أزمتا باكستان... اقتصاد على شفا الانهيار وتصاعد الإرهاب

الانهيار الاقتصادي المستمر منذ سنوات، أثر بشكل كبير في ميزان المدفوعات، لدرجة أن الدولة المسلحة نوويًا لم تعد تمتلك الدولارات اللازمة (العملات الأجنبية) لدفع ثمن الواردات الأساسية، مثل النفط.

أزمتا باكستان... اقتصاد على شفا الانهيار وتصاعد الإرهاب

ترجمات - السياق

سلطت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، الضوء على أزمتين تواجههما باكستان، مُشيرة إلى أن الأزمة الأولى تتمثل في الأزمة الاقتصادية، وتكمن الأخرى في عودة حركة طالبان لتولي الحكم في أفغانستان، الأمر الذي من شأنه أن يُعزز نشاط الحركات الباكستانية المُتطرفة الموالية لـ"طالبان" خلال الفترة المُقبلة، ومن ثمَّ تهديد أمن البلاد واستقرارها.

ورأت، في تحليل للمتخصص في شؤون تنظيم القاعدة أسفنديار مير، أن استمرار باكستان بالمماطلة في الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي، يضع البلاد أمام مسار "الفشل الاقتصادي" بحسب وصف التحليل، الأمر الذي من شأنه تأجيج السخط الشعبي على النظام، ما قد يُسهم أيضًا في زيادة الهجمات الإرهابية، لا سيما في ظل الروابط التي تجمع بين حركة طالبان الباكستانية وحركة طالبان الأفغانية، فرغم أن الأولى منفصلة عن الأخيرة، فإنها حليف وثيق لها.

وأشارت إلى أن الانهيار الاقتصادي المستمر منذ سنوات، أثر بشكل كبير في ميزان المدفوعات، لدرجة أن الدولة المسلحة نوويًا لم تعد تمتلك الدولارات اللازمة (العملات الأجنبية) لدفع ثمن الواردات الأساسية، مثل النفط، بينما لا تزال المساعدة من صندوق النقد الدولي متوقفة، لأن القيادة السياسية الباكستانية مترددة في سن مجموعة من الإصلاحات الأساسية.

في الوقت نفسه، عادت جماعة إرهابية مناهضة لباكستان، هي حركة طالبان باكستان، إلى الظهور، مدعومة بعودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، ومن المفارقات أن باكستان نفسها كانت تدعم سياسة طالبان على مدى العقدين الماضيين.

وأفادت المجلة، بأنه خلال يناير 2023، قتل انتحاري أكثر من 100 شخص في مسجد يرتاده ضباط الشرطة في مدينة بيشاور، وهو الهجوم الإرهابي الأكثر دموية على قوات الأمن.

 

أزمات متلاحقة

ورأت "فورين أفيرز" أن النهج الحالي لباكستان، المتمثل بالمماطلة في متطلبات صندوق النقد الدولي وتنفيذ إجراءات مالية يضعها على المسار الصحيح للفشل الاقتصادي، وسياستها في التقليل من أهمية دعم طالبان أفغانستان لحركة طالبان الباكستانية، سيؤدي في النهاية إلى زيادة الهجمات الإرهابية.

وأشارت إلى أنه رغم احتمال تدخل حلفاء باكستان، الصينيين، الذين لديهم استثمارات كبيرة في باكستان، كجزء من مبادرة الحزام والطريق، بدعم اقتصادي في اللحظة الأخيرة مع بلوغ الأزمة ذروتها، إلا أن شروطهم لهذا التدخل ستؤدي إلى مزيد من تآكل سيادة باكستان، بلا تخفيف لأي من الأزمتين (الانهيار الاقتصادي والإرهاب).

أمام ذلك، شددت المجلة، على أنه ينبغي للولايات المتحدة ألا تساعد باكستان في الحصول على إرجاء للإصلاحات التي يفرضها صندوق النقد الدولي، ولكن يجب أن توجهها نحو إعادة هيكلة الديون، كما ينبغي أن تدفع باكستان إلى الحد من العلاقات الاقتصادية مع طالبان، وفي الوقت نفسه، فضح دعم طالبان أفغانستان للجماعات الإرهابية، مثل حركة طالبان باكستان.

ورغم أن هذه الحلول -حسب المجلة- قد لا تعالج الخلل الوظيفي الذي تعانيه باكستان، إلا أنها ستوفر الأساس للانتعاش الاقتصادي واحتواء التهديد الإرهابي، وتعزيز المصالح الأمريكية.

وحسب المجلة، ترجع أسباب الانهيار الاقتصادي المستمر إلى السياسة التي اتبعها رئيس الوزراء السابق عمران خان عام 2019، مع صندوق النقد الدولي، إذ لم يلتزم بالشروط التي حصل بموجبها على قرض بـ 6 مليارات دولار، واتجهت الحكومة إلى الإجراءات الشعبوية -حيث قدمت دعمًا كبيرًا للنفط، وأخذت على عاتقها ديونًا إضافية، ورفض زيادة الضرائب- ما أدى إلى خروج العملية عن مسارها.

ونوهت إلى أنه بعد إطاحة خان في أبريل 2022، أعادت الحكومة الجديدة إحياء مخطط صندوق النقد الدولي، من خلال سحب دعم الوقود والكهرباء جزئيًا.

ولكن مع ظهور آلام تلك التعديلات، امتنع رئيس الوزراء شهباز شريف عن تنفيذ مزيد من تدابير التقشف التي يطلبها صندوق النقد الدولي.

أمام ذلك، أصيب شريف -وشقيقه نواز شريف، الذي تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات- بالشلل بسبب التداعيات السياسية لخطط صندوق النقد الدولي، التي ساعدت فقط خصمهما السياسي الرئيس، عمران خان.

فقد استفاد رئيس الوزراء المخلوع -الذي ادعى أن الجيش والولايات المتحدة خططا لإبعاده عن السلطة- من ارتفاع التضخم والانكماش الاقتصادي -اللذين واجها شهباز- ليتحرك مجددًا ويطالب بإجراء انتخابات مبكرة.

واستغل خان حرارة الشارع، ليروج لرواية المؤامرة والتدخل الخارجي، لحشد أنصاره والتضييق على الحكومة الجديدة، أملًا بإجبارها على إجراء انتخابات مبكرة، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة، رغم الاحتجاجات والمظاهرات المتكررة التي قادها خان خلال الأشهر الماضية.

ردًا على ذلك، ناشد شريف الشركاء في الصين والولايات المتحدة والشرق الأوسط، المساعدة في التهرب من الإصلاحات التي يفرضها صندوق النقد الدولي.

وبالفعل، قدمت الصين، التي تمتلك 30 في المئة من ديون باكستان الخارجية البالغة 100 مليار دولار، بعض المساعدة، بما في ذلك قرض بـ 700 مليون دولار لإعادة التمويل.

لكن بكين لم تكن مُلزمة بالطريقة التي كانت إسلام أباد تأملها، إذ لم تحصل إسلام آباد على الدعم الذي كانت تنتظره من بكين.

وتدين باكستان -في السنة المالية الحالية وحدها- بنحو 9 مليارات دولار من أصل 15 مليار دولار لخدمة الديون للصين.

وأشارت المجلة الأمريكية، إلى أنه مع تباطؤ الحكومة في الإصلاحات، ولأن صندوق النقد الدولي متشكك في تعهداتهم بالتغيير في المستقبل، فقد فقدت باكستان شريحة مهمة من صندوق النقد الدولي، لتجديد احتياطاتها المتضائلة من النقد الأجنبي، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة.

 

سوء الإدارة

وترى فورين أفيرز، أن سوء الإدارة الاقتصادية لخان وشريف والتهرب من الإصلاح ،كانا جزءًا من نمط طويل الأمد، مشيرة إلى أنه لسنوات، ظل الجيش، الذي يتمتع بقوة هائلة، بتشويه السياسة الاقتصادية، من خلال منح الأولوية للتنافس مع الهند عسكريًا، والاستيلاء على أجزاء كبيرة من قاعدة الموارد الضيقة في البلاد، بينما استأثرت النخب بأغلبية الاقتصاد، ما أدى إلى تثبيط الاستثمار الأجنبي المباشر والابتكار.

وأضافت: "لقد تجنبت النخب العسكرية والمدنية الإصلاح، بينما تصوروا أن باكستان أكبر من أن تفشل، لأنها في النهاية ستحصل على المساعدة من الولايات المتحدة ومن داعمين في الشرق الأوسط"، إلا أن ما حدث أنها أُثقلت بديون باهظة لدولة واحدة هي الصين، التي تمنح أموالها مقابل أمور سيادية.

كل هذا -وفق المجلة الأمريكية- أسهم في انخفاض الإنتاجية، مع ضعف تحصيل الضرائب، وزيادة الديون المفرطة، ما أدى بدوره إلى تقييد جهود حكومة شهباز وفاقم الأزمة.

وأشارت إلى أنه على مدى العقد الماضي، لم تعوض عائدات الصادرات تدني الاستثمار وانخفاض تدفقات المساعدة، لا سيما من الولايات المتحدة، ما زاد ضغوط ديون باكستان.

ومثل الانهيار الاقتصادي، فإن أزمة الإرهاب في باكستان، التي تحركها في الغالب حركة طالبان باكستان، أزمة ذاتية أيضًا، حسب وصف المجلة.

ويعود سبب عودة ظهور حركة طالبان باكستان -بشكل أساسي- إلى صعود حركة طالبان في أفغانستان، الذين سبق أن دعمتهم باكستان لمواجهة النفوذ الهندي المزعوم في البلاد.

من جانبهم، حاول المسؤولون الأمريكيون إقناع القيادة الباكستانية بأن دعمهم لطالبان سيغذي حركة طالبان باكستان، لكن المسؤولين الباكستانيين ظلوا واثقين بقدرتهم على محاربة حركة طالبان باكستان ودعم طالبان أفغانستان في الوقت نفسه.

ففي إحدى المراحل، أضعفت "تي تي بي" بسبب ضربات الطائرات الأمريكية من دون طيار والحملات العسكرية الباكستانية، فتراجعت المجموعة إلى جبال شرقي أفغانستان، لكن سيطرة طالبان على أفغانستان منحت دفعة قوية لحركة طالبان باكستان، إذ إنه بمجرد وصولها للسلطة، وفرت حركة طالبان للقيادة العليا لحركة طالبان الباكستانية اللجوء السياسي والغطاء لحملتها العنيفة في باكستان.

اليوم -تضيف المجلة- "لدى حركة طالبان باكستان آلاف المقاتلين المستعدين لخوض حرب ضد باكستان، بعد أن وجدت قيادة حركة طالبان باكستان ملاذًا آمنًا في أفغانستان، حيث ينضم عديد من مقاتلي طالبان الأفغانية إلى حركة طالبان باكستان".

وفي هذا الإطار، أكدت المجلة الأمريكية أنه طالما طلبت باكستان من حركة طالبان في أفغانستان كبح جماح جناح الحركة في إسلام آباد، مقابل تطبيع العلاقات بين البلدين، وتوسيع التجارة الثنائية بينهما.

فعام 2022، أرسلت أفغانستان تحت حكم طالبان، أكثر من مليار دولار من الصادرات إلى باكستان، وجمعت عائدات كبيرة من الضرائب على المعابر الحدودية بين البلدين، ومع ذلك، لا تزال طالبان غير متأثرة بالحفاظ على دعمها لحركة طالبان الباكستانية.

ورغم أن بعض قادة طالبان، لا سيما وزير الداخلية سراج حقاني، نزع في بعض الأحيان قيود حركة طالبان باكستان، فإن أغلبية قادة طالبان يدعمون الأجندة السياسية لحركة طالبان باكستان وحملتها ضد الحكومة الباكستانية.

 

من سيئ إلى أسوأ

وترى "فورين أفيرز" أن باكستان تواجه احتمال الانهيار الاقتصادي، بسبب استنفاد احتياطات النقد الأجنبي، وتعطل الواردات، لافتة إلى أن هناك طريقين لهذا البؤس.

الطريق الأول -حسب المجلة- تعيد فيه باكستان، على المدى القريب، التفاوض بنجاح مع صندوق النقد الدولي، وإقناع الشركاء في الشرق الأوسط والصين، بمنح قروض جديدة وتجديد القديمة، ولكن بسبب التزامات الديون الكبيرة، وضعف الصادرات، وانخفاض التحويلات، وكذلك الاستثمار المباشر، ستظل أزمة التمويل طوال هذا العام.

أما الاحتمال الآخر فهو أن تظل باكستان عالقة في خلافات نسبية مع صندوق النقد الدولي، وتستمر في استنزاف احتياطاتها من العملات الأجنبية، حتى ينتهي بها الأمر إلى عدم قدرتها على دفع ثمن الواردات، ومن ثمّ الإفلاس.

وأشارت المجلة الأمريكية إلى أنه مع انجراف باكستان نحو الهاوية الاقتصادية في السيناريوهين، ستواجه ضغوطًا كبيرة من "تي تي بي"، لافتة إلى أن هذه الضغوط ستكون مختلفة عن تلك التي واجهتها باكستان قبل نحو عقد من الزمن.

ففي ذلك الوقت، رغم أن العنف كان مروعًا، كانت الولايات المتحدة تقدم أكثر من مليار دولار مساعدات سنوية، وتستهدف الجماعات الإرهابية من خلال ضربات الطائرات من دون طيار داخل باكستان، وتقاتل طالبان في أفغانستان.

هذه المرة، تفتقر باكستان إلى المساعدة من الخارج، بينما باتت حركة طالبان في أفغانستان أقوى بكثير، ورغم أنه يمكن لباكستان الرد من خلال الهجمات عبر الحدود على حركة طالبان باكستان، فإن هذا قد يؤدي إلى أعمال انتقامية عنيفة من الجماعة وإثارة غضب طالبان أفغانستان، ما يؤدي إلى صراع أكثر دموية.

وبينت المجلة، أن طالبان باكستان ستسعى إلى تعزيز تفوقها من خلال زيادة عدد الهجمات، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية، والتنافس على الأراضي شمالي غرب البلاد، وهو ما يوفر فرصًا لمجموعة أخرى من الإرهابيين -سواء الوطنيين أم الإقليميين- لإنشاء قواعد في الأراضي التي تسيطر عليها حركة "تي تي بي" في باكستان.

عند هذه النقطة، ستؤدي عدم قدرة باكستان على استيراد ما يكفي من النفط، إلى تآكل قدراتها العسكرية والشرطية، ما يتيح لطالبان باكستان فرصة لاستغلال الغضب الناجم عن الانهيار الاقتصادي ونقص السلع، لتأكيد نفوذها.

ومع اقتراب إجراء انتخابات عامة في باكستان عام 2023، ستزداد الاضطرابات السياسية سوءًا، ما يضع ضغطًا كبيرًا على تماسك الجيش الباكستاني، الذي يعاني اتهامات خان بأنه تواطأ مع الولايات المتحدة لإزاحته من السلطة.

وعن طريقة الخروج من المأزق، بينت "فورين أفيرز"، أنه رغم ابتعاد واشنطن عن دعم باكستان، فإن الإدارة الأمريكية تحتاج إلى دعم إسلام آباد، لبسط نفوذها في المحيطين الهادئ والهندي، ومن ثمّ من الأفضل لها أن تحصل على باكستان ذات سيادة خالية من إكراه الصين.

إضافة إلى ذلك، من المهم للولايات المتحدة ردع التهديدات الإرهابية العابرة للحدود من أفغانستان وباكستان وضمان أمن الأسلحة النووية الباكستانية، حتى لا تقع في يد الإرهابيين.

وأكدت أن على الولايات المتحدة دفع باكستان نحو إعادة هيكلة الديون الخاصة بها، والإحجام عن التوسط بين باكستان وصندوق النقد الدولي، لإرجاء بعض الإصلاحات الاقتصادية التي يُطالب بها الصندوق، تجنبًا لمزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

 وفق المجلة -أيضًا- تحتاج باكستان إلى برنامج جديد لصندوق النقد الدولي، حتى بعد أن تكمل البرنامج الحالي، ومن ثمّ على الولايات المتحدة أن تدفع باكستان لإعادة الهيكلة فورًا.

وذكرت أن جزءًا كبيرًا من ديون باكستان مستحقة لمؤسسات متعددة الأطراف، والصين، ودول نادي باريس، والدائنين من القطاع الخاص، الذين يمكنهم تخفيف شروط السداد، مقابل خطة إصلاح تقوم بتخفيضات طويلة الأجل في الإنفاق، مع تحديد طرق تعزيز الإيرادات الضريبية والاستثمار في باكستان.

وأضافت المجلة: "إذا نجحت باكستان في إعادة التفاوض بشأن شروط سداد الديون مع الدائنين الرئيسين، فلن يكون أمام الصين خيار سوى إعادة الهيكلة أيضًا"، لافتة إلى أن ذلك سيقلل نفوذ الصين على باكستان، ومن ناحية أخرى، إذا ظلت باكستان في ضائقة ديون، واستمرت طالبان أفغانستان في دعم حركة طالبان باكستان، فبالتأكيد ستتعثر باكستان في انهيار اقتصادي غير مسبوق، ما يخدم مخططات الجماعات الإرهابية، ويجعلهم أكثر جرأة ضد المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.