في ذكرى وفاة نجيب محفوظ... استكشاف عالم القصة القصيرة عند الروائي العالمي

يقول نجيب محفوظ: إن الفن أيًا كان لونه وأيًّا كانت أداته، تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى

في ذكرى وفاة نجيب محفوظ... استكشاف عالم القصة القصيرة عند الروائي العالمي
الأديب العالمي نجيب محفوظ


السياق


لم يفضّل نجيب محفوظ لونًا أدبيًا على آخر، من حيث القيمة الفِكرية والجمالية، فكلهم سواء، أما الاختلاف ففي الشكل والأداة. وتتيمه بالرواية كان من رؤيته النقدية، إذ رآها جامعة، شاملة، لألون عدة من فنون الكلام، وساحة واسعة يستطيع من خلالها أن يوصل فِكرته الأدبية، ودائما ما ساق هذا الخط الدفاعي، أو التشريحي، في حديثه عن الرواية، فيقول في إحدى مقالاته: إن اللحظة أو الموقف الواحد، اللذين تمتاز بهما الرواية، فيها نجد التحليل والنقد كما في المقالة، ونجد الحوار والموقف الدراماتيكي كما في المسرحية، وفيها متسع للتعبير الشعري، والخيال الشعري إن وجد الاستعداد لهما كما في الشعر، بل إن في الرواية إمكانات الوسائل التعبيرية الأحدث منها كالإذاعة والسينما، وبينما نجد في كل شكل فني مجالًا محدودًا للتعبير، لا يستطيع الفنان أن يتجاوزه، فإن الرواية لا حدود تحدها، فهي شكل فني لا نظير له.

ويؤكد في مقال آخر عن رؤيته للأدب بشكل عام: إن الفن أيًا كان لونه وأيًّا كانت أداته، تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى، ففي عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقى سيد لا يدانى، فالفنون جميعًا تتفق في الغاية، وتتساوى في السيادة كل بحسب مجاله. وهي في مجموعها تُكوِّن دنيا الأفراح والمسرّات والحرية، حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون.

لذلك لم يكن مستغربًا أن تكون للروائي العالمي الحاصل على نوبل، إسهامات في أدب القصة القصيرة، إذ كتب الشعرات منها، ونشرها منفردة في المجلات الثقافية، وكانت باكورتها "ثمن الضعف" في "المجلة الجديدة" أغسطس 1934، وتبعها بأخريات في جريدة السياسة، ومجلات "الرسالة"، و"الرواية"، و"مجلتي"، و"الثقافة".

كما بدأ نجيب محفوظ كتاباته الأولى بالقصة القصيرة اختتمها أيضًا، فبعد روايته الأخيرة "قشتمر"، جمع نحو 6 مجموعات قصصية آخرها "أحلام فترة النقاهة" التي نُشرت عام 2004، حتى كانت المفاجأة قبل أعوام قليلة، إذ صدرت عن دار "الساقي" اللبنانية مجموعة قصصية جديدة للأديب الراحل هي "همس النجوم".

وتعود قصة تلك المجموعة -همس الجنون- إلى صندوق صغير أهدته السيدة أم كلثوم نجيب محفوظ إلى الصحفي محمد شعير، يحتوي على بعض المراسلات ومخطوطات لروايات ورسائل، وبين تلك الأوراق أزال شعير الغبار عن بعض القصص، التي نشر محفوظ بعضها في إحدى المجلات، لكنها لم تصدر في كتاب يجمعها، حتى تسلَّمتها دار الساقي عام 2018.

وتشمل تلك المجموعة القصصية "همس الجنون" عناوين مثل: "مطاردة" و"توحيده" و"ابن الحارة" و"نبوءة نملة" و"بونا عجوة" و"السهم" و"همس النجوم" و"العمر لعبة" و"دعاء الشيخ قاف"، وبين تلك العناوين التي نُشرت قصة "نبقة في الحصن القديم" التي سنتعرف إليها كمثال للقصة القصيرة، عند كاتب الرواية العالمي نجيب محفوظ.

ولا تختلف "همس النجوم" عن باقي كتابات الأديب العالمي الروائية، فالحارة حاضرة والشيوخ، والفتوات، والمجاذيب، والدراويش، وأولياء الله الصالحون، وأصحاب الكرامات، موجودون، وبالكاد لا تختلف "نبقة في الحصن القديم" عن باقي قصص تلك المجموعة.

وتحكي القصة عن "نبقة" وهو الابن الأخير لـ"آدم السقاء" الذي أنجبه بعد وفاة تسعة أبناء له في "الوباء الكبير"، ما دفع الأب لتسليمه إلى إمام "الزاوية" لخدمتها حين بلغ سن السابعة، وفاءً لنذر قد نذره، وهو إذا حفظه الله ولم يلحق بإخوته في قطار الموت، وقال السقاء لأصحابه: "خدمة بيت الله أشرف خدمة، وبين الصلوات والأدعية والدروس يتشرَّب قلبه النور والبركة".

كان أكثر وقت "نبقة" يقضيه في الزاوية، وأقل وقته في الحارة مع الأصدقاء، وعُرف عنه حبه لـ"الحصن القديم" الموجود فوق القبو، وكان يسأل أي شخص عن الموعد الذي يفتح فيه بابه، وحينما بلغ سن العاشرة طلب ذات يوم من إمام الزاوية، أن يذهب لزيارة قبر والديه، لكنه ذهب إلى "الحصن القديم" وأصابته اللعنة...!

"ذهب نبقة ولم يرجع في الوقت المتوقَّع، ومر على غيابه ثلاثة أيام، وقلق الإمام وظن أن الصبي اختار لحياته سبيلًا جديدًا، أو أنه حدث له مكروه، وكاشف شيخ الحارة بمخاوفه، فأرسل الشيخ خفيرًا للبحث عنه، لكن قبل انقضاء اليوم الثالث بساعات، ظهر الصبي قادمًا من ناحية القبو".

لم يأتِ "نبقة" الذي يعرفه الإمام ولا أهل الحارة، وحينما سُئل عن سبب تأخره أجاب، بأنه كان في ضيافة "الأموات" يعطونه المعرفة والقدرة.

 ويستنكر الإمام فعلته ليصرخ في وجهه: "أجننت يا نبقة؟ أم مسَّك عفريت؟"، وبعدها تغيرت معاملة الفتى، ورفض أن يستمر في الزاوية، وأن يكون خادمًا لإمامها، ورحل عنها وصار حديث الناس في الحارة.

نبقة: أستودعك الله يا إمام، يسأله: أنت ذاهب إلى أين؟ يجيبه: لم أعد أصلح لأكون خادمًا لك ولا أنت تصلح لتكون سيدًا لي، يصيح الإمام: عليك لعنة الله".

طريق مغاير اختاره "نبقة" يبدأ من خلاله رحلة جديدة، فما من أحد إلا أوقفه "نبقة" ووعظه، سواء كان من الأعيان أو الفقراء الحرافيش، فكان يعلم عن الناس فضائحهم، ومصائبهم، التي ارتكبوها، وأسرارًا لا يعرفها أحد، ويذكرهم بها، وكانت الناس في حيرة من أمرها: "من أين يجئ ذلك الصبي بتلك الأسرار؟"، سادت حالة من الذعر والقلق، وانتشرت الفتن والخصومات في الحارة، من وراءه.

"يعترض كثيرون من وجوه الحارة، يبدأ كلامه عادة بقوله: "اخجل من نفسك"، أو "كيف سوَّلت لك نفسك أن تفعل ذلك"، أو "أما زلت تتظاهر بالوقار؟"، وعقب تلك الافتتاحية يذكر فضيحة من الفضائح الأخلاقية أو المالية".

أحدث صخب وغضب في الحارة، وحينما وصلت الأمور ذروتها، ضربه الإمام، لكنه لم يتأثر، إذ بعد رجوعه من "الحصن القديم" استمد قوة بدنية هائلة، فأزاحه بقوة وتقهقر الإمام، ونابته حالة من الخوف الشديد، فتوجَّه شيخ الحارة والخفر من حوله، وانهالوا بالضرب على "نبقة" لكن الأخير لا يحرِّك ساكنًا، حتى فر من أمامهم.

"رماه الإمام بالكفر وانقض عليه مصممًا على أخذه بالقوة، لكن الصبي دفعه بالقوة الجديدة التي استمدها من المجهول، غضب شيخ الحارة غضبًا شديدًا، وهجم على الصبي بعصاه، ضربه أولًا بخفة فلم يبال ولم يتحرك، فراح يقوي من ضرباته والصبي يتلقاها بهدوء والناس ينظرون في ذهول، وبدا أن الصبي يزداد قوة واحتمالًا وكان أمرًا بالغ الغرابة". 

تناثرت الأحاديث بعد ذلك عن "نبقة"، فهناك مَنْ اعتقدوا بأنه مات، وآخرون قالوا إنه قبض عليه، أما سكان القبو فقالوا إنه مازال حيًا ويرونه كل يوم وتتنامى قوته وقدرته الخارقة.

"قيل إن نبقة قبض عليه، وقيل إن الأقدام داسته، أما سكان القبو فقد أكدوا أنه حي وأنهم رأوه يتجول في ما وراء القبو، وأنه كان مع كل خطوة يكبر ويتضخم ويتعملق ويمتد في جميع النواحي، حتى تعذَّر عليهم أن يروا رأسه المنطلق في الفضاء، ومازال قوم يعتقدون أنه مقيم حتى اليوم في الحصن القديم.