إسرائيل وغزة والاشتباك المحفوف بالمخاطر

ماذا تعني الجولة الأخيرة من القتال بين إسرائيل والجهاد الإسلامي في فلسطين؟ ولماذا ستتكرر المواجهة -على الأرجح- بحسب صحف إسرائيلية؟

إسرائيل وغزة والاشتباك المحفوف بالمخاطر

ترجمات - السياق 

 قبل أسبوع من الجولة الأخيرة من القتال -نهاية الأسبوع- بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، التي تتخذ من غزة مقرًا لها، أدلى مسؤول أمني إسرائيلي كبير ببعض التصريحات التي تختصر تطور الأمور من وجهة النظر الإسرائيلية، حيث لفت إلى أنه على عكس حماس، المجموعة الأكبر والأقوى التي تحكم غزة بالفعل، فـ"الجهاد الإسلامي" ليس لديها مسؤولية الحكم، الأمر الذي يتطلب معاملة خاصة معها، إذا اختارت التصعيد.

 جاءت هذه "المعاملة الخاصة" في شكل عملية عسكرية استمرت ثلاثة أيام بدأتها إسرائيل الجمعة، بعد أيام من تهديد "الجهاد الإسلامي" في فلسطين بشن هجوم عبر الحدود من غزة إلى جنوب إسرائيل (كان ذلك بسبب اعتقال قيادي بارز في الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية بداية الأسبوع). 

الأعمال العدائية التي تلت ذلك - الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة، صواريخ "الجهاد الإسلامي" على إسرائيل- عادت، حسب معظم التحليلات، بشكل سيئ للغاية على الحركة، حيث قُتل كبار القادة الميدانيين للجماعة، وتدهورت أصولها العسكرية، ولم يُحدِث ما يقرب من 1000 صاروخ وقذيفة هاون أي ضرر تقريبًا بسبب نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي "القبة الحديدية".

 كذلك عانى "الجهاد الإسلامي" في فلسطين "ضربة خطيرة أعادته -بحسب وسائل إعلام إسرائيلية- إلى الوراء لعقود، بينما لم يتوقعوا هم أنفسهم ذلك. لقد فوجئوا بقدراتنا... يضيف المسؤول الإسرائيلي: "أخبرني مصدر دبلوماسي إسرائيلي رفيع بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في وقت متأخر من الأحد، بأن  المخابرات الإسرائيلية استطاعت تحديد وقتل قائد لواء شمال غزة في "الجهاد الإسلامي" في غاراتها الجوية الأولى الجمعة. في الليلة التالية، في خضم التصعيد، قُتل نظيره في لواء جنوب غزة في غارة جوية إسرائيلية (الجهاد الإسلامي في فلسطين لديه لواءان فقط لغزة).

لكن الجانب الأكثر دلالة أن حماس بقيت بعيدة عن المعركة، رغم الخسائر في الأرواح داخل غزة، مع أكثر من 40 قتيلاً و 300 جريح، بمن فيهم أطفال ومدنيون، تركت حماس أمر القتال لإسرائيل و"الجهاد الإسلامي"،  كان هذا تماشياً مع معظم أحداث العام الماضي، منذ الجولة الأخيرة من الحرب المفتوحة في مايو 2021 بين إسرائيل وحماس. حسب بعض التقديرات، كانت هذه الفترة الأكثر هدوءًا في غزة وما حولها منذ عقدين وليس الأمر مجرد صدفة.

 استغلت إسرائيل فترة ما بعد الحرب -العام الماضي- للشروع في ما وصفه مسؤولوها بأنه "برنامج مدني موسع" يهدف إلى تخفيف المحنة الاقتصادية والإنسانية لمليوني شخص يعيشون في غزة رفع تكلفة حماس من أي قتال متجدد. 

مسؤول أمني إسرائيلي ثان، قال: كان الهدف "ليس فقط إبقاء غزة" فوق الماء "لكن السماح لها بالتطور... وحماس ليست منفصلة عن جمهورها، عليها أن تأخذه في الاعتبار من أجل شرعيتها".

 لم تتوصل إسرائيل إلى هذه السياسة باختيارها لكن بسبب استراتيجية مستدامة من حماس، تعود إلى أكثر من عقد من الزمان، تهدف إلى إجبار إسرائيل على "إنهاء الحصار" على غزة.  كانت كل جولة قتال أو احتجاج واسع النطاق تقريبًا (2008-2009، 2012، 2014، 2018-2019) وراءها منطق انتزاع المزيد من الامتيازات الاقتصادية من إسرائيل، وقد نجح ذلك. كل وقف لإطلاق النار كان داخله تفاهم أكثر من أي وقت مضى بشأن المزيد من التنازلات الإسرائيلية.

مسؤول أمني إسرائيلي ذكر أن "غزة من دون اقتصاد أقل استقرارًا من غزة مع اقتصاد... لا نريد جر إسرائيل إلى حملة في غزة كل أسبوع ".

 وبهذه الطريقة، ذهبت إسرائيل -العام الماضي- إلى أبعد من ذلك، حيث خففت القيود المفروضة على مجموعة من مواد البناء للاستيراد إلى غزة، ما سمح للعديد من مشاريع البنية التحتية المخطط لها منذ فترة طويلة -بينها محطة لتحلية المياه ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي- بالعمل أخيرًا، و تمت زيادة توليد الكهرباء في غزة، وتضاعف استيراد وتصدير البضائع تقريبًا، ومنح عمال غزة تصاريح للعمل داخل إسرائيل، بشكل جماعي، لأول مرة منذ استيلاء حماس على القطاع عام 2007... (تم تأكيد هذه المعلومات  من المسؤولين الغربيين).

 يتجاوز عدد سكان غزة الذين يدخلون إسرائيل في الوقت الحالي 14000 شخص في اليوم. يمكن لكل عامل أن يكسب، يوميًا، قرابة 150 دولارًا، 10 أضعاف ما قد يكسبه داخل غزة.

بينما تقول مجموعات الإغاثة إنه يتعين القيام بالمزيد، وهم محقون في ذلك.

 وفقًا لتانيا هاري، المديرة التنفيذية لـ Gisha (منظمة غير حكومية إسرائيلية تروج لحرية الحركة للفلسطينيين)، فإن القيود الإسرائيلية المفروضة على استيراد العناصر "ذات الاستخدام المزدوج" التي تدعي السلطات أنها قد تستخدم لأغراض عسكرية غالبًا ما تكون تعسفية، على نوع سخيف. ولا يزال دخول الأفراد وحركتهم من وإلى غزة - لزيارة الأقارب أو تلقي العلاج الطبي أو الالتحاق بالجامعة- خاضعًا للمراقبة الشديدة، حيث رفض الجيش الإسرائيلي الطلبات لأن عبارة "دولة فلسطين" تظهر على ورقهم، إذ تقدم ما يقدر بنحو 100000 من سكان غزة بطلبات للحصول على تصاريح العمل في إسرائيل، وهي علامة واضحة على الطلب والحاجة ومع هذا التقدم في هذا المجال لا يزال بطيئًا.

 ومع ذلك، كتحول في السياسة الإسرائيلية من السنوات السابقة من الحصار التام، فإن ذلك تغير ملحوظ. قبل سنوات يقول صحفي غربي سألني مسؤول إسرائيلي: لماذا تريد الأمم المتحدة تسهيل دفع الأموال إلى "جماعة إرهابية" مثل حماس، قال: "هل جن جنونهم؟"  ومع ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، مثل سابقتها، سمحت باستمرار تدفق ملايين الدولارات في شكل أموال قطرية شهرية لرواتب القطاع المدني التابع لحركة حماس ومعونات الأسر الأكثر احتياجًا.

ونقلا عن صحفي إسرائيلي: يدرك المسؤولون الإسرائيليون مخاطر هذه السياسة لسببين...

 أولاً: في أذهانهم، قد يؤدي ذلك ببساطة إلى تقوية حماس والجماعات المسلحة الأخرى في غزة، الذين يستخدمون قدراً أكبر من الوصول إلى مواد البناء والأموال لتعزيز قدراتهم العسكرية.  وهذا سبب مركزي، في أذهان الإسرائيليين، لعدم رفع جميع القيود.  قال مسؤول أمني إسرائيلي رفيع المستوى عن عالم بلا حدود على منطقة تحكمها حماس: "في غضون أسابيع ستكون لدينا بطارية عسكرية إيرانية نصبت في غزة بأسلحة استراتيجية". 

تجدر الإشارة إلى أنه حتى مع الحصار الطويل الأمد، عملت حماس على تحسين أدائها العسكري بشكل مطرد -لا سيما مدى ترسانتها الصاروخية- في كل جولة قتال.

 كما أن هناك تعقيدًا إضافيًا لصفقة تبادل الأسرى المتوقفة، حيث تطالب إسرائيل بإعادة مصابين بأمراض عقلية وجثث جنديين تحتجزهما حماس. 

أجلت الحكومة الإسرائيلية خطوات اقتصادية رئيسة، مثل خطة طموحة لتزويد غزة بالغاز الطبيعي، على وجه التحديد بسبب قضية الأسرى هذه.

 الخطر الثاني لهذه السياسة، أنها ببساطة قد لا تعمل، يضيف الصحفي الغربي.

قبل التصعيد، نهاية الأسبوع الماضي ، كانت استراتيجية إسرائيل أنه بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الجديد (والمتحسّن) في غزة، فإن حماس ستتصرف كقائد حقيقي وتعمل على منع الجماعات المسلحة الأصغر من مهاجمة إسرائيل.

 قال مسؤول أمني اسرائيلي -​​الأسبوع الماضي- قبل أيام فقط من فشل حماس في ذلك: "يمكن لحماس كبح جماحهم عندما تريد" إما لأنها غير قادرة وإما لأنها غير راغبة.

 ومع ذلك، فقد أوقفت حماس -العام الماضي- جميع الصواريخ تقريبًا من غزة، بما في ذلك الصواريخ التابعة لها. 

والمؤشر على أحداث نهاية الأسبوع الماضي، أنها تركت الجهاد الإسلامي في المعركة بمفردها. ذكر مصدر دبلوماسي رفيع : "حماس لم تنضم للقتال، ويبدو أنهم لم يكونوا مهتمين بذلك على أي حال، إنها شهادة على نجاح هذه السياسة".

كان مسؤولو الأمن الإسرائيليون واضحين، حتى عند الترويج لاستراتيجية غزة الجديدة، أنها ليست "بوليصة تأمين لما قد يحدث غدًا" على حد تعبير أحدهم.

 التوترات في القدس، والاضطرابات في الضفة الغربية، ومطالبة حماس بمزيد من التنازلات الاقتصادية، أو مجرد تولي مجموعة صغيرة مثل الجهاد الإسلامي زمام الأمور مرة أخرى، يمكن أن تؤدي جميعها إلى تصعيد آخر بين إسرائيل وغزة. 

يمكن لإسرائيل أن توقف بسرعة العديد من الخطوات الإيجابية التي اتخذت العام الماضي، كما فعلت عندما أغلقت معابر غزة الحدودية.

وبالسرعة نفسها، منتصف هذا الأسبوع، عادت الأمور  على الأرض إلى الوضع "الطبيعي" قبل الحرب جنوب إسرائيل وغزة. إنها شهادة على القيمة الاستراتيجية التي تضعها إسرائيل وحماس على الجانب الاقتصادي والمدني لعلاقتهما الناشئة، لكنها أيضًا علامة على أنه لا أحد لديه أفكار أفضل لحل نهائي، في ظل غياب تفاهم أعمق وأطول أجلاً بين الجانبين، فإن هذه الاشتباكات المحفوفة بالمخاطر ستكون كافية فقط لدفع اندلاع حريق آخر، حتى الجولة التالية.