أوتيسا مشفق... بطلة لإنقاذ الرواية الأمريكية من المدَّعين
رغم صِغر سنها، تواجه معضلة كبيرة عن قيمتها في الحياة وهدفها من الوجود، وبالطبع كل ذلك جزء من الاكتئاب الذي تعانيه، الذي تُقرر التعامل معه بشكلٍ غير مألوف

ترجمات - السياق
سلَّط الناقد الفني، كاتب العمود الأمريكي آدم ليرر، الضوء على مجموعة روايات الروائية أوتيسا مشفق -كاتبة القصة القصيرة الشهيرة من أب إيراني وأم كرواتية- مشيرًا إلى أنها مختلفة كثيرًا عن العديد من الكُـتّاب الذين تحتفي بهم المجلات الأدبية "من دون داعٍ".
وحاول ليرر تقديم نقد أدبي بناء لروايات مشفق، وقال في مقال نقدي نشرته مجلة كومباكت الأمريكية، إنه على مدى السنوات العشر الماضية، لم يبدِ إعجابه بالكثير من الكُـتّاب الروائيين، الذين تحتفي بهم مجلة نيويوركر الأمريكية، مشيرًا إلى أن هذه المجلات التي قدَّمت (بينشون ودون ديليلو وفيليب روث) تسهم اليوم -بشكل أو بآخر- في تآكل الأدب وانفصاله عن التاريخ الأوسع للفن.
ووصف الكُـتّاب الجدد بأنهم غارقون في تناقضات آرائهم الليبرالية للعالم، لذلك -حسب الكاتب- فإن مشفق ترفض طمأنة النقاد الليبراليين بأنها ضمن فريقهم.
إيلين
وقد اشتهرت الكاتبة أوتيسا مشفق من خلال روايتها "إيلين" وهي ثاني أعمالها وأول رواية طويلة لها، حيث احتلت مكانًا في القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر لعام 2016 وحصلت أيضًا على آراء جيدة جدًا منحت الكاتبة مكانة كبيرة بين معاصريها.
أصدرت الكاتبة مجموعة قصصية، عام 2017، وبعد هذا التاريخ بعام ونصف العام أصدرت مشفق روايتها الثانية في يوليو 2018 "عام الراحة والاسترخاء"، لكن النجاح هذه المرة كان على نطاق أوسع بكثير على عكس أعمالها السابقة.
فهذه الرواية بسبب حبكتها الغريبة والمختلفة -التي أظهرت إبداع الكاتبة- جعلتها تحصد جمهورًا أكبر، وربما ذلك أيضًا بسبب نجاح أعمال الكاتبة السابقة، ما جعل جمهورها يتهافت على ثاني رواياتها.
اختلاف مشفق
منذ صدورها عام 2015، لا تزال رواية "إيلينا" لأوتيسا مشفق، تحظى باحتفاء نقدي تلو آخر، من كبار النقاد، وفي كبريات الصحف والمجلات، وقد تجلى هذا الاحتفاء بمنح الرواية جائزة فوكنر من قِبل رابطة القلم الأمريكية عام 2015، ووصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة حلقة نقاد الكتاب القومي الأمريكي في العام نفسه.
ولم يكن هذا التكريم الأول التي تناله مشفق، فقد سبق لروايتها القصيرة التي كتبتها عام 2014، بعنوان "ماغلو"، أن حازت جائزةَ "السياج الحديث في النثر"، وجائزة "الكتاب الموثوق".
وقال ليرر: "لم تعد روايات الـ"بيست سيللر" في نيويوركر تستحق النظر إليها، لأنها تقدِّم روايات جاهزة على طريقة الوجبات الجاهزة السريعة، وروائيين تمت برمجتهم على نوع من الكتابة أدى بهذا المسار إلى الانفصال عن واقع الأدب والفن بشكل عام، مضيفًا: "ثمة رؤية ليبرالية موحدة تميل كثيرًا إلى ادعاء الاعتدال والتوازن يتحول من خلالها الكُـتّاب إلى مجموعة من كُـتّاب البيان المعتدل بمبالغة غريبة تصل لدرجة العدم".
وتابع: "مع قراءة رواية (عام الراحة و الاسترخاء) للكاتبة أوتيسا مشفق، كان الوضع مختلفًا، إذ ظهرت مشفق على إذاعة
بودكاست "بريت إيستون إليس"، وقالت كلامًا أحدث لغطًا عن اتجاه الصناعة لمنح الجوائز للكُـتّاب السود بأي ثمن، وادعت بمرح أنها كانت تكتب كتابًا مع بطل الرواية "المتشبه باللباس الصيني"، على أمل أن تبرئه من السلوك الرقابي للجماهير.
كانت تصريحاتها -حسب الكاتب- دافعًا لقراءة روايتها، التي تحكي قصة امرأة شابة برجوازية صغيرة من نيويورك ذات مظهر جيد، تعمل في وظائف تجذب الروح في صالات العرض (أشعر بأنني عرفت هذه الفتاة عشرات المرات) مطلع الألفية.
يصبح اشمئزاز هذه المرأة الشابة من العالم لا يُطاق، والرواية تؤرخ سعيها الروحي للنسيان. إنها تبحث عن المزيج الدوائي المثالي الذي يجعلها تنام عامًا كاملًا.
تجد أغلبية الرواية أنها تفقد الوعي بشأن عقار غريب، لكنها تستيقظ دائمًا وتدرك أنها قامت بأشياء غريبة ومضرة. أخيرًا، تحصل على السبات الطويل الذي تتوق إليه، وتستيقظ مجددًا. لا تزال تشعر بالاشمئزاز، لكن بطريقة ما يمكن أن تجزئ هذا الاشمئزاز. هذا ما يرقى إلى النمو الأخلاقي في عالم مشفق الرهيب.
وتدور أحداث رواية عام للراحة والاسترخاء بين عامي 2000 و2001 في مدينة نيويورك عن فتاة لم تسمها الكاتبة، وربما يوجد هدف لذلك، غالبًا لأن الأسماء تمنح الإنسان هوية، وهذا ما كانت تفتقر إليه بطلة الرواية.
فهي في مُفترق طرق في حياتها، ورغم صِغر سنها، تواجه معضلة كبيرة عن قيمتها في الحياة وهدفها من الوجود، وبالطبع كل ذلك جزء من الاكتئاب الذي تعانيه، الذي تُقرر التعامل معه بشكلٍ غير مألوف.
تُحاول البطلة التحايل على الألم والوقت، وهما أمران مترابطان بشكل وثيق، من خلال النوم سنة كاملة عن طريق أخذ بعض الأدوية والمهدئات التي تساعدها في ذلك، وتُسمي ذلك "عامها للنوم والاسترخاء"، فنُتابع كيف تتمكن من تنفيذ هذا القرار، وهل تُفلح أساليبها في تنفيذ هذه الخطة؟
ويبين ليرر أنه بداية ولوج أوتيسا مشفق إلى العالم الأدبي، لم يكن ينتوي متابعتها، إلا أنها سريعًا ما لفتت انتباهه، خصوصًا بعد أن كشفت للكاتبة الأمريكية آرييل ليفي، أنها ترفض تعريف نفسها بأنها كاتبة نسوية، لأن هذا الأمر "يتطلب منها الكثير من الولاء إلى ما تكتب".
الاشمئزاز الرائع
ووصف ليرر، اشمئزاز مشفق بأنه "عميق وقوي ورائع"، مشيرًا إلى أنه يُشبه كتابات الروائيين الأمريكي هنري ميللر والألماني إرنست يونغر.
وقال: "تشعر مشفق بالقرف ويتجلي ذلك في كتابتها عن القسوة بالنسبة لهنري ميلر، أو ما تمثله الحرب لإرنست يونغر، إذ إنها تكتب أيضًا أن أشخاصًا منفرين بسلوكهم، وهو ما يترك القارئ في حالة قلق"، موضحًا أن أسلوبها الغريب في السرد منحها مكانة فريدة من نوعها، مقارنةً بما هو سائد في الأدب العالمي.
أما رواية "لابفونا" فقد وصفها الكاتب بأنها "غريبة للغاية" ، إذ تدور أحداثها في خلفية غامضة من القرون الوسطى من اللوردات الفاسدين، مشيرًا إلى أنها تستخدم بعض الدعابات للتخفيف من (كآبة الرواية)، إذ تكتب مشفق بشكل غير معهود من منظور الشخص الثالث، وتتحول بين أصوات وعلم النفس لشخصياتها، ما يسمح للقارئ برؤية كل شخصية من الداخل والخارج.
على سبيل المثال -حسب الكاتب- بطل الرواية الرئيسة ماريك - الشخصية التي تقول الكاتبة إنها تتعرف إليها أكثر من غيرها- لمراهق صغير مشوه جسديًا مع أم يُزعم أنها ميتة وأب وحشي يرعى الغنم يُدعى جود، يبدو أنه يحب ابنته رغم ضربه الوحشي لها.
يقتل ماريك صديقه الوحيد جاكوب، نجل اللورد المحلي فيليام، ثم يُجبر على العيش كابن بديل لفيليام انتقامًا من موته.
يعرف القارئ أن ماريك بسيط التفكير، ونقي، وغالبًا ما يكون ذا نية طيبة، ومع ذلك، من وجهة نظر الآخرين، فهو وحش.
أما جود -أحد أقارب فيليام من بعيد- فهو سادي مازوخي يجلد نفسه ويشجع ابنه على فعل الشيء نفسه. أخبر ماريك بأن والدته ماتت أثناء الولادة، رغم أن والدة ماريك فرت في الواقع، بعد أن اغتصبها جود مرارًا وتكرارًا وحاول إجهاض ماريك، الذي يعاني التواءً في العمود الفقري نتيجة لذلك. عندما ألقى ماريك حجرًا على ابن فيليام الثري يعقوب، في نوبة من الغضب بسبب ظروفهم غير المتكافئة، ينزلق يعقوب من جانب منحدر حتى وفاته.
ويؤكد ليرر أن الرواية "عمل فني أدبي يهدف إلى توسيع الوعي"، مضيفًا: "نحن بحاجة إلى روايات تعيش في عالم لاأخلاقي، تتجاوز الأجندة السياسية الموصوفة على وسائل التواصل الاجتماعي".
وشدد على أنه "من المستحيل حصر عمل مشفق في الخطابات الأكاديمية اليسارية الليبرالية النموذجية، المتعلقة بالعِرق أو الهوية أو عدم المساواة"، مشيرًا إلى أن نجاحها عودة إلى الزمن الذي كان فيه الخيال الأمريكي لا يزال يفسح المجال للفنانين، الذين يؤمنون إيمانًا راسخًا بالإمكانات الفنية للخيال، مثل (توماس بينشون، ودون ديليلو، وروبرت أليس).
وأضاف: "تبدو كتاباتها أكثر صدقًا وحساسية، إلى جانب أسماء هؤلاء الرجال مما هو عليه جنبًا إلى جنب مع الهراء الواعي اجتماعيًا للكُـتّاب المعاصرين، مثل كولسون وايتهيد ولويز إردريش وفييت ثانه نجوين"، لكن -يضيف الكاتب- كيف نجحت مشفق؟ ويجيب: "بكل صدق، ليس لدي أدنى فكرة، لكن أملي أن هناك جزءًا صغيرًا من جمهور القراء يتوق إلى العمل الذي يصدمهم ويهينهم ويثيرهم"، وهو ما تميزت بها كتاباتها.