باكستان نموذجًا... هل الاعتماد المُفرط على الصين رهان خاسر؟
يجب أن تتعلم باكستان كيف تعيش في حدود إمكاناتها، بدلاً من السعي وراء التفوق الإقليمي، من خلال الاعتماد على الصين.

ترجمات - السياق
سلَّطت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، الضوء على سقوط بعض الأنظمة الآسيوية -اقتصاديا- التي اعتمدت على الصين، مثل سريلانكا، موضحة أن الاعتماد على بكين "حماقة ورهان خاسر".
وأشارت المجلة، إلى أنه في يوليو الماضي، أطاحت انتفاضة شعبية في سريلانكا الحكومة، ونُفي الرئيس، لافتة إلى أنه رغم أن الثورة كانت تختمر منذ أشهر في أعقاب الانهيار الاقتصادي، إلا أنها فاجأت المراقبين.
ففي مشاهد سريالية، سيطر المتظاهرون على القصر الرئاسي، وسبحوا في مسبح القصر، وتناولوا العشاء في مطبخه، وطافوا حول غرف النوم، وعقدوا اجتماعات بأسلوب منمق في غرف الاجتماعات.
وبينت المجلة، أن هذه الصور أذهلت بقية الاقتصادات التي تعاني ضائقة مالية في جنوب آسيا، وهي منطقة مضطربة تعاني حكومات غير مستقرة، مشيرة إلى أن ذلك يأتي كنتيجة حتمية لعواقب محاولات الصين لتوسع لنفوذها هناك.
الدور التالي
وأشارت "فورين أفيرز" إلى أنه من دكا (بنغلاديش) إلى إسلام أباد (باكستان)، نظرت الحكومات في المنطقة إلى الفوضى في كولومبو (سريلانكا) وتساءلت عما إذا كانت قد تكون التالية.
وحسب المجلة، فقد نشأ الوضع السيئ في سريلانكا عن انهيار اقتصادها، في خضم ارتفاع أسعار السلع الأساسية وأزمة الديون الكبرى، وهو ما يقدِّم درسًا مريرًا للاقتصادات المتعثرة في مواقف مماثلة، خاصة تلك التي -مثل سريلانكا- تعتمد بشكل مُفرط على الصين.
إضافة إلى سريلانكا، فإن 42 دولة متوسطة ومنخفضة الدخل، مثل جيبوتي وقيرغيزستان ولاوس وزامبيا، تحملت التزامات ديون كبيرة للصين تتجاوز قيمتها 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن، الكارثة في سريلانكا -حسب المجلة الأمريكية- تؤذي باكستان بشكل خاص، البلد الذي يعتمد بشكل كبير على القروض الصينية.
فقد سعت باكستان -في طريقها إلى التنمية- لجذب الاستثمار الصيني، ورغم ارتفاع تكاليف الاقتراض، لا يزال القادة الباكستانيون يعتقدون أن رهان البلاد مع الصين يستحق كل هذا العناء.
أمام ذلك، ترى المجلة، أنه "إذا كان القادة الباكستانيون مخطئين في نظرتهم لبكين، فإن العلاقة مع الصين تهدد بترك البلاد عُرضة للاضطراب السياسي المتزايد في خِضم انكماش اقتصادي خطير بالفعل".
وبينت المجلة، أنه بسبب حجم الدولة، فإن المخاطر أكبر في باكستان مما كانت عليه في سريلانكا، مشيرة إلى أن باكستان موطن خامس أكبر عدد من السكان في العالم واقتصادها يبلغ 340 مليار دولار.
وحسب المجلة، انخفضت في السنوات الست الماضية، الإنتاجية الاقتصادية إلى مستويات قياسية، وتقلصت الإيرادات المحلية والاحتياطات الأجنبية، وانخفضت قيمة العملة، وارتفعت معدلات البطالة، وازداد الفساد السياسي.
بينما تضاعف إجمالي الدين الخارجي للبلاد تقريبًا منذ عام 2016، ووصل إلى 131 مليار دولار.
وأضافت المجلة: "أجراس الإنذار تدق حتى في الوقت الذي يرفض فيه زعماء باكستان المتشاجرون الاستماع".
ففي يونيو الماضي، اقترضت الحكومة الباكستانية الجديدة المهتزة 2.3 مليار دولار أخرى من الصين لدعم احتياطاتها الأجنبية، كما تفاوضت على استمرار حزمة الإنقاذ بـ 6 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي، تضمنت رفع أسعار الوقود وتعريفة الكهرباء، وهي إجراءات لا تحظى بشعبية كبيرة أدت إلى رد فعل شعبي عنيف.
أمام ذلك، حاولت الحكومة إقناع الباكستانيين بقبول واقع الأوقات العصيبة، وحثتهم على تقليص شُرب الشاي للمساعدة في تقليل فاتورة الدولة المستحقة البالغة 600 مليون دولار لواردات الشاي.
وحسب المجلة الأمريكية، رغم أن هذه الإجراءات قصيرة الأجل يمكن أن تكسب باكستان بعض الوقت، فإنها لن تضمن اعتمادها الاقتصادي على الذات، مشددة على أن باكستان تخاطر بنتيجة أخطر بكثير من سريلانكا، حيث أصبحت سياساتها مضطربة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة بسبب (تصرفات قادتها، وتدخلات الجيش المستمرة في شؤون الحكم، مع سكان مستقطبين بشدة).
في ظل هذه التطورات، تحذر المجلة الأمريكية، من أنه مع تأجيج المشاعر الخطيرة المعادية لأمريكا لكسب التأييد الشعبي، وتنامي تيار جديد من القادة الباكستانيين، المؤيدين لما تسمى القومية الإسلامية، قد ينفجر برميل بارود من المظالم، عندما يصبح الباكستانيون العاديون أكثر فقرًا وغضبًا.
إسرائيل الصينية
وترى "فورين أفيرز" أن أي اعتبار للوضع المالي المحفوف بالمخاطر لباكستان يجب أن يشمل الصين، إذ تدين إسلام أباد بما يقرب من ربع ديونها الخارجية لبكين.
ورغم ذلك، لم يجرؤ أي زعيم باكستاني على التشكيك في علاقة البلاد غير المتكافئة بجارتها الشمالية، فضلا عن إسكات أي انتقاد للصين، إذ إنه بينما تسارع باكستان لتهديد جارتها الهند جراء شن هجمات ضد الأقلية المسلمة هناك، ترفض إدانة سوء معاملة الصين الجسيم للسكان الأويغور المسلمين.
ووفقًا لتقارير، فقد وصف مسؤول صيني ذات مرة باكستان لنظيره الأمريكي بأنها "إسرائيل الصينية"، وهو مقياس لقوة التحالف بين الجانبين.
وأوضحت المجلة، أن الركيزة الأساسية للعلاقة الاقتصادية بين البلدين، تعهد استثمار صيني بـ 62 مليار دولار -ما يقرب من خُمس الناتج المحلي الإجمالي لباكستان- في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، وهو مشروع يمثل أكبر برنامج فردي في استثمار بكين المترامي الأطراف في البنية التحتية، ويعرف بـ "مبادرة الحزام والطريق".
وأشارت المجلة، إلى أنه تم إطلاق الممر الاقتصادي عام 2015، ويتضمن تطوير شبكة بنية تحتية واسعة النطاق في باكستان، بما في ذلك ميناء بحري رئيس، ومشروع سكك حديدية بـ 7.2 مليار دولار، ونظام مترو بملياري دولار في لاهور، ومحطات لتوليد الطاقة الكهرومائية، ومئات الأميال من اتصال الألياف الضوئية بين البلدين (التي بنتها وتديرها شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي) ومناطق اقتصادية خاصة.
وأفادت بأن التزام الصين تجاه باكستان، يتجاوز الإجمالي التراكمي للاستثمار الأجنبي المباشر والمساعدات الأجنبية لباكستان من مصادر أخرى، بما في ذلك من الولايات المتحدة.
وبينت أنه رغم أن حجم التدخل الصيني في باكستان هائل، فإن عواقبه كانت أكبر، حيث عززت طبيعة هذه الاستثمارات -بشكل ملحوظ- تأثير الشركات والصينيين في السياسة الباكستانية.
في غضون ذلك، وافقت الحكومة الباكستانية على دفع فاتورة باهظة بـ 3 مليارات دولار لمحطتين لتوليد الطاقة، ومنحت إعفاءات ضريبية شاملة للمشاريع الصينية، ما تسبب في خسارة الإيرادات الوطنية.
ونظرًا لأن أغلبية هذه المشاريع تتطلب آلات من الصين، فقد نمت فاتورة الواردات الباكستانية فقط، وفي الوقت نفسه، لم تفعل المشاريع الصينية الكثير لتعزيز فرص العمل للسكان الأصليين داخل باكستان، لأن العديد من الشركات الصينية تفضل جلب العمالة الخاصة بها، وإيواء هؤلاء العمال في مستعمرات سكنية مبنية حديثًا، حيث نادرًا ما يتفاعلون مع السكان المحليين.
وأشارت المجلة، إلى أنه في بعض الحالات، أدت المشاريع الاستثمارية الصينية إلى الاستيلاء على الأراضي، وتهديد سُبل عيش الصيادين الباكستانيين، وتشريد أعداد كبيرة من السكان، ما أدى إلى انتشار عدم الاستقرار على نطاق أوسع.
إفاقة متأخرة
وأوضحت "فورين أفيرز" أن الباكستانيين بدأوا يستيقظون ببطء على مشكلة التورط في آلة الاستثمار الخارجية لبكين.
وأشارت إلى أن النشوة الأولية التي رحبت بالاستثمار الصيني بدأت التلاشي، إذ بدأ القادة الباكستانيون ينظرون بحذر إلى حجم التزامات ديون البلاد، خاصة أن الصين أصبحت أكثر ترددًا خلال العامين الماضيين في الاستثمار أكثر في باكستان بسبب المخاوف الأمنية والمخاوف بشأن عائدات الاستثمار.
وبينت أنه رغم اتفاقية التجارة الحرة مع الصين، فإن الصادرات الباكستانية راكدة إلى حد كبير، لافتة إلى أنه خلال السنة المالية 2020-2021، تجاوز إجمالي التجارة الثنائية 17 مليار دولار، لكن الصادرات الباكستانية لم تتجاوز 2.3 مليار دولار.
وفي قطاع الطاقة -تضيف المجلة- كافحت الحكومة الباكستانية لدفع فاتورة متأخرة لمنتجي الطاقة الصينيين تزيد على 1.5 مليار دولار، وبدلاً من ذلك، سعت باكستان للحصول على مزيد من القروض الصينية لتغطية هذه التكاليف.
وحسب المجلة، تشير تقارير إعلامية إلى أن أكثر من عشرين شركة صينية تعمل بمشاريع طاقة في باكستان، هددت بوقف عملياتها إذا لم يتم سداد المدفوعات المتأخرة.
في غضون ذلك، موَّل جزء كبير من الأموال المخصصة لمشاريع الطاقة الصينية بناء محطات طاقة تعمل بالفحم وتعتمد على الفحم المستورد، ما زاد فاتورة الواردات الباكستانية.
ميناء جوادر
ورأت "فورين أفيرز" أن مشكلات ميناء جوادر تمثل رمزًا للمشكلات التي تلوح في الأفق بالنسبة لباكستان، إذ ركز الصينيون -بشكل خاص- على بناء جوادر، وهو ميناء بحري على ساحل بحر العرب في مقاطعة بلوشستان، ووعدوا بتوسيع الوصول إلى الشرق الأوسط.
أمام هذه الوعود، تم تأجير جوادر 40 عامًا للحكومة الصينية عام 2017، ويتم تشغيله من قِبل (أوفرسيس بورتس هولدنغ)، وهي شركة صينية مملوكة للدولة تتلقى 91 في المئة من الأرباح الناتجة عن الأنشطة في الميناء.
ومع ذلك، منذ أن تولت الشركة الصينية السيطرة عليه، حقق الميناء تقدمًا ضئيلًا في تطوير أعماله التجارية، إذ إن السفن الصينية التي ترتاد الميناء لم تحقق البضائع الموعودة سنويًا، المقدرة بنحو 13 مليون طن.
لكن -حسب المجلة الأمريكية- بعيدًا عن المشكلات الاقتصادية، تزداد المخاوف في الهند والغرب بشأن نية الصين لإنشاء قاعدة بحرية في جوادر، الذي قد يصبح ميناءً ثنائي الاستخدام تديره الصين كمنشأة تجارية وعسكرية.
فمن شأن ميناء كهذا أن يعزز القوة البحرية الصينية في المحيط الهندي، ويكمل وجودها البحري القوي في جيبوتي.
وتحتفظ باكستان بوجود بحري في جوادر، لكنها نشرت أيضًا أكثر من 15000 عسكري في المنطقة لتوفير الأمن للصينيين، بعد أن تزايدت التهديدات التي يتعرض لها المواطنون والمشاريع الصينية هناك، حيث استهدف القوميون البلوش والجماعات المسلحة الأخرى الصينيين.
ففي أبريل، هاجمت انتحارية معهد كونفوشيوس الصيني في كراتشي، ما أسفر عن قتل ثلاثة صينيين، واستهدف انفجار آخر في فندق بمدينة كويتا جنوبي غرب باكستان السفير الصيني.
وفي يوليو 2021، أدى انفجار حافلة إلى قتل تسعة مهندسين صينيين، بينما أدت هذه التهديدات المسلحة المتزايدة في بلوشستان إلى إضعاف رغبة الصين في الاستثمار بأكثر المناطق فقرًا في باكستان.
ورغم أن السلطات الصينية والباكستانية نفت وجود خطط لعسكرة ميناء جوادر، ظلت الصين أكبر مورد للأسلحة لباكستان، إذ إنه بين عامي 2009 و2010، قدَّمت الصين 70 في المئة من واردات باكستان من الأسلحة، بقيمة تزيد على 5 مليارات دولار، وبين عامي 2017 و2021، ذهبت نسبة مذهلة من 47% من إجمالي صادرات الأسلحة العالمية للصين إلى باكستان.
أمام هذه المعضلات، تراهن باكستان على حقيقة أنها أهم بكثير بالنسبة للصين وبقية العالم من سريلانكا، إذ ستكون التداعيات العالمية للفوضى السياسية في باكستان -بعد انهيار اقتصادي مماثل- أكبر من تلك التي حدثت في سريلانكا، ما يزيد الآمال الباكستانية بأن تتدخل القوى الكبرى لإبقاء البلاد واقفة على قدميها.
وهذا -حسب المجلة الأمريكية- لا يستبعد احتمال أن يؤدي نقص الوقود والكهرباء إلى إثارة اضطرابات حضرية واسعة النطاق، وقد تندلع أعمال عنف في الشوارع بين الأحزاب السياسية الرئيسة، وإلقاء اللوم على بعضها في بؤس الناس، ووسط ذلك قد لا يرغب الجيش -الذي كان في كثير من الأحيان الحكم الأخير في السياسة الباكستانية- في الاضطرار إلى إطلاق النار على المواطنين لقمع هذه الاحتجاجات.
ولتجنُّب هذا المصير -حسب "فورين أفيرز"- يجب على قادة باكستان التوصل إلى إجماع على الإصلاحات التي طال انتظارها، مثل خفض الإنفاق الحكومي وإنهاء ارتباط باكستان "بالإرهاب" – حسب المجلة الأمريكية-، وهو أمر ضروري لجذب الاستثمار الأجنبي.
كما أن فتح التجارة مع الهند - وهي خطوة مثيرة للجدل لكنها ستكون مهمة جدًا- من شأنه أن يخفف الضغط على التزامات المدفوعات الخارجية لباكستان.
وقبل كل شيء، يجب أن تتعلم باكستان كيف تعيش في حدود إمكاناتها، بدلاً من السعي وراء التفوق الإقليمي، من خلال الاعتماد على الصين.