المعاصرون العظماء... هنري كيسنجر يكشف أسرار القيادة

كيسنغر دائمًا ما يثير الجدل بتصريحاته، التي كان آخرها، عندما اقترح في منتدى دافوس الأخير، أن تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل السلام مع روسيا

المعاصرون العظماء... هنري كيسنجر يكشف أسرار القيادة
هنري كيسنجر

ترجمات - السياق

في كتابه الجديد "القيادة... ست دراسات في الاستراتيجية العالمية"، يقدم الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنغر دليلاً للمحيرين في العلاقات الدولية، من خلال تقديم دراسات مضيئة لقادة من القرن الماضي.

وأشارت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية، إلى أن كيسنغر دائمًا ما يثير الجدل بتصريحاته، التي كان آخرها، عندما اقترح في منتدى دافوس الأخير، أن تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل السلام مع روسيا، وهو ما أثار ضجة دولية حينها، وأغضب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

إلا أن كيسنغر -الذي يصل عامه المئة في مايو المقبل- عاد وأكد أن تصريحاته (أسيء تفسيرها)، مشددًا على أنه لم يكن هدفه "مهادنة موسكو"، كما ادعى منتقدوه، وإنما تضمن اقتراحه إمكانية إعادة تشكيل أوكرانيا، على غرار ما كانت عليه بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، موضحًا أن ذلك بدوره يمثل شيئًا من الانتصار بالنسبة لأوكرانيا في شكل نزاع مجمّد يمكن تسويته نهاية المطاف بشروط غربية، تمامًا مثل حل حلف وارسو سلميًا عام 1989.

وحسب المجلة الأمريكية، فإن موضوع الكتاب يعكس قلق كيسنغر بشأن التحديات الصعبة التى يواجهها العالم وأمريكا حاليًا، مع عدم توافر الظروف المناسبة لظهور زعماء عظماء، لكنه يؤمن بأن القائد العظيم هو من يصنع التوقيت المناسب.

 

الواقعية

وتشير "ناشيونال إنترست" إلى أن كيسنغر يعود من خلال كتابه (القيادة)، إلى التذكير بالواقعية الكلاسيكية، التي تؤمن بتوازن القوى وتدافع عن العلاقات الأمريكية مع أوروبا.

ورأت المجلة، أن كيسنغر -في سن التاسعة والتسعين- يمثل الحلقة الأخيرة لأعضاء مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، دين أتشيسون، وجورج ف. كينان ، وبول نيتز، وكلارك كليفورد، وروبرت لوفيت، من بين آخرين لعبوا دورًا رئيسًا في تشكيل العالم الحديث، إلى حد كبير بالشروط الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية.

وشددت على أن دعمه لأوروبا، التي تظل مرتبطة بأمريكا لكن يمكنها الدفاع عن نفسها، يتوافق مع رؤيتهم للشؤون الدولية في فترة ما بعد الحرب.

وبينّت أنه بالاعتماد على لقاءاته مع قادة العالم، يُقدم كيسنغر في كتابه (القيادة) رؤى مهمة لفن الحكم والشخصية في التعامل مع الأزمات.

الكتاب يتضمن تحليلًا لستة من الزعماء المبدعين الذين عرفهم عن قرب، إذ واجه هؤلاء الزعماء تحديات ساحقة، لكنهم استطاعوا إدارة التغيير وتشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هم «كونارد أدويناور» من ألمانيا الغربية، و«شارل دي جول» من فرنسا، و«ريتشارد نيكسون» من الولايات المتحدة، و«أنور السادات» من مصر، و«لى كوان» من سنغافورة، و«مارجريت تاتشر» من بريطانيا.

وحسب المجلة، يرسم كيسنغر بمهارة السياق الدولي الذي عملوا فيه، ومحاولاتهم لتعزيز المصالح الوطنية للبلدان التي قادوها، قدر الإمكان.

ويختم بتقييم قاتم إلى حد ما للقيادة الأمريكية الحالية، ما يشير إلى أن الضغوط السياسية العابرة تغلب الإحساس بالاستيراد الدائم للتاريخ.

 

أديناور

ورأت "ناشيونال إنترست" أنه ربما لا يكون مفاجئًا أن يبدأ كيسنغر -الذي هاجر من ألمانيا إلى أمريكا عام 1938 مع عائلته عندما كان في الخامسة عشرة من عمره- بعرض مطول لأعظم رجل دولة ألماني في القرن الماضي، كونراد أديناور.

وأشارت إلى أن أديناور -الذي احتقر روسيا وتقاليدها العسكرية- كان راغبًا في إنشاء ألمانيا محايدة وموحدة، كما فعل نظيره الاشتراكي كورت شوماخر، لكنه كان مدافعًا متحمسًا عن العلاقات مع الغرب.

وحسب المجلة، كان أديناور يعتقد أن ألمانيا الراسخة في الغرب تستطيع –وحدها- التغلب على الدوافع المصيرية التي أدت إلى تدهورها الأخلاقي وتدميرها المادي خلال الحرب العالمية الثانية.

عاد كيسنغر نفسه إلى ألمانيا المهزومة كضابط مخابرات بعد الحرب، وذهب للقاء أديناور مرات عدة بصفته باحثًا أمريكيًا، ثم مستشارًا لإدارة كينيدي.

ويروي كيسنغر هذه اللقاءات في قوله: "رغم إعجابي بقيادة أديناور، ظللت قلقًا خلال هذه الفترة بشأن تأثير الثقافة السياسية المضطربة بألمانيا في القرارات التي فرضتها عليها الحرب الباردة".

التقى كيسنغر لأول مرة أديناور، عام 1957 بقصر شومبورغ في بون، عاصمة ألمانيا الغربية.

ونقل كيسنغر عن أديناور قوله: "عزيزي السيد الأستاذ، في السياسة من المهم الانتقام بدم بارد".

ويؤكد كيسنغر أن ما كان يشغل أديناور بشكل مستمر هو "موثوقية الضمان النووي الأمريكي، إلا أن مخاوفه خُففت من خلال إحاطة خاصة قدمها كيسنغر نفسه عام 1962 شددت على التفاوت بين قدرات الضربة الثانية السوفيتية والأمريكية".

ويوضح كيسنغر أن الفجوة بين الأجيال بين أديناور وجون ف.كينيدي كانت لا بد أن تسبب احتكاكات، خاصة أن الرئيس الأمريكي كان مصممًا على تخفيف التوترات بين الشرق والغرب وتأمين المشاركة السوفيتية في التوصل إلى اتفاقيات الحد من التسلح.

يلاحظ كيسنغر بذكاء "كان لدى كينيدي نهج أكثر عالمية، وكان أديناور يتمتع بالجرأة لمواجهة الانهيار الأخلاقي والمادي لبلده، والعيش مع التقسيم وبناء نظام أوروبي جديد قائم على الشراكة الأطلسية".

وكتب كيسنغر أن "استراتيجية أديناور اعتمدت على سياسة الاحتواء التي وضعها جورج كينان ونفذها وزيرا الخارجية الأمريكيان دين أتشسون وجون فوستر دالاس"، وهي الاستراتيجية التي بُنيت على الاعتقاد بأن الكتلة السوفيتية ستضطر -في النهاية- إلى مواجهة تناقضاتها الداخلية، وعندئذ يكون ارتباط القوى في مصلحة الغرب.

وبالفعل، فقد انهارت الإمبراطورية السوفيتية عام 1989، وفي أكتوبر 1990، أعيد توحيد ألمانيا.

 

ديغول

بالانتقال إلى شارل ديغول، لفتت "ناشيونال إنترست" إلى أن كيسنغر امتلك الكثير من الأشياء القيمة، التي كان يجب أن ينقلها عن الزعيم الفرنسي الراحل، الذي عمل مع ونستون تشرشل، وتحدى ازدراء فرانكلين دي روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية.

وحسب كيسنغر، تغلب ديغول على العداوات التي بدت متأصلة بين ألمانيا وفرنسا، إذ إنه عام 1963، وقَّع معاهدة صداقة مع ألمانيا، وكان أديناور الزعيم الأجنبي الوحيد الذي دعاه للمبيت في منزله.

ورغم ذلك، تسبب ديغول في نوبات من الانسحاب من الحلف الغربي، حيث انسحب من القيادة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي عام 1966.

ويرى كيسنغر أن السياسة الخارجية الفرنسية لا تزال تتشكل بعمق، من خلال الميول الديغولية حتى يومنا هذا، في إشارة إلى تأثير ديغول في صانعي القرار الفرنسيين حتى الآن.

فمن وجهة نظر كيسنغر، يُنسب الفضل لديغول في ذكاء غير عادي في مناسبات عدة، ففي يونيو 1940، توصل إلى الحكم المعاكس للطبقة السياسية الفرنسية، معلنا أن مقاومة النازيين أمر حتمي، وأن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة سوف ينجران إلى الحرب وسيهزمان الرايخ الثالث.

وأشار إلى أنه بعد تحرير فرنسا، استقال من منصبه رئيسًا للحكومة المؤقتة، وظهر بعد اثني عشر عامًا لإعادة تشكيل الدولة الفرنسية والانسحاب من الصراع المأساوي في الجزائر.

ويضيف: "عندما سقطت فرنسا فى يد الألمان عام 1940، كان الجنرال الأقل رتبة فى الجيش الفرنسى ديغول، قد عُين لقيادة القوات الفرنسية الموجودة فى لندن، لكنه في ظرف ثلاثة أسابيع فقط صار زعيمًا للفرنسيين الأحرار. وبدلًا من الحديث عن هزيمة فرنسا، ركز خطابه على كيفية تجاوز مايقرب من قرن من تراجع الدولة الفرنسية. وقد أعاد بناء فرنسا بالمنظور ذاته.

ويرى كيسنغر أن حياة ديغول "تقدم دراسة لكيف يمكن للقادة العظماء إتقان الظروف وصياغة التاريخ".

 

نيكسون

أما في ما يتعلق بالرئيس الأمريكى الأسبق نيكسون، فإن كيسنغر يثنى على نهجه الإبداعى في التواصل مع الصين والانفراج في العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والدبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط.

كيسنغر الذى يركز اهتمامه عادة على السياسة الدولية، من دون التدقيق في تفاصيل السياسة الداخلية، يصف فضيحة «ووترغيت» التى انتهت باستقالة نيكسون عام 1974، بأنها مأساة «غبية»، إذ إنه لا يعتقد أن نيكسون أمر باقتحام مقر الحزب الديمقراطي المنافس أثناء انتخابات التجديد، لكنه يراه مرتكبًا لمخالفة "تافهة"، هى تضليل العدالة، فكان ذلك سبب سقوطه.

ويرى كيسنغر أنه "إذا سعى ديغول إلى إعادة توجيه السياسة الخارجية الفرنسية ، فقد حاول ريتشارد نيكسون القيام بعمل مماثل في واشنطن".

ويؤكد (الداهية الدبلوماسي الأمريكي) أن نظرة نيكسون للشؤون الخارجية كانت أحيانًا كاريكاتورية خلال حياته، مشيرًا إلى أنه سافر على نطاق واسع قبل أن يصبح رئيسًا والتقى العديد من قادة العالم، وهو ما أكسبه شخصية متفردة.

وأشار إلى أن نيكسون "كان ينظر إلى السلام على أنه حالة من التوازن الهش والمرن بين القوى العظمى، وهو توازن غير مستقر يشكل بدوره عنصرًا حيويًا للاستقرار الدولي".

ويضيف كيسنغر في رأيه بنيكسون: "لو لم تلتهم ووترغيت الولاية الثانية لنيكسون، فقد يكون قادرًا على إنشاء إعادة توجيه دائمة للسياسة الخارجية الأمريكية، لا تركز فقط على إعادة تقويم الاستراتيجية ولكن أيضًا على العقلية".

 

لي كوان يو

ويروي كيسنغر أنه في نوفمبر 1968، زار لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة البالغ من العمر خمسة وأربعين عامًا حينها، هارفارد لما سماها "إجازة" لمدة شهر.

وأشار إلى أنه تمت دعوته لمقابلة أعضاء هيئة التدريس في مركز ليتور بجامعة هارفارد، ورحب به العلماء المجتمعون، الذين رأوه زعيمًا لحزب شبه اشتراكي ودولة ما بعد الاستعمار.

ونقل كيسنغر عن كوان يو قوله: من الأهمية بمكان بالنسبة لسنغافورة والدول الصغيرة الأخرى أن تقدم أمريكا قدرًا يسيرًا من الأمن العالمي للحفاظ على توازن القوى جنوبي شرق آسيا.

منذ ذلك الحين -حسب المجلة الأمريكية- تفاقمت مخاوف كيسنغر بشأن الطابع المظلم للأكاديمية الحديثة، وفي فصله الختامي، أرسل كيسنغر نداءً للعودة إلى تعليم إنساني أوسع قائم على التعامل مع الفلسفة واللغات الحديثة والتاريخ والأدب والعصور الكلاسيكية القديمة.

وأشار إلى أنه "في حين أن المدارس الثانوية والجامعات الأمريكية أصبحت بارعة في تعليم، أو بعبارة أدق، إنتاج النشطاء والفنيين، فقد ابتعدت عن مهمتها الأساسية المتمثلة في تكوين رجال دولة".

أما في ما يتعلق بالمرأة، فقد شدد كيسنغر على أنها يمكنها أن تصنع التاريخ، بدلاً من أن تظل مراقبة سلبية لا حول لها ولا قوة، بسبب الأحداث المعاصرة.