كيف تسبب حرب أوكرانيا انقسامات في المجتمع الأرثوذكسي الروسي؟

بداية الحرب -في 24 فبراير الماضي- خرج القس فيكتور بوتابوف، عميد كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان الروسية الأرثوذكسية في واشنطن، ليعلن التزام الكنيسة بالحياد في الحرب، محملًا روسيا وأوكرانيا والولايات المتحد مسؤولية ما آلت إليه الأمور.

كيف تسبب حرب أوكرانيا انقسامات في المجتمع الأرثوذكسي الروسي؟

ترجمات - السياق

كشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أن حرب أوكرانيا تسببت في انقسامات داخل المجتمع الأرثوذكسي الروسي، متسائلة عن أسباب التزام الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بـ"الحياد" في الحرب التي تدخل شهرها السابع.

وأشارت إلى أنه بداية الحرب -في 24 فبراير الماضي- خرج القس فيكتور بوتابوف، عميد كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان الروسية الأرثوذكسية في واشنطن، ليعلن التزام الكنيسة بالحياد في الحرب، محملًا روسيا وأوكرانيا والولايات المتحد مسؤولية ما آلت إليه الأمور.

وها هو الآن بعد مرور نحو سبعة أشهر على الحرب، يخرج بوتابوف ليعيد تأكيده التزام الكنيسة بالحياد، إلا أنه كشف عن انقسامات داخلها بشأن هذه الحرب، قائلًا للصحيفة الأمريكية: "لا نناقش الأمور السياسية في الكنيسة، لأن لدينا أشخاصًا لهم وجهات نظر مختلفة، وأنا أعلم ذلك، لا نأتي إلى الكنيسة إلا للصلاة وليس للتسييس".

 

موقف صعب

وترى "واشنطن بوست" أن بوتابوف في موقف صعب جدًا، ذلك أن نحو 35 في المئة من أتباع الكنيسة من الأوكرانيين، ومعظم الباقين من الروس والأمريكيين المتحولين، ومن ثمّ بدا رده الغامض على الحرب كأنه قرار حكيم، حتى لا يساعد أي تصريح في زيادة الانقسامات بين أبناء الرعية.

وتعليقًا على ذلك، نقلت الصحيفة عن ويليام ويلسون (35 عامًا)، الذي يعمل في مجلس رعية سانت جون المكون من 10 أعضاء، قوله: "أعضاء في الكنيسة لديهم أفراد من عائلاتهم في الجيش الروسي، وآخرون لديهم أفراد في الجيش الأوكراني، لذلك فإن الأمر في غاية الحساسية".

وأشارت الصحيفة الأمريكية، إلى أن "مجلس الرعية"، الذي يعمل بالشراكة مع بوتابوف، بحث بعض أفكار دعم أوكرانيا من دون إثارة النقاشات السياسية.

ويضيف ويلسون: "اقترح البعض وضع إعلان ضخم بعنوان (الحرب سيئة) في مقدمة الكنيسة"، بينما اقترح آخرون دعوة الكنائس الأوكرانية المحلية للصلاة من مجمع دير يعود للقرون الوسطى في كييف، من أجل السلام.

ويتابع: "إن صلاة مشتركة من أجل السلام ستكون شاهدًا قويًا على وحدة الصف داخل الكنيسة، وبذلك لن نضطر إلى التحدث عمن المخطئ، لأن هناك شيئًا نتفق عليه جميعًا بضرورة إنهاء هذه الحرب".

نهاية المطاف -حسب الصحيفة- وجَّه مجلس الرعية، الذي يتكون من قرابة 500 عائلة، جهوده نحو المساعدات الإنسانية الملموسة، وبشكل أساسي الأموال والإمدادات للاجئين الأوكرانيين.

وفي ذلك، يقول ويلسون، الملحد السابق الذي تحول إلى الأرثوذكسية: "لا أعرف الكثير عن السياسة الخارجية، لكنني أصلي من أجل شفاعة قديسي كهوف كييف لإحلال السلام في أراضيهم".

 

موقف صارم

ومع ذلك -حسب "واشنطن بوست"- يرى آخرون في الرعية أنه كان على الكنيسة اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الحرب.

وفي ذلك، نقلت الصحيفة عن "لينا" البالغة من العمر 46 عامًا، التي التحقت بمدرسة سانت جون قبل 20 عامًا، عندما قدمت لأول مرة من روسيا إلى واشنطن، قولها: "عندما بدأت الحرب في فبراير الماضي، لم أستطع الحضور إلى الكنيسة"، مضيفة: "لقد فقدت الاتصال بالله نوعًا ما، إذ لم يكن هناك موقف معلن، ولا أعرف كيف يمكن تبرير هذه الحرب".

إلا أن "لينا" -التي لم ترغب في نشر اسمها الأخير لحماية عائلتها في روسيا- ركزت على الأعمال الخيرية والتطوع، ولا تزال تأمل التعبير عن موقف أكثر واقعية.

أمام ذلك، مع استمرار الحرب –من دون موقف صارم من الكنيسة- بينت "لينا" أن سلطة رجال الدين -هناك ثمانية أعضاء، بمن في ذلك بوتابوف رئيس الكهنة- تضاءلت في عينيها.

وترى الصحيفة الأمريكية، أن الحرب فتحت شقوقًا عميقة داخل العالم الأرثوذكسي عبر العالم، إذ نددت العديد من الأبرشيات -بما في ذلك بواشنطن- بالهجوم الروسي، بينما قطع آخرون علاقاتهم بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي لم يؤيد زعيمها البطريرك كيريل، قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا فحسب، وإنما باركه أيضًا.

لكن كنيسة القديس يوحنا المعمدان -وهي أبرشية تابعة لموسكو تقع وسط الديمقراطية الأمريكية- اختارت مسارًا مختلفًا، بـ"البحث عن أرضية وسط غير سياسية للحرب"، إلا أن "واشنطن بوست" ترى أن "الحياد الثابت مستحيل أخلاقيًا".

وأشارت الصحيفة إلى أنه منذ تأسيسها عام 1949 على يد القديس غون ماكسيموفيتش، كانت رعية سانت جون موطنًا للمهاجرين السياسيين واللاجئين، ومعظمهم من أصل روسي، لكن بعد التدفق الأولي للمهاجرين الروس، تقاطرت مجموعات أخرى من الاتحاد السوفييتي.

وأفادت بأن سانت جون واحدة من قرابة 400 أبرشية تشكل الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خارج روسيا (روكور)، وهي فرع من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، شكلته مجموعة من الأساقفة الذين فروا من الثورة البلشفية.

وأوضحت أنه من خلال مرسوم لبطريرك موسكو عام 1920، سُمح للمسيحيين الأرثوذكس في المنفى بحكم أنفسهم بشكل مستقل عن موسكو بينما كانت الكنيسة الأم رهينة السوفييت.

ونوهت إلى أنه بعد بضع سنوات، قطعت (روكور) العلاقات بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو، التي أعلنت ولاءها للحكومة السوفيتية، وتم اختراقها من قِبل عملاء الاستخبارات السوفيتية "كي جي بي".

لكن -حسب الصحيفة- كان انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 بمنزلة وعود بإحياء ديني في روسيا، وفتح الأبواب لاستعادة وحدة ما قبل الثورة بين كنيسة موسكو ومجتمعات (روكور) في الخارج، إلا أن طريق العودة إلى المصالحة مع موسكو كان طويلًا ومليئًا بالخلافات.

وتعليقًا على ذلك، نقلت الصحيفة عن لينا زيزولين، محامية أبرشية سانت جون السابقة، التي كتبت عن روكور، قولها: "كان الأمر مثيرًا للجدل للغاية لأن بعض الناس ما زالوا يعتقدون أن هؤلاء الرجال يعملون لصالح كي جي بي".

بينما انتقد بوتابوف نفسه بطريركية موسكو، كما أوضح في مقابلة عام 2021، لكنه حافظ أيضًا على منظور خيري، قائلًا: "لم أشارك الرأي القائل إن بطريركية موسكو كانت بلا نعمة".

 

لم الشمل

وظلت هذه الانقسامات تضرب الكنيسة الروسية و(روكور)، حتى عام 2007، إذ إنه بعد ما يقرب من تسعة عقود من القطيعة، تم لم شمل (روكور) بكنيسة موسكو في حفل فخم.

وأشارت "واشنطن بوست" إلى أن لم الشمل مع بطريركية موسكو كانت له آثار إدارية في الشؤون اليومية بسانت جون، باستثناء اعتراف الرعية بالبطريرك كيريل من موسكو كرئيس روحي لها.

وبينت الصحيفة أن الاعتراف برئاسة البطريرك كيريل، لم تكن بالأمر الهين، بسبب الموقف الذي اتخذه أثناء الحرب.

ففي 6 مارس الماضي، وصف كيريل، الحرب في دونباس -المنطقة الأوكرانية التي رعت فيها روسيا منذ فترة طويلة جهود الانفصال- بأنها دفاع عن القيم الليبرالية، في إشارة إلى رفضه (دفاع الغرب عن المثليين)، ووصل به الأمر لأن يصف الغرب بأنه (لا إلهي) أو (شعوب ملحدة).

وأشارت "واشنطن بوست" إلى أن هذا السرد عن "الغرب اللاإلهي" وجد قبولًا في العديد من كنائس (روكور)، لافتة إلى أنه بعد قرار المحكمة العليا عام 2015 بإباحة زواج المثليين في أنحاء الولايات المتحدة، وصف بوتابوف القرار بأنه "زلزال من نوع يغير النظام الذي وضعه الله"، وأضاف: "إنه لأمر فظيع أن نتعدى على إرادة الله".

وعن الدعم الذي تقدمه الأبرشية إلى أوكرانيا، أشاد بوتابوف بما سماه "الدعم الكبير" الذي قدمته سانت جون للأوكرانيين، الذي بلغ نحو 35000 دولار جمعها أبناء الرعية للاجئين الأوكرانيين، ذهب منها نحو 10000 دولار إلى سكان تاغانروغ جنوبي روسيا، فضلًا عن أطنان من المساعدات الإنسانية ترسل كل شهر.

لكن -حسب الصحيفة الأمريكية- ردد بوتابوف أيضًا نقاط الحوار التي روجت لها الحكومة الروسية، إذ إنه رغم الأدلة الموثقة على أن حرب دونباس، التي بدأت عام 2014، كانت عملاً من أعمال العدوان الروسي، يقول بوتابوف إن "نظام كييف" هو الذي بدأ قصف دونيتسك ولوهانسك.

وأضاف: "كييف لا تريد فدرالية البلاد" -المصطلح الذي استخدمه بوتين في الأخبار الروسية- وبذلك نفذت الحرب على حساب أرواح 14000 شخص، وتابع: "ما حدث في 24 فبراير كان استمرارًا للحرب الأهلية، لكن الاختلاف الوحيد أن روسيا متورطة بشدة".

كما يعتقد بوتابوف أن الولايات المتحدة تتحمل أيضًا مسؤولية الغزو -وهي إحدى الروايات الرئيسة لوسائل الإعلام الموالية للكرملين، التي وجدت أيضًا جاذبية بين بعض المعلقين الأمريكيين".

ورغم ذلك أعرب بوتابوف عن حزنه الشديد لاستمرار القتال، وهي السياسة التي تنال إعجاب (شعب الأبرشية)، إذ يقول أحدهم: "يمكنك أن تختلف مع الأسقف في السياسة، لكن ينبغي ألا يكون لذلك تأثير في الكنيسة".

بينما يقول أحد أبناء أبرشية سانت جون: "أشعر بألم لا يطاق في كل شيء من جانب روسيا، لكنني أحاول أن أترك هذا الألم عندما آتي إلى هنا".

وتقول إيلينا ماثيوز، التي انضمت إلى سانت جون عام 2012، إنها نشأت في سيمفيروبول بشبه جزيرة القرم، حيث كانت تذهب إلى كنيسة أرثوذكسية منذ الصغر.

وأضافت ماثيوز، التي حصلت على جواز سفر روسي: "طالما أحببت روسيا، لكن هذه الأحداث أثرت في شعوري"، متابعة: "أنا منجذبة إلى أوكرانيا، فأقاربي هناك، وبالنسبة لي، هذه ليست عملية عسكرية بل حرب شاملة".