كيف أعدت أوكرانيا نفسها للحرب الشاملة؟

بينما لا يزال الجيش الروسي يتفوق على نظيره الأوكراني إلى حد كبير، فإن التغيير في الاستراتيجية المتبعة والإصلاحات التي أجريت منذ عام 2014 نجحا في إنشاء جيش ومجتمع قادرين على اتخاذ موقف من الحرب الشاملة.

كيف أعدت أوكرانيا نفسها للحرب الشاملة؟

ترجمات - السياق

مع الجمود الحالي للغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، من السهل أن ينسى البعض أن كثيرين اعتقدوا بداية الأزمة، أن أوكرانيا ستسقط في غضون أيام، ومع ذلك، بعد مرور أكثر من شهرين على الغزو، فإن كييف لا تزال في أيدي الأوكرانيين، كما انسحبت القوات الروسية التي كانت تحاصر العاصمة الأوكرانية، وهو النجاح الذي دفع بعض المعلقين إلى التصريح بأنه يبدو أن كييف ستربح في هذه الحرب.

وقالت مجلة "ناشيونال إنترست"، في تحليل، إن هذه التصريحات ربما تعبر عن تفاؤل مفرط، حيث احتلت القوات الروسية مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية، كما أنها -بحسب ما ورد- تستعد لشن هجوم كبير جديد في الجزء الشرقي من البلاد، ومع ذلك، من الواضح أن أداء أوكرانيا فاق توقعات حتى كبار المحللين الغربيين، إذ إنها ظلت تحارب روسيا حتى أوصلتها إلى طريق مسدود.

 

استعداد كييف

وقالت المجلة: صحيح أن ضعف الأداء التكتيكي واللوجستي الروسي، فضلاً عن المساعدات العسكرية الغربية لكييف، لعبا دورًا مهمًا في ظهور هذه النتيجة المفاجئة، إلا أن العامل الأكبر هو فشل العالم في الاعتراف بقوة واستعداد القوات المسلحة الأوكرانية.

وتابعت: "لقد كانت أوكرانيا تستعد لهذا الغزو خلال السنوات الثماني الماضية، وهذه الخطة جاءت إثر إعادة تقييم مؤلم أجرته البلاد بعد تجربتها العسكرية في أعقاب ثورة يوروميدان (أو الميدان الأوروبي) عام 2014 والتوغل الروسي في شبه جزيرة القرم ودونباس".

 

الوضع عام 2014

ووفقاً للمجلة، فإنه عام 2014، كان الجيش الأوكراني عاجزاً عن وقف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزو دونباس، إذ دخلت القوات الروسية، التي لا تحمل أي شارات، شبه الجزيرة واحتلتها من دون إطلاق رصاصة واحدة، واستولت على قواعد عسكرية وجزء كبير من البحرية الأوكرانية، وقد كشف تحليل ما بعد الصراع أنه بين أكثر من 100 ألف جندي أوكراني في ذلك الوقت، كان هناك 6 آلاف فقط جاهزين للقتال، إذ ترك العديد من الجنود الجيش، بسبب انخفاض الروح المعنوية.

وبحسب المصادر الإخبارية الروسية، جرت إعادة توظيف أكثر من 16 ألف جندي أوكراني سابق وموظف مدني في الجيش الروسي في أبريل 2014، كما كان العديد من كبار مسؤولي الدفاع والأمن الأوكرانيين من الطابور الخامس الروسي، وهو ما ظهر في فرار العديد من كبار هؤلاء المسؤولين إلى روسيا خلال الأزمة، وهو ما قالت المجلة إنه لم يكن مفاجئاً بالنظر إلى أن الرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، الذي استمر في منصبه من عام 2010 حتى إطاحته عام 2014، قد مكّن الأجهزة الأمنية، وأغرقها بشخصيات موالية لروسيا، أو حتى بالروس.

 

الإصلاحات الأوكرانية

ولكن بعد ثورة يوروميدان، وإطاحة بيانوكوفيتش، ووقف إطلاق النار في دونباس، أصبح الإصلاح العسكري أحد أهم أولويات الحكومة الأوكرانية، ففي عام 2015، أدخلت البلاد تغييراً في العقيدة والاستراتيجية العسكرية حيز التنفيذ، مع إعادة كتابة الوثائق الاستراتيجية للحكومة، ونشر استراتيجية جديدة للأمن القومي في ذلك العام، إلى جانب عقيدة عسكرية جديدة، ومفهوم جديد لتطوير قطاعي الأمن والدفاع، حسب المجلة.

وأوضحت "ناشيونال إنترست" أن هذه الاستراتيجية المُعدلة كان لها هدفان، هما صد العدوان الروسي المُسلح وتهيئة الظروف لتحرير الأراضي المحتلة بشكل مؤقت، أو بعبارة أخرى، استعادة شبه جزيرة القرم ودونباس، وهو ما تطلب بناء جيش قادر على الدفاع عن كييف من الغزو التقليدي ومواجهة أي شيء يشبه "الغزو الهجين" لروسيا عام 2014، إذ كانت المعدات والتدريبات، والخدمات اللوجستية، والكثير من الأشياء الأخرى بحاجة إلى الإصلاح، واستغرق الأمر حتى عام 2016 حتى بدأ الرئيس السابق بترو بوروشينكو وضع خطة إصلاح شاملة تتضمن خمس فئات: القيادة والسيطرة، والتخطيط، والعمليات، والخدمات الطبية واللوجستية، والتطوير المهني للجيش.

وأضافت: "كانت الأهداف الثلاثة لهذا الإصلاح: إضفاء الطابع الاحترافي على القوات المسلحة في البلاد، وإعادة إنشاء قوات الدفاع الإقليمية، وإنشاء قوات خاصة يمكن أن تعمل خلف خطوط العدو، كما وصفت الوثائق الأوكرانية الجديدة روسيا بأنها (خصم عسكري)، وشددت على الاحتمال الكبير لحدوث غزو واسع النطاق، وبالنظر إلى كونها دولة أقل من ثلث حجم روسيا، جرى الاعتراف بهذا الغزو باعتباره تحدياً كبيراً، كما كان الاعتراف صراحة بالتفاوت الكبير في القوة العسكرية بين البلدين في هذه الوثائق، وكان الحل تعزيز ثقافة المقاومة، ما يسمح للدولة بتعبئة المجتمع، لإلحاق خسائر جسيمة بأي غازٍ والاستفادة من العمق الاستراتيجي للبلاد، لتعويض الضعف العسكري النسبي".

 

ثقافة عسكرية

أشارت المجلة إلى أنه رغم أن هذه الإصلاحات الرئيسة لم تكن سهلة التنفيذ، فإنه بعد التعلُّم من انشقاقات القادة الموالين لروسيا عام 2014، وضعت الحكومة الأوكرانية أفراداً أكثر موثوقية في المسؤولية، ومن أجل إضفاء الطابع الاحترافي على الجيش، جرى الانتقال من هيكل القيادة الراسخ، الذي كان يشبه النمط السوفييتي إلى هيكل أكثر مرونة، يتمكن فيه الضباط الأدنى من اتخاذ القرارات في ساحة المعركة، إذ كان على الضباط من الرتب الدنيا طلب الإذن من الضباط ذوي الرتب الأعلى لتغيير الأوامر، حتى لو كانت ظروف المعركة تشير إلى أن هذه الأوامر غير مناسبة.

ورأت المجلة أن هذا التحول في الثقافة العسكرية، ساعدته كثيراً أيضاً التدريبات العسكرية الغربية، لافتة إلى أنه بينما لعب المدربون العسكريون الغربيون دورًا رئيسًا في إضفاء الطابع الاحترافي على القوات المسلحة الأوكرانية، فقد لعب الجيش الروسي أيضاً دوراً مهماً، حيث أعطت الحرب منخفضة المستوى ولكن النشطة في دونباس منذ عام 2014 مئات الآلاف من الأوكرانيين تجربة قتالية حقيقية مع الروس على أراضيهم، فقبل عام 2014، كان الجيش موجوداً إلى حد كبير على الورق فقط، وكان يعتمد على فرق المتطوعين لصد الانفصاليين الروس في الشرق، ولكن جرى دمج معظم هذه الفرق المتطوعة ذات الدوافع العالية والمتشددة في القوات المسلحة الأوكرانية.

وأضافت المجلة أنه كثيرًا ما ترددت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الإفراط بالالتزام تجاه أوكرانيا، بسبب الرغبة في عدم استفزاز روسيا وتشككها العميق في مدى نجاح وجدية الإصلاحات الأوكرانية، ومع ذلك، فإن التدفق الهائل للمعدات العسكرية الغربية فعل الكثير لتعويض عمليات الشراء الفاسدة والبطيئة، ورغم وصول الكثير من هذه المعدات في الأسابيع الماضية قبل الغزو، وأنه كان لدى القوات الأوكرانية وقت محدود للتدريب على استخدامها، فإن توفير المعدات الغربية مع الموقف العسكري الجديد لأوكرانيا كان فعالاً في إضعاف قدرة روسيا بشدة على إضعاف مقاومة كييف من خلال الاستنزاف.

 

الدروس المستفادة

وقالت المجلة إنه قبل الحرب انقسمت الآراء بشأن ما إذا كانت الإصلاحات العسكرية الأوكرانية نجحت أم لا، إذ عدَّها بعض المحللين فاشلة، بينما اعترف آخرون بأوجه قصورهم، إلا أنهم اعتقدوا أنهم كانوا ناجحين بما يكفي لإلحاق أوكرانيا ألمًا شديدًا بالقوات الروسية.

وأضافت أنه "بينما لا يزال الجيش الروسي يتفوق على نظيره الأوكراني إلى حد كبير، فإن التغيير في الاستراتيجية المتبعة والإصلاحات التي أجريت منذ عام 2014 نجحا في إنشاء جيش ومجتمع قادرين على اتخاذ موقف من الحرب الشاملة، ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا سيكون كافياً -نهاية المطاف- لصد القوات الروسية، لكنه أثبت فعاليته، إذ أدى إلى عكس اتجاه الجيش، الذي لم يكن فعَالاً، بشكل حاسم، في فترة ما قبل عام 2014".