فورين بوليسي: في أزمة الطاقة العالمية.. لماذا القادم أصعب؟

الأسوأ أن يضطر الناس إلى الاختيار بين تناول الطعام والتدفئة في الشتاء

فورين بوليسي: في أزمة الطاقة العالمية.. لماذا القادم أصعب؟

ترجمات - السياق 

 أزمة طاقة أخافت الدول الغربية مع بدء الحرب الأوكرانية، وزادت حدتها مع وقف إمدادات الغاز الروسي والعقوبات المفروضة على منتجات موسكو النفطية، أوروبا كانت الطرف الأكثر تضررًا، لاعتمادها شبه الكلي على "طاقة" روسيا، لكن حسب مجلة فورين بوليسي الأمريكية فإن الأزمة لم تقتصر على أوروبا أو الولايات المتحدة، وإنما تحولت إلى "وباء عالمي"، مشيرة إلى أن ارتفاع الأسعار -بشكل غير مسبوق- يتسبب في الفوضى بجميع أنحاء العالم.

وأشارت إلى أنه رغم أن أوروبا تواجه أزمة طاقة صعبة جدًا بسبب التعنت الروسي، واحتمال قطعه للغاز في الشتاء المقبل، فإنها ليست وحدها، إذ تسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والنفط في فوضى بجميع أنحاء العالم.

ونقلت المجلة الأمريكية عن عدد من الخبراء تحذيرهم من أنه لا نهاية تلوح في الأفق لأزمة الطاقة العالمية، طالما استمرت الحرب في أوكرانيا.

وأوضحت أنه من الإكوادور إلى جنوب إفريقيا، أدى نقص الوقود وانقطاع التيار الكهربائي إلى إغراق البلدان المعتمدة على الاستيراد في اضطرابات اقتصادية، ما ترك الحكومات اليائسة تتدافع من أجل حلول بديلة.

وفي سريلانكا، التي كانت تتعثر بالفعل في ظل الأزمات المتصاعدة، أجبر النقص الحاد والطوابير التي استمرت أيامًا السلطات على إصدار أوامر العمل من المنزل، بينما لجأت باكستان إلى تقصير أسبوع عملها، لتخفيف الضغط الناجم عن انقطاع الكهرباء لفترات طويلة، في حين هزت بنما مظاهرات حاشدة احتجاجًا على ارتفاع الأسعار.

ووفقًا للمجلة، فإنه على مدى أشهر، كانت مخاوف احتمال فقدان إمدادات الغاز الطبيعي الروسية تُطارد القادة الأوروبيين، إذ تُمثل هذه الإمدادات نحو 40% من الواردات الأوروبية، وكانت شريان حياة حيويًا للطاقة في القارة.

القادم أسوأ

وأمام احتمال تفاقم أزمة الطاقة الحادة بالفعل خلال الشتاء المقبل، نقلت "فورين بوليسي" عن جيسون بوردوف، عميد قسم المناخ في جامعة كولومبيا، قوله: "نحن نواجه أول أزمة طاقة عالمية تظهر عواقبها في جميع أنحاء العالم، وأظن أن الأسوأ قادم".

وأضاف بوردوف: "على خلفية جائحة كورونا، والمشكلات في سلاسل التوريد والصدمات المناخية، فإن الأسواق كانت في حالة ترقب، حتى قبل بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا".

وأشارت المجلة، إلى أن الوضع تفاقم بسبب انخفاض واردات الغاز من روسيا، ما أجبر أوروبا على اللجوء إلى مصادر أخرى للإمدادات، وأدى إلى زيادة الأسعار في السوق العالمية، مضيفة: "الآن الوضع يزداد سوءًا بسبب الحرارة الشديدة".

وتعليقًا على ذلك، قال بوردوف: "إنه مجرد نظام عالمي مترابط، عندما تمارس الضغط في مكان ما، يشعر به الآخرون في مكان آخر".

وحسب المجلة، كانت آخر مرة شهد فيها العالم أزمة طاقة كارثية -وإن كان ذلك للنفط فقط- في سبعينيات القرن الماضي، إذ فرضت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) حظرًا أدى إلى صدمة في صناعة النفط حينها.

ونقلت المجلة عن أنطوان هالف، الخبير في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، قوله: تلك الأزمة ولدّت وكالة الطاقة الدولية (IEA) ودفعت الدول الصناعية إلى تطوير احتياطات استراتيجية استعدادًا لاضطرابات الإمدادات في المستقبل، لكن العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان المثقلة بالديون ليس لديها الحماية نفسها، ما يجعلها مُعرضة -بشكل خاص- لاضطرابات.

وأضاف هالف: "اليوم، لدينا مجموعة من البلدان، والبلدان الأصغر التي تتطور بسرعة، التي تستخدم المزيد من الطاقة -وهذه علامة رائعة تعكس تطورها الاقتصادي- لكن هذا جعلهم أيضًا أكثر عرضة لمخاطر التعطيل، وهم ليسوا جزءًا من شبكة الأمان التابعة لوكالة الطاقة الدولية".

اضطرابات

ولمدى تأثير أزمة الطاقة عالميًا، استشهدت "فورين بوليسي" بوقوع عدد من الاضطرابات في عدد من الدول، مشيرة إلى أن باكستان تكافح للتعامل مع انقطاع التيار الكهربائي، بينما في الإكوادور أدت الاحتجاجات الحاشدة على ارتفاع أسعار الوقود وتكاليفه إلى توقف البلاد تقريبًا في يونيو الماضي.

وأشارت إلى أنه في الأسابيع الأخيرة، شهدت غانا والكاميرون احتجاجات على أسعار الوقود ونقصه، وكذلك الأمر مع الأرجنتين وبيرو، حيث أدى ارتفاع تكاليف الطاقة إلى إضرابات ومظاهرات.

وبينت أنه في ظل هذه الضغوط التي تفرضها إمدادات الطاقة، اندلعت إضرابات في جميع أنحاء القارة الأوروبية، حيث تُكافح الأسر ارتفاع تكاليف المعيشة وموجات التضخم، وكانت لبعض هذا السخط آثار غير مباشرة في سوق الطاقة.

ففي النرويج، أكبر مورد للغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي بعد روسيا، أجبرت الإضرابات الجماعية في صناعة النفط والغاز -الأسبوع الماضي- الشركات على إيقاف الإنتاج، ما زاد الصدمات في جميع أنحاء القارة.

وفي فرنسا، تُعيق الإضرابات حركة القطارات، وفي إنجلترا تُؤخر المحاكمات الجنائية، بينما تُعكر صفو السفر الجوي في أنحاء أوروبا، في وقت يستغل القادة العماليون بجميع أنحاء القارة تكاليف المعيشة المتصاعدة، للمطالبة بزيادات كبيرة بالأجور في بعض الأحيان.

ويعلق بوردوف على هذه الاضطرابات، بالقول: "أفقر الدول تكافح اقتصاديًا بالفعل، ورغم أنها تواجه أوضاعًا مالية صعبة، فإنها تكافح من أجل توفير الطاقة".

وأضاف: "سنرى، على ما أظن، خطرًا أسوأ يتمثل في انقطاع التيار الكهربائي وصعوبة الحفاظ على الإضاءة وتوصيل الكهرباء في أجزاء من العالم ذات الدخل المنخفض، التي لا تملك شبكات كهرباء مستقرة".

وأمام ذلك، بينت المجلة الأمريكية، أن بعض البلدان تعيش في الظلام بالفعل، مشيرة إلى أن جنوب إفريقيا -التي عانت طويلًا أزمة ارتفاع أحمال الكهرباء- ابتُليت بانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، في الوقت الذي تكافح فيه واحدة من أسوأ أزمات الطاقة على الإطلاق، وكذلك الأمر بالنسبة لكوبا، التي كانت تعاني انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع.

ولتجنُّب المصير نفسه -حسب المجلة- عادت بعض الدول إلى الفحم، مشيرة إلى أنه مع تفاقم أزمة الطاقة في مايو الماضي، تعهدت الهند بإعادة تشغيل مناجم الفحم وزيادة الإنتاج، حيث وصلت واردات الهند من الفحم في يونيو الماضي إلى مستويات قياسية، ومع ذلك حذر وزير الطاقة الهندي راج كومار سينغ من أن البلاد قد تواجه أزمة طاقة على المدى الطويل.

الطاقة والقمح

أمام هذا الكم من التحديات التي تواجه دول العالم، جراء أزمة الطاقة، نقلت "فورين بوليسي" عن هيليما كروفت، كبيرة استراتيجيي السلع في "آر بي سي كابيتال ماركتس"، قولها: هذه الاضطرابات جزء من صورة أكبر لكيفية تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا في أسواق السلع الأساسية وتقويض الاقتصاد العالمي.

وأشارت إلى أن أوروبا قد تواجه "شتاء السخط"، مضيفة أن "السيناريو الأسوأ أن يضطر الناس إلى الاختيار بين تناول الطعام والتدفئة في فصل الشتاء".

وحذرت من أنه إضافة إلى الطاقة، هناك أزمة أخرى لا تقل أهمية يواجهها العديد من الدول، تتمثل في نقص القمح، خصوصًا أن نسبة كبيرة من صادرات القمح العالمية والمدخلات الرئيسة لإنتاج الأسمدة، تم وقف تصديرهما من روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب.

وقالت كروفت: "هذه ليست مجرد أزمة نفط أو غاز فقط، فحين نتحدث عن نقص المنتجات الزراعية الرئيسة، فإننا نكون أمام أزمة غذاء عالمية خطيرة"، محذرة من أن استمرار هذه الأزمات سيكون محفوفًا بالمخاطر السياسية، لأنه يسبب الكثير من البؤس لكثيرين في العالم.

وأشارت المجلة الأمريكية، إلى أنه في الوقت الذي تجنبت فيه الدول الأوروبية إمدادات النفط الروسية، تحركت كل من الصين والهند لابتلاع مخزونها الأرخص، حيث أصبحت موسكو أكبر مورد لبكين، لكن استهلاكهما المرتفع لا يعني أن الصين والهند نفسيهما لا تواجهان أيضًا خسائر اقتصادية نتيجة للأزمة، لافتة إلى أنه حتى مع التخفيضات الروسية، يدفع البلدان -الصين والهند- أسعارًا باهظة لوارداتهما الأخرى من الطاقة.

وتعليقًا على ذلك، قال فرناندو فيريرا، محلل المخاطر الجيوسياسية بشركة رابيدان لاستشارات الطاقة، للمجلة الأمريكية: "هناك تأثير مالي لا تقابله واردات النفط الروسي، حتى لو كان بخصم كبير".

ورأت المجلة الأمريكية، أنه يمكن في الوقت نفسه أن تزداد الأمور سوءًا في الشتاء المقبل، عندما تدخل سلسلة من الإجراءات التقييدية الأوروبية ضد النفط الروسي حيز التنفيذ.

وأوضحت أنه لتخفيف الارتفاع المحتمل في الأسعار، سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن جاهدة لتطوير خطة "تحديد أقصى سعر للنفط الروسي"، لكن العديد من العقبات تقف في الطريق.

وقالت كروفت: "يمكن أن نتطلع إلى مزيد من الاضطراب في سوق الطاقة وارتفاع أسعار النفط بحلول ديسمبر، اعتمادًا على كيفية تطبيق هذه العقوبات".

وحسب الخبراء فإن مستقبل الأزمة مرتبط بشدة بمدة الحرب الروسية الأوكرانية، التي لا تظهر أي بوادر للتوقف، ويقول فيريرا: "هذه الأزمة ستستمر ما دامت هذه الحرب مستمرة".

 حرب طاقة

وترى "فورين بوليسي" أن هذه الأوضاع تُسلِّط الضوء على المعركة الطويلة والمؤلمة، التي ستستمر أوروبا في مواجهتها لـ"فِطام نفسها عن الغاز الروسي".

ويرى الخبراء أنه رغم حرص القارة على التخلي عن إمدادات موسكو، فإن أوروبا ستظل -على الأرجح- محاصرة في هذه الأزمة المتصاعدة، حتى تتمكن من تطوير البنية التحتية لمزيد من الاستقلال في مجال الطاقة، وقد يستغرق ذلك سنوات، إذ يحتاج بناء خطوط الأنابيب الجديدة وقتاً طويلاً، ولا يوجد فائض من الموردين المؤهلين.

ونقلت المجلة عن خبير الطاقة بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة جيمس هندرسون قوله: "من الصعب للغاية على أوروبا أن تُخفف اعتمادها على الغاز الروسي، قبل ما يتراوح بين 3 و5 سنوات، فمشاريع الغاز لا تُبنى بهذه السرعة".

بينما قال الخبير في أسواق الغاز العالمية بمجموعة رابيدان للطاقة، أليكس مونتون: إنه في أسوأ السيناريوهات، نحن نتحدث عن ترشيد إمدادات الغاز، وهذا أمر لم تضطر أوروبا إلى التعامل معه في أي وقت آخر غير وقت الحرب، مضيفًا: "هذا هو المكان الذي وصلت إليه الأمور... هذه حرب طاقة".