الرسالة المخفية في خطاب بايدن بشأن أفغانستان
الرؤساء الذين عاصروا الحرب الباردة، لم يتحدَّثوا عن المسؤولية العالمية ولا عن الدور الذي لا غنى عنه للولايات المتحدة، بل تحدَّثوا عما يمكن وما ينبغي ألا تفعله هذه الدولة الأغنى والأقوى، والتكلفة المالية والبشرية المذهلة للمحاولة والفشل

ترجمات - السياق
سلَّط جيف جرينفيلد، المحلل والمؤلف التلفزيوني، الحائز جائزة إيمي خمس مرات، الضوء على خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، بشأن انتهاء الحرب في أفغانستان، مشيرًا إلى أنها "كانت كلمات لم ينطق بها أي رئيس، على الأقل منذ بدء الحرب الباردة، قبل نحو 75 عامًا".
وقال جرينفيلد، في مقال بصحيفة بوليتيكو الأمريكية: إن الرؤساء الذين عاصروا الحرب الباردة، لم يتحدَّثوا عن المسؤولية العالمية ولا عن الدور "الذي لا غنى عنه" للولايات المتحدة، بل تحدَّثوا عما يمكن وما ينبغي ألا تفعله هذه الدولة الأغنى والأقوى، والتكلفة المالية والبشرية المذهلة للمحاولة والفشل.
بينما قال الرئيس جو بايدن: "إننا ننهي حقبة من العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل دولة أخرى... نحاول إنشاء أفغانستان ديمقراطية ومتماسكة وموحدة، وهو أمر لم يتم القيام به على مدى قرون في تاريخ أفغانستان"، وأضاف: "لقد أنفقنا 300 مليون دولار في اليوم طوال 20 عامًا... فما الذي فقدناه نتيجة لذلك من حيث الفرص؟".
رواية مؤلمة
وأضاف الكاتب: بينما كان بايدن يتحدَّث عن بطولة الجيش الأمريكي وأفراد الاستخبارات والدبلوماسيين، فإن روايته لما عاناه قدامى المحاربين، لم تكن أقل من كونها مؤلمة، إذ قال: "لقد عانى الكثيرون من قدامى المحاربين وعائلاتهم الجحيم"، مشيرًا إلى أن "18 من المحاربين القدامى، يموتون في المتوسط منتحرين كل يوم في أمريكا، وليس في مكان بعيد".
وأوضح جرينفيلد، أن بايدن ركز في خطابه على دفاعه عن استراتيجية الانسحاب من أفغانستان، واحتفاله بعمليات الإجلاء الجماعي للجيش الأمريكي، مشيرًا إلى أن تعليقات الخبراء تضمنت ما إذا كان وعده بإبعاد أولئك، الذين تخلفوا عن الركب، سيحظى بقبول شعبي معقول أم لا.
ربما يكون الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للسياسة الأمريكية، إذ يبدو أن بايدن يتبنى معتقدًا مشتركًا مع الناخب الأمريكي، فلقد كان دور أمريكا الدولي تمرينًا على تجاوز الحدود، ولأكثر من عقد، كان ذلك تيارًا أقوى مما قد تعترف به مؤسسة السياسة الخارجية، إذ كانت هذه الرسالة واحدة من نقاط القوة الأقل تقديرًا لحملة دونالد ترامب عام 2016.
وأضاف: "كما كان ذلك واضحًا في التحول الحاد ضد جورج دبليو بوش، في انتخابات منتصف المدة لعام 2006 عندما تحطمت عملية دعم الحرب في العراق، تلك الحرب التي اتخذت كذريعة لتحويل البلاد إلى حصن من الحرية، وهو ما لم يحدث، بل كانت سببًا في الفوضى الخلاقة حتى الآن، وعززت هذه الاستراتيجية أيضًا ترشيح باراك أوباما، على حساب هيلاري كلينتون، التي صوتت لحرب العراق.
وأشار إلى إن هذا الأمر يكمن في صميم النداء، الذي وجهه بايدن حين قال: "مهما حدث من خطأ عندما غادرنا أفغانستان، فقد ذهبت حجته، كان علينا الخروج وعلينا التعلُّم من تلك المغامرة المضللة".
الآلة العسكرية
لكن في تقديم هذه الحجة، ترك بايدن سؤالاً أكبر من دون إجابة، هو: ما الذي سنفعله حيال الآلة العسكرية الضخمة، التي لا تزال موجودة ببعض مناطق العالم؟ بحسب الكاتب.
وأشار إلى أنه، بقدر ما ينوي بايدن إنهاء ما تسمى الحروب الأبدية، فإن الحقيقة هي أنه ومنْ يشككون في التدخل الأمريكي في الخارج، لا يحتاجون إلى النظر في صراعات معينة، ولكن في الجهاز العسكري الأمريكي الهائل بالخارج، إذ إنه حتى الآن، اقتصر هذا النقد على هامش مناقشات الأمن القومي، وربما يكون بايدن قد أرسى الأساس لإعادة تفكير أكثر جوهرية، في الكم الهائل وغير المشكوك فيه من الموارد التي تنفقها أمريكا باسم الأمن القومي من دون داعٍ.
ولفت الكاتب، أن الولايات المتحدة تمتلك ميزانية عسكرية تبلغ نحو 700 مليار دولار سنويًا، مدعومة بشبكة من عقود المشتريات بمليارات الدولارات، التي تحول أعضاء الكونجرس إلى جماعات ضغط متحمِّسة للأسلحة التي لا تعمل وتستنزف الخزانة.
وقال الكاتب،: إن الولايات المتحدة لديها 800 قاعدة في عشرات الدول، مضيفًا أن الإنفاق على النزاعات المسلَّحة وبشكل أعم على الحفاظ على هذه الإمبراطورية، يثير الخيال.
وأوضح أن بايدن لم يذكر ذلك في خطابه، لكن التكلفة الإجمالية للارتباطات في أفغانستان والعراق، ستزيد على تمويل مقترحه للإنفاق البالغ 3.5 تريليون دولار، ورغم استنكار منتقدي خطط بايدن المحلية هذا المبلغ، فإنه ليس سوى جزء بسيط مما ينفق في الواقع، ليس على رعاية الأطفال، وكليات المجتمع المجانية، وما قبل الروضة ورعاية أفضل لكبار السن، بل على زوج من النزاعات غير المجدية إلى حد كبير، أحدهم غرق لسنوات في مأزق، والآخر ملوث بشكل لا يمكن إصلاحه بالادّعاءات الكاذبة، التي بدأ من خلالها، في إشارة إلى العراق وأفغانستان على الترتيب.
الأرقام لا تكذب
يؤكد الكاتب، أن هذه الأرقام لا تكذب، فمنذ أن اكتسبت أمريكا مكانة القوة العظمى، أوائل القرن العشرين حتى منتصفه، بنت قوة عسكرية تكاد تضمن أن تميل البلاد إلى محاولة حل المشكلات بعيدًا عن شواطئها، سواء كانت مكافحة الإرهاب، أو بناء الدول، أو التدخل الإنساني في الإبادة الجماعية، أو أي شيء آخر، ومن ثم فإن هذه هي الحقيقة التي سيواجهها بايدن ورؤساء المستقبل، الذين يميلون بالمثل نحو ضبط النفس، في ما يخص الحروب الخارجية.
ويضيف: ليس من الصعب تخيُّل أن هذه الرسالة الأعمق لخطاب بايدن، يمكن أن تظهر كحجة سياسية أكثر بروزًا في الأشهر المقبلة، فقد تتضمَّن دورات الانتخابات النِّصفية والرئاسية المقبلة نقاشًا ليس فقط بشأن أفغانستان وكيف غادرت القوات الأمريكية؟، بل عما نكرِّس حياتنا والموارد له لعقود من الزمن، وإلى أي مدى نحن مستعدون للقيام بذلك.
وأشار إلى تعاون بعض اليسار واليمين، في معارضة سياسات الولايات المتحدة "القوية" في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، لكن الخطوة التالية قد تكون التشكيك في المقدِّمات التي تجعل تلك السياسات ممكنة، فضلًا عن تكلفتها الباهظة.
ولفت إلى عدم وجود نمط أيديولوجي لهذه الحجج "فقد نراه من المتنافسين الجمهوريين على الرئاسة، ومن المحتمل أن نراه من اليسار، بينما يواجه شاغلو الديمقراطيين الوسطيين تحديات أساسية من التقدميين".
وتابع أنه عام 1963، اكتشف الرئيس جون كينيدي، خلال محاضرة في الغرب الأمريكي، أن استحضار معاهدة حظر التجارب النووية وإعادة التفكير في الحرب الباردة، يحظى بقبول كبير حتى من المناطق المحافظة أساسًا، وحينها كان يخطِّط لجعل "السلام" قضية مركزية لإعادة انتخابه.
لكن بعد نحو 75 عامًا من الحرب الباردة، ومغامرات مأساوية من فيتنام إلى العراق إلى أفغانستان، يتساءل الكاتب عمّا إذا كان خطاب بايدن أمس، بحذره الواضح، من أنه لا يمكننا إعادة تشكيل العالم بناءً على أوهامنا، قد يكون بداية نقاش أكبر عن دور الجيش الأمريكي عالميًا، وهو نقاش لم يسبق أن خاضه هذا البلد حقًا، لكنه طال انتظاره.