على الإطلاق"، كما أشار إلى البلاد على أنها "سرطان في عالم كرة القدم"، وهو ما رد عليه الاتحاد القطري لكرة القدم، بدعوى قضائية ضده، إلا أن المحكمة لم تدن زوانزيغر.
ووفقًا لوثائق كشفتها وكالة أسوشيتيد برس العام الماضي، دفعت الإمارة، التي كانت تخشى أن تنجح جهود زوانزيغر لتجريد قطر من البطولة، أكثر من 10 ملايين دولار لشركة يديرها عملاء سابقون في وكالة المخابرات المركزية للتجسس على زوانزيغر.
وقد كان الهدف من المجهود، الذي دام ثلاث سنوات، التسلل إلى الدائرة المقربة من زوانزيغر والتلاعب به، وفقًا للوثائق.
ورغم هذه التحركات، فإن تغطية وسائل الإعلام الألمانية لكأس العالم كانت بعيدًا عن المتوقع، واتسمت بالهجوم بدلًا من الثناء والإطراء، حتى أن السياسيين الألمان، الذين عادةً ما ينتهزون الفرصة للاستمتاع بأضواء كأس العالم، تجنبوا الدوحة كأنها "الطاعون"، وسط تسونامي من الانتقادات الصحفية التي تلقتها الإمارة الخليجية طوال البطولة، بسبب تجاوزات حقوق الإنسان، وفق وصف الصحيفة الأمريكية.
بينما كانت وزيرة الداخلية نانسي فيسر، المسؤولة الألمانية الوحيدة التي حضرت إحدى مباريات منتخب بلادها بالدوحة، إلا أنها أثارت ضجة كبيرة، بسبب ارتدائها شارة "قوس قزح" دفاعًا عن حقوق مجتمع الميم، وهي لفتة عدها نظراؤها القطريون إهانة.
وأشارت الصحيفة الأمريكية، إلى أن الخلافات تفاقمت بين البلدين، بعد وضع أعضاء الفريق الألماني أيديهم على أفواههم أثناء التقاط صورة للفريق، في احتجاج واضح على القيود المفروضة على حرية التعبير خلال البطولة.
ولكن بعد خروج منتخب ألمانيا المبكر من البطولة، سخر عديد القطريين من الفريق، من خلال تغطية أفواههم أمام الكاميرات.
وقد أدى الخلاف إلى تحريك المدافعين الألمان عن قطر، حيث التقى هيوسغن، الذي تصادف وجوده في قطر برحلة "خاصة" لحضور مباريات كأس العالم أواخر نوفمبر، وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وحاول إرضاءه، بعد أن أبلغه آل ثاني بأن بلاده تشعر بخيبة أمل، للهجوم الألماني المستمر على بلاده.
لم يتوقف الأمر عند هيوسغن، وإنما انتقد سفير ألمانيا في قطر، كلوديوس فيشباخ، في برقية مطولة إلى برلين أوائل ديسمبر، معاملة بلاده للإمارة، وخلص إلى أنها "أهدرت الثقة" التي كانت تتمتع بها، واشتكى مما عده عدم توازن في ما سماها "حملة إعلامية غير مسبوقة".
وكتب فيشباخ في برقيته: "لا نريد أن نتخلى عن قطر كحليف موال للغرب، ولا يمكننا أن ننسى دورها في توفير الطاقة، ووساطتها في عديد الملفات الصعبة، فضلًا عن استثماراتها غير المحدودة في ألمانيا".
وأشارت "بوليتيكو" إلى أنه رغم أن الانتقادات الموجهة لقطر كانت في أوجها أواخر نوفمبر 2022، فإن شركات الطاقة الألمانية وقعت بهدوء اتفاقية مدتها 15 عامًا لشراء ما يصل إلى مليوني طن من الغاز الطبيعي المسال القطري.
ونوهت إلى أنه "في حين أن هذا ليس سوى قطرة في بحر من حاجات ألمانيا من الغاز، من المحتمل أنها مجرد خطوة نحو المزيد من الصفقات".