وداعا ميركل.. شمس ألمانيا تشرق لأول مرة منذ 16 عامًا من دون المرأة الحديدية

ولدت أنجيلا ميركل في مدينة هامبورغ شمالي ألمانيا عام 1954، إلا أن عائلتها انتقلت إلى ألمانيا الشرقية، عقب أسابيع قليلة من ولادتها، بعد أن أصبح والدها قسيسًا في كنيسة بالقرب من تمبلن، وهي بلدة هادئة في الريف على بعد 90 كيلومترًا شمالي برلين.

وداعا ميركل.. شمس ألمانيا تشرق لأول مرة منذ 16 عامًا من دون المرأة الحديدية

السياق

لأول يوم منذ 16 عامًا، تشرق الشمس في ألمانيا من دون أن تكون المرأة الحديدية على رأس السلطة في البلد الأوروبي، الذي قادته في خضم أزمات عصفت بجيرانه، واستطاعت دفع قاطرة الاقتصاد الأوروبي نحو ما يوصف بـ«المعجزة الاقتصادية».

فالطالبة التي عملت في متجر خلال دراستها الجامعية، تمكنت من الحفاظ على كيان الاتحاد الأوروبي من الانهيار والتفكك، بعد الصدمات الاقتصادية عام 2009، لتحمي دول الكتلة الشرقية، وأوروبا الغربية، من الأزمات الاقتصادية، التي عصفت بدول عدة في القارة العجوز، إلا أن الأوان قد آن لأنجيلا ميركل كي تودع الحياة السياسية، وأن تترجل من منصب المستشارية الألمانية، رغم شعبيتها الجارفة داخل أوروبا وخارجها.

ويتوجه الألمان إلى صناديق الاقتراع، لتجديد البرلمان واختيار رئيس وزراء جديد، في انتخابات غير متوقَّعة،  يمثِّل التصويت فيها نهاية حقبة أنجيلا ميركل، ما يجعله حدثًا يحدد المسار المستقبلي لأكبر اقتصاد في أوروبا.

 

ماذا نعرف عن ميركل؟

ولدت أنجيلا ميركل في مدينة هامبورغ شمالي ألمانيا عام 1954، إلا أن عائلتها انتقلت إلى ألمانيا الشرقية، عقب أسابيع قليلة من ولادتها، بعد أن أصبح والدها قسيسًا في كنيسة بالقرب من تمبلن، وهي بلدة هادئة في الريف على بعد 90 كيلومترًا شمالي برلين.

من جانبه، قال رئيس بلدية تيمبلن ديتليف تابيرت الذي يعرف العائلة جيدًا والتقى المستشارة الألمانية ميركل في مناسبات عدة: «الناس في تمبلن -أغلبيتهم- فخورون جدًا بأن امرأة من تمبلن أصبحت المستشارة وكذلك أقوى امرأة في العالم».

عاشت ميركل فترتي الحكم الشيوعي والحرب الباردة وتقسيم شطري ألمانيا، إلا أن تلك المعاناة التي عاشتها تسبَّبت في محاولة المرأة الحديدية، تحويل هذا الوضع المأساوي إلى حياة أفضل للألمان، عبر التطلع إلى المستقبل.

اعترفت ميركل مرارًا بأنها عانت في الحياة، مشيرة إلى أنها عملت خلال دراستها الجامعية عاملة في متجر، وتمكنت من الحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء عام 1986، من جامعة برلين الشرقية.

وبعد سقوط جدار برلين، وانهيار الكتلة الشرقية وتوحيد ألمانيا، بدأت العمل السياسي من الحزب الديمقراطي، وانضمت إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي، قبل شهرين من توحيد ألمانيا.

وبعد إعادة توحيد ألمانيا عام 1990، عُيِّنت وزيرة للمرأة والشباب، من مستشارها المستشار السابق هيلموت كول.

وتقول «يورو آسيا ريفيو»، في تقرير لها، إن المستشارة أنجيلا ميركل، التي ستتنحى بعد الانتخابات، قادت أكبر اقتصاد في أوروبا على مدى الـ16 عامًا الماضية، وأدت دورًا رئيسًا في أوروبا وعلى المسرح العالمي، مشيرة إلى أنها كانت أول مستشارة لألمانيا، وأول زعيمة نشأت في ألمانيا الشرقية السابقة.

وأشارت إلى أن وسائل الإعلام الألمانية، أطلقت عليها لقب «فتاة كول»، لكنها سرعان ما خرجت من ظله وأصبحت زعيمة للديمقراطيين المسيحيين عام 2000، وفازت بفارق ضئيل في انتخابات 2005 وقادت حكومة ائتلافية من الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاجتماعيين.

 

الأزمة الأولى

واجهت ميركل أول أزمة كبيرة، بعد ثلاث سنوات فقط مع الانهيار المالي العالمي لعام 2008، وسط تهافت على البنوك الألمانية، إلا أنها سعت لتهدئة المستثمرين، عندما كانت تقف إلى جانب وزير ماليتها في أكتوبر 2008، لتخبر الألمان بأن الدولة ستحميهم، قائلة: «نقول للمدخرين إن ودائعهم آمنة، والحكومة الألمانية مسؤولة عن ذلك».

الأزمة المصرفية تحولت إلى أزمة ديون باليورو، إلا أن ميركل كانت حينها مترددة في ضمان منطقة اليورو، فأصبحت شخصية مكروهة في اليونان، التي طبَّقت تخفيضات كبيرة في الإنفاق للبقاء في العملة الموحدة، إلا أن اليورو صمد.

وقالت ميركل عام 2012، عن ذلك الموقف: «أوروبا تفشل عندما يفشل اليورو(..) وتفوز عندما يفوز اليورو، يفوز اليورو إذا أنشأنا اتحادًا للاستقرار يستحق بالفِعل هذا الاسم، لأنه مدعوم بأساس قوي من الصلابة والنمو والتضامن».

من جانبه، قال نيكو فريدل، المراسل البرلماني لصحيفة «زودويتشه تسايتونج»، الذي رسم مسار حياة ميركل على مدى عقدين: «ميركل معروفة باسم مستشارة الأزمة»، مشيرًا إلى أنه «كان عليها أن تتغلب على العديد من الأزمات العالمية، خلال فترة وجودها في المنصب، ليس فقط لألمانيا، ولكن أيضًا داخل الاتحاد الأوروبي، ومع شركاء عبر المحيط الأطلسي، إضافة إلى الصين وروسيا».

وتقول «يورو آسيا ريفيو»، إن الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014 جلب الصراع إلى حدود أوروبا، إلا أن ميركل واصلت الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر محادثات «شكل نورماندي» بين روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا لمحاولة إنهاء الصراع.

وقالت أورسولا ويدنفيلد، مؤلفة سيرة ميركل «دي كانزلرين»: «أسلوب أنجيلا ميركل هو التحدُّث والتحدث والتحدث والتحدث، حتى مع الصين، حتى مع روسيا(..) هي التي تحاول أن تستمر في الحديث وتواصل التفاوض، إنها آخر امرأة تقف حتى في المفاوضات الأوروبية، ولا تسميها قبل حلول الليل بيوم، هذا هو الشيء الذي فعلته مع فلاديمير بوتين أيضًا».

 

التحدي الأكبر

التحدي الأكبر الذي واجهته ميركل، جاء مع أزمة المهاجرين عام 2015، التي رفضت فيها إغلاق حدود ألمانيا مع تدفق اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا، ليصل أكثر من مليون مهاجر فارين من الحروب في سوريا إلى ألمانيا، في موقف أثار رد فعل عنيفًا من الكثيرين في حزبها ، وأدى إلى دعم اليمين المتطرف.

إلا أن ميركل لم تكن متأسفة، وقالت: «إذا كان علينا إعفاء أنفسنا من إظهار وجه ودود في أوقات الأزمات، فهذا ليس بلدي»، وهو ما أكدته بعد ست سنوات، مشيرة إلى أنها لا تشعر بأي ندم على أفعالها عام 2015.

فريدل، قال: «كانت تعتقد أن هؤلاء الأشخاص يجب أن يعاملوا بشكل لائق، وأنهم ينبغي ألا يكونوا عالقين على الحدود»، لكن ذلك عمل أكثر على تقسيم أوروبا بدلاً من توحيدها، مشيرًا إلى أن مسألة كيفية تعامل الكتلة مع الهجرة لم تحل.

 

الخطأ الكبير

أورسولا ويدنفيلد، مؤلفة سيرة ميركل «دي كانزلرين»، قالت: «لقد نجحت في جعل ألمانيا منفتحة على الهجرة والتوصل إلى أي شيء مثل قانون الهجرة، الذي كان مستحيلًا، لكن من ناحية أخرى، كان ذلك أحد أخطائها الكبيرة، لأنها لم تنجح في التفاوض على ذلك على المستوى الأوروبي، لذا ، فقد كان شيئًا مثل العمل غير المكتمل».

عام 2016، جاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتهديد بتفكك الاتحاد الأوروبي، ليأتي انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة بعد أشهر، تحديًا كبيرًا، جعل العلاقات عبر الأطلسي متوترة بشكل واضح.

وقالت ويدنفيلد: «بمجرد أن أدركت أنه لن تكون هناك طريقة لإيجاد علاقة بناءة مع ذلك الرئيس، استدارت وكونت صداقات مع ابنته».

وشاركت ميركل المنصة مع ابنة ترامب الكبرى، إيفانكا، ومديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، في قمة «Women 20» في برلين عام 2017، إلا أنها عندما سُئلت مباشرة عما إذا كانت نسوية، قالت المرأة الحديدية: «تاريخ النسوية توجد فيه أشياء تنطبق عليّ، ثم هناك أشياء لا تنطبق علي(..) لا أريد أن أزيِّن نفسي بلقب لا أملكه في الواقع».

إلا أنه بحلول هذا العام، تغيَّـرت وِجهة نظرها، وقالت ميركل لجمهور دوسلدورف في 10 سبتمبر الجاري: لقد فكرت اليوم في إجابتي أكثر، ولذا يمكنني أن أقول نعم، يجب أن نكون جميعًا نسويات».

 

وجه جديد لألمانيا

وغالبًا ما كانت ميركل المرأة الوحيدة بين الرجال الأقوياء، لكنها تعرَّضت لانتقادات كثيرة، لأنها لم تستخدم دورها ومكانتها لتعزيز تحرير المرأة والمساواة في الحقوق.

وقال كاتب السيرة الذاتية ويدنفيلد، إن ميركل غيَّـرت ألمانيا خلال 16 عامًا في السُّلطة، مشيرًا إلى أنها «حاولت منذ البداية إيجاد دور جديد لألمانيا في القرن الحادي والعشرين(..) حاولت دائمًا أن تكون الوسيط، وأن تكون الميسر، وحتى أن تكون الشخص الذي يدفع الفاتورة في النهاية».

 

لم تفعل ما يكفي

إلا أن وايدنفيلد قال إن «مستشار الأزمة» فشل في التطلع إلى المستقبل، مشيرًا إلى أنه رغم أنها كانت دائما تحل المشكلات والقضايا التي كانت مطروحة على الطاولة، لكن في ما يتعلق بالاستثمار في المرونة والخطوط السياسية التي تزيد مدتها على سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات، مثل تغيُّر المناخ، لم تفعل ما يكفي.

لكن في ظِل نهاية قيادة ميركل، ماذا بعد؟، قال وايدنفيلد: «لا أحد يعرف، وتقول إنها لا تعرف ذلك أيضًا».

ففي استطلاع أجرته شركة «YouGov» في أغسطس، كانت معدلات قبول أنجيلا ميركل، أعلى من أي زعيم عالمي في خمس دول أوروبية كبرى والولايات المتحدة.

وفي غضون ذلك، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة Pew Research أن ميركل تتمتع بتصنيفات عالية في معظم الاقتصادات المتقدِّمة البالغ عددها 16 التي شملتها الدراسة في أمريكا الشمالية وأوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وبشكل عام ، قال نحو 77% من 18000 من المستجيبين إنهم يثقون بفعل ميركل الشيء الصحيح في الشؤون العالمية، إلا أن اليونان كانت الدولة الوحيدة، حيث كانت أغلبية المستطلعين تفتقر إلى الثقة في الزعيم الألماني.

 

قلق ملموس

وتقول «يورو آسيا نيوز»، إن هناك قلقًا ملموسًا بين البعض في ألمانيا على مَنْ يملأ دور ميركل على المسرح العالمي، بينما يقول يورغن هاردت، النائب منذ فترة طويلة عن حزب الديمقراطيين المسيحيين في عهد ميركل، إن الألمان يجب أن يكونوا واثقين بالمستقبل.

وتابع: «من الصعب على الناس أن يتخيلوا كيف يمكن لمرشح جديد، أو مستشار مستقبلي، أن يتصرف مقارنةً بالولاية الناجحة التي دامت 16 عامًا لأنجيلا ميركل».

 

الانتخابات الألمانية

يحق لنحو 60.4 مليون شخص في الدولة، التي يبلغ عدد سكانها 83 مليون نسمة، انتخاب البوندستاغ الجديد، أو مجلس النواب في البرلمان، الذي سيختار رئيس الحكومة.

ويضم البوندستاغ 598 مقعدًا على الأقل، لكن نظام التصويت المعقَّد في ألمانيا، يعني أنه يمكن أن يكون أكبر بكثير.

وكان لدى البرلمان المنتهية ولايته 709 مقاعد، ومن المتوقَّع أن يكون المجلس الجديد أكبر.

وتشير استطلاعات الرأي، إلى أنه لن يفوز حزب واحد بالأصوات اللازمة لتحقيق الأغلبية في البرلمان، وستحتاج الأسطورة الفائزة إلى تشكيل تحالف للحكم، في ظل خلاف شرس.

إلا أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي يتزعمه أولاف شولتز، يبدو متقدِّمًا بشكل طفيف على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل.

وشولتز، من يسار الوسط، ووزير المالية في الائتلاف الحاكم الحالي، إلا أنه أعلن أنه على استعداد لتبني أجندة المناخ والاستثمار في العدالة الاجتماعية.

ويعني الانقسام في جمهور الناخبين أنه بعد الانتخابات، ستظهر الأحزاب الرئيسية صوتها لبعضها، قبل الشروع في مفاوضات ائتلافية أكثر رسمية قد تستغرق شهورًا، ما يترك ميركل، 67 عامًا، في منصب تصريف الأعمال، بحسب «رويترز».

ومن المتوقَّع أن تسفر الانتخابات عن برلمان منقسم، ما يجبر الفائز على تشكيل ائتلاف ثلاثي لتأمين الأغلبية.

ويرفض كل من المحافظين والحزب الديمقراطي الحر، «اتحاد الديون» الأوروبي، ويريدون أن يظل الاقتراض المشترك من الاتحاد الأوروبي، لتمويل حزمة التعافي من كورونا للكتلة، مرة واحدة.