من مطار كابل.. أوروبا تبدأ رحلة التمرُّد على التبعية الأمريكية

بريطانيا القوة الأوروبية الكبيرة، تشهد بوادر انسلاخ عن هذه التبعية، بدأت تلوح في الأفق، تشكلت ملامحه، من خلال الامتعاض العلني لعدد من مسؤوليها السابقين والحاليين، يدعمهم في هذه المواقف قادة أوروبيون حاليون  وسابقون.

من مطار كابل.. أوروبا تبدأ رحلة التمرُّد على التبعية الأمريكية

السياق

حسب التعبير الأمريكي "الولايات المتحدة أعلنت نهاية المباراة، وما كان على بريطانيا إلا الامتثال"... هكذا أورد جون سوبل، محرر شؤون أمريكا الشمالية في "BBC" بإحدى مقالاته، التي تُشرّح التبعية البريطانية للولايات المتحدة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدءاً بإبرام رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل اتفاقية -وُصفت بالمجحفة- لإنجلترا، اشترى بموجبها سفنًا حربية أمريكية "مهترئة"، مرورًا بأزمة قناة السويس، إبان "العدوان الثلاثي" على مصر، إذ وقتها هدَّدت الولايات المتحدة بإفلاس بريطانيا، إن واصلت هجومها العسكري مع فرنسا وإسرائيل على القاهرة، عبوراً بحادثة "جزيرة غرينادا" في الكاريبي عام 1983، وصولاً بالرضوخ البريطاني لواشنطن، في معظم الحروب، من غزو أفغانستان إلى العراق وحوادث أخرى.


أمريكا لم تعد القوة العظمى


بريطانيا القوة الأوروبية الكبيرة، تشهد بوادر انسلاخ عن هذه التبعية، بدأت تلوح في الأفق، تشكلت ملامحه، من خلال الامتعاض العلني لعدد من مسؤوليها السابقين والحاليين، يدعمهم في هذه المواقف قادة أوروبيون حاليون  وسابقون.

قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، إنه لم يعد من الممكن اعتبار أمريكا قوة عظمى، موضحاً "القوة العظمى غير المستعدة للالتزام بشيء ما، قد لا تكون على الأرجح قوة عظمى" حسب حوار أجراه مع صحيفة الغارديان، مختتمًا الحوار بسلسلة من التصريحات المستهجنة والرافضة للانسحاب، إذ قال: إن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها "يترك مشكلة كبيرة جدًا على الأرض".

وأضاف والاس: الاتفاقية بين الولايات المتحدة وطالبان، جعلتني أشعر بأن فِعل ذلك بتلك الطريقة كان خطأ، وأننا كمجتمع دولي، ربما ندفع عواقب ذلك. وأشار إلى أن "الاتفاقية"، التي وُقِّعت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لم تترك لبريطانيا خيارا سوى سحب قواتها.
وكذلك انتقد رئيس الوزراء البريطاني السابق جون ميجور، انسحاب القوات الغربية من أفغانستان، ووصفه بـ "القرار الاستراتيجي الغبي للغاية" واعتبره "غير مفهوم أخلاقيًا"، مشيرًا إلى أن عملية الإجلاء، دليل آخر على انعزالية الولايات المتحدة.
إلى ذلك قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، قبل أيام، إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخذ إجراءات تمكنه من الاستعداد بشكل أفضل، لعمليات الإجلاء العسكرية لرعاياه، في مواقف مثل ما حدث في أفغانستان، خلال الأسابيع الأخيرة.
وقال ميشيل في منتدى "بليد" الاستراتيجي في سلوفينيا: "من وِجهة نظري لسنا بحاجة إلى حدث جيوسياسي آخر من هذا القبيل، لندرك ضرورة أن يسعى الاتحاد الأوروبي، إلى استقلالية أكبر في صُنع القرار، وقدرة أكبر على العمل في العالم".

خيانة أمريكية

سبقت ما جاء به شارل ميشيل تصريحات عدة، من المنطلق نفسه، وعلى الخط ذاته "الرافض الممتعض"، إذ وصف وزير التنمية الدولية السابق روري ستيوارت "الانسحاب" بأنه خيانة قبل الولايات المتحدة.

وشبَّه النائب عن حزب المحافظين، وزير المحاربين السابق جوني ميرسر، الانسحاب بـ "وصمة العار"، وأضاف: "أعتقد أنه أمر مهين للجيش البريطاني والعائلات التي فقدت أفرادًا هناك، لكنها قبل كل شيء مأساة لشعب أفغانستان، الذي عانى الأمرين على مدى سنوات، لقد اخترنا هذه الهزيمة وهذا أمر مخزٍ".

في حين اعتبر الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن قراره هو الأفضل والصحيح للولايات المتحدة، ورفض الانتقادات التي وُجهت إليه، وألقى باللوم على إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، والجيش الأفغاني.
وكشفت تقارير، أن أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية، حذَّرت إدارة بادين، من الاستمرار في خطة الانسحاب بتلك الوتيرة المتسارعة، وكذلك قالت تقارير أخرى، إن إنجلترا وفرنسا وألمانيا حاولت –عبر قمة السبع- إقناع واشنطن بتأجيل الانسحاب، لحين خروج مواطنيهم، والمتعاونين والمهدَّدة حياتهم من حُكم الحركة المتطرفة، إلا أن الإدارة الأمريكية لم ترجع عن قرارها، وهو ما ظهر "وفاءً" لالتزامها مع طالبان.

 بريطانيا "تتحرك منفردة"


الانفراد الأمريكي بقرار الانسحاب بروافده، أجبر بريطانيا على التحرك منفردة، وفتحها خطوط اتصال مباشرة مع حركة طالبان، بشأن إعادة فتح مطار كابل، وتوفير طريق آمن لخروج البريطانيين والأفغان الراغبين في المغادرة، إذ توجَّه قبل أيام السير سايمن غاس، الممثل البريطاني الخاص لعملية الانتقال في أفغانستان إلى الدوحة، للقاء قادة من طالبان، والتفاوض معهم في هذا الشأن، ولحقته زيارة لوزير الخارجية دومينيك راب، وتزامن مع تلك التحركات، إصدار بيان للخارجية البريطانية، قالت فيه: "احتمالات إعادة تشغيل مطار كابل وتوفير ممر آمن للأجانب والأفغان عبر الحدود البرية تتصدَّر جدول أعمال المباحثات".


القوة الدفاعية الأوروبية المستقلة
إلى أبعد من ذلك، تحدَّث تقرير لصحيفة واشنطن بوست، عن أن الاتحاد الأوروبي يتجه إلى إنشاء جيش خاص به، بدلًا من الاعتماد على الحماية الأمريكية، لافتًا إلى أن "الصخب" الأوروبي، الذي خفت وطأته، بعد انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، اشتد مرة أخرى، بعد أن رفض الأخير دعوات القوى الغربية، للإبقاء على قواته إلى ما بعد 31 أغسطس الماضي.
وذكرت الصحيفة أن السياسيين الأوروبيين طالما ناقشوا أن الاتحاد الأوروبي سيصبح ذا ثقل عالمي حقيقي، إذا امتلك قوة دفاع خاصة به، مُستقلة عن حلف شمال الأطلسي والجيش الأمريكي.
جاء تقرير "واشنطن بوست" بعد اجتماع لوزراء دفاع الاتحاد الأوروبي، قال فيه الممثل الأعلى للشؤون الخارجية بـالاتحاد، جوزيب بوريل، إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، سيحفِّزنا على إنشاء قوة عسكرية دائمة، خاصة بنا. وأضاف: من الجلي أن الحاجة لسياسة دفاعية للاتحاد الأوروبي، لم تكن واضحة بقدر ما هي عليه اليوم.

أوروبا لن تنحاز إلى أمريكا في مواجهة الصين


غضب على استحياء، جاء بشكل رسمي من القادة الأوروبين، في المقابل وبشكل جريء، عبَّـر ت عنه شعوب تلك الدول، فجولات حكومة جونسون المكوكية، كانت بعد عاصفة من الانتقادات لعملية الإجلاء، وسخط كبير من أداء بريطانيا وحلف الناتو، بشكل عام، في أفغانستان، لم تنفصل هي الأخرى عن الرأي الأوروبي العام، الذي ظهر في عدد من استطلاعات الرأي، مؤشرًا لتباين كبير في المواقف، من إشراك الجيوش في صراعات مسلَّحة، تتعلَّق بالمصالح الأمريكية.
يقول الكاتب الأمريكي هنري أولسن، في مقاله بـ "واشنطن بوست": إن مكافحة واشنطن صعود بكين، كقوة عظمى، سيقنع حلفاء الولايات المتحدة، بالانضمام إلى تلك الجهود، ما يعني أن أعضاء "الناتو" سيُطلب منهم تحمُّل بعض العبء في تحالف مناهض للصين.

ولفت الكاتب، إلى أن الأوروبيين لا يريدون ذلك، حيث أظهر استطلاع للرأي، أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في يناير 2021 أن 60% من سكان أوروبا، يريدون أن تظل دولتهم محايدة، في أي صراع بين الصين والولايات المتحدة، كما وجد الاستطلاع أن 59% يعتقدون أن الصين ستكون أقوى من الولايات المتحدة خلال عقد من الزمن، بينما أكد 19% فقط استمرار تفوق الولايات المتحدة، وقال 67% إن أوروبا لا يمكنها الاعتماد على واشنطن دائماً، وعليها أن تهتم بالدفاع عن نفسها.

وأكد الكاتب، أن هذه الآراء قابلة للتغيُّـر، إذ يمكن للقادة الأوروبيين محاولة إقناع ناخبيهم، بأهمية وجود تحالف غربي قوي وعالمي، وحذَّر من أن عدم القيام بذلك، سيدفع هؤلاء القادة إلى اتباع ناخبيهم، بتجنُّب المواقف المناهضة للصين.

وتابع: "في حال حدوث ذلك، فإنه من المرجَّح أن يستنتج الرؤساء الأمريكيون -من الحزبين- أن التدخل العسكري الأوروبي الكبير، لم يعد يخدم المصالح الأمريكية.