الحرب من أجل المواهب...  ماذا نتعلم من مجزرة الموظفين في شركات التكنولوجيا العملاقة؟

ربما قدمت شركات التكنولوجيا امتيازات مذهلة، لكن الناس لا يحتاجون إلى وظائف تحقق أحلامهم بقدر ما يحتاجون إلى وظائف تعاملهم بشكل لائق

الحرب من أجل المواهب...  ماذا نتعلم من مجزرة الموظفين في شركات التكنولوجيا العملاقة؟

ترجمات - السياق

رأت سارة أوكونور عالمة البيولوجية الجزيئية الأمريكية، أن إقدام شركات التكنولوجيا العملاقة على تسريح آلاف العاملين فيها، يكشف وجهها الحقيقي (غير البريء)، مشددة على أن هذا الإجراء -تسريح الموظفين- يجب أن تواجهه (حرب من أجل الحفاظ على المواهب)، صونًا للعمالة الأكثر كفاءة في شتى المجالات.

وأشارت -في تحليل لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية- إلى أن الخريجين الشباب كان جل اهتمامهم بعد التخرج، البحث عن عمل في بنك استثماري أو شركة محاماة، طمعًا في حياة أفضل، من دون أن يستمتع بما يفعله، لكن بعد ظهور شركات التكنولوجيا الكبرى، أصبح من الممكن لشخص لديه مجموعة معينة من المهارات، أن يستمتع بعمله ويصبح ثريًا في الوقت نفسه.

ويبدو أن الاستغناء عن الموظفين، أصبح الخيار الأسهل والأقرب لعدد من شركات التكنولوجيا، في مواجهة الأزمة الاقتصادية العاصفة التي تمر بها الأسواق العالمية.

فخلال العام الجاري، لجأت كبريات شركات التكنولوجيا العالمية إلى التخلي عن جزء من موظفيها، لتخفيف وطأة الأوضاع الاقتصادية، أملًا في بقائها على قيد الحياة.

إنتل ومايكروسوفت وشوبيفاي وسناب ولايفت وسترايب وميتا وتويتر، وأخيرًا أمازون، كلها شركات إما تخلت عن جزء من موظفيها، وإما أعلنت عزمها التخلي عن بعضهم في الأسابيع والأشهر الأخيرة.

الجدارة

وبينت أوكونور، أن شركات التكنولوجيا كانت تمثل عالمًا أقل تسلسلًا هرميًا للعمل، حيث كان الجميع يرتدون الجينز والقمصان، وكانت الجدارة هي الأكثر أهمية، كما كانت الرواتب مجزية، وخيارات الأسهم وفيرة.

وأشارت إلى أنه خلال هذا العام، استحوذت شركات التكنولوجيا على خمسة من أفضل 10 أماكن للعمل في الولايات المتحدة، بناءً على تقييمات الموظفين بموقع غلاس دوور المتخصص في الوظائف بالولايات المتحدة.

ومع بعض المزايا الأخرى -بعيدًا عن المرتبات المجزية- من تقديم الوجبات على مدى اليوم، وتيسير المواصلات، وغسل الملابس في بعض هذه الشركات، تصور العاملون في مجال التكنولوجيا أنهم الفائزون النموذجيون في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، وأنهم كانوا الأكثر حظًا بين أقرانهم في الوظائف الأخرى، بحصولهم على وظيفة تجمع بين الراحة النفسية والمكسب المادي السخي.

وبلغ الأمر -حسب الكاتبة- أنه حينما حاول بعض الموظفين في هذا القطاع تكوين نقابات، كان رد الشركات والمستثمرين -في كثير من الأحيان- بالقول "إن الحصول على هذه الوظائف كان شيئًا من الخيال... فما الهدف من النقابات؟".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أحد المستثمرين في قطاع التكنولوجيا، علق على المطالب بتكوين نقابات للعاملين بالقطاع، قائلًا: "يستولون على لغة عمال مناجم الفحم المستغَلين، بينما يستمتعون بتجربة العمل الأكثر امتيازًا في تاريخ البشرية".

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فمؤخرًا أعلنت شركات تكنولوجيا كبرى الاستغناء عن الآلاف من موظفيها، إذ فصلت ميتا (الشركة الأم لفيس بوك وإنستغرام) 11 ألف عامل أو 13 في المئة من قوتها العاملة، بينما خفض الملياردير الأمريكي إيلون ماسك المالك الجديد لموقع تويتر، عدد موظفي المجموعة إلى النصف، بينما تخطط "أمازون" لتسريح قرابة 10 آلاف موظف، بينما سرحت شركة سترايب، وهي شركة مدفوعات خاصة، 14 في المئة من العمال.

تجربة وحشية

وتعليقًا على هذه القرارات، قالت أوكونور: "لقد كانت تجربة وحشية للموظفين"، مشيرة إلى أن قرارات ماسك بالاستغناء عن نحو نصف العمالة، تعد مختلفة، لأنها جاءت ردًا على تعيينات غير عادية بالشركة، خلال الفترة التي سبقت بيعها للملياردير الأمريكي (مالك شركة تسلا للسيارات الكهربائية).

وأرجعت الكاتبة، المذبحة الأخيرة للعاملين بشركات التكنولوجيا الكبرى، إلى أن هذه الشركات راهنت على استمرار بيئة الاقتصاد الكلي غير العادية، التي كانت في الواقع على وشك الانتهاء، لافتة إلى أن المستهلكين لم يعودوا محصورين في منازلهم -بسبب وباء كورونا- مع التجارة الإلكترونية فقط لإنفاق أموالهم عليها، كما لم تعد أسعار الفائدة في الحضيض كما كانت.

وتوقعت أن تكون هذه القرارات، بداية النهاية لهذه الشركات، مشيرة إلى أنه رغم أن شركة مثل (ميتا) لا تزال تضم عددًا من الموظفين أكبر مما كان عليه العام الماضي، فإن عمليات التسريح الجماعي للعمال ستترك أثرًا غير طيب.

ورأت أن هناك بعض الدروس المستفادة من خلال قرارات التسريح هذه، وأهمها: "أنه سواء كان الجميع يرتدون الجينز أم لا، فإن العديد من شركات التكنولوجيا استبدادية للغاية"، مشيرة إلى أنه كان من المدهش أن يتحمل الرؤساء التنفيذيون المسؤولية الشخصية عن عمليات التسريح، لكنه كان أيضًا تذكيرًا بمدى القوة التي يمتلكونها.

ففي "ميتا" على سبيل المثال -وفقًا للكاتبة- يشعر المستثمرون بالإحباط بشكل متزايد، بسبب الأموال التي كان الرئيس التنفيذي مارك زوكربيرغ يغرقها في "ميتافيرس"، لكن هيكل سهم "ميتا" المزدوج يسمح له، مع 13 في المئة من الأسهم، بالسيطرة على أكثر من نصف الأصوات.

كانت "ميتا" أنفقت نحو 15 مليار دولار على مشروع ميتافيرس، وقال محللون إن ذلك يظل رهانًا خطيرًا من زوكربيرغ وفريقه، لأنهم يراهنون بالمال على المستقبل، بينما يستمرون بالتعرض لرياح معاكسة هائلة تضرب أعمالهم.

وأعلن مارك زوكربيرج رئيس مجموعة ميتا، المالكة لشركة فيسبوك، الأسبوع الماضي، أنه يعتزم تسريح أكثر من 11 ألف موظف، في ما اعتبره "أصعب التغييرات في تاريخ الشركة"، التي عزاها إلى تداعيات جائحة كورونا، و"الانكماش الاقتصادي".

وقال زوكربيرج في رسالة إلى موظفي "ميتا": "أخبركم اليوم عددًا من أصعب التغييرات التي أجريناها في تاريخ ميتا. لقد قررت تقليل حجم فريقنا بنحو 13%، وترك أكثر من 11 ألفاً من موظفينا الموهوبين يذهبون".

وتابع: "نتخذ أيضًا عددًا من الخطوات الإضافية لنصبح شركة أصغر حجمًا وأكثر كفاءة، عن طريق خفض الإنفاق، مع استمرار تجميد التعيينات لدينا خلال الربع الأول من العام المقبل".

وأردف: "أريد أن أتحمل المسؤولية عن هذه القرارات، وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة. أعلم أن ذلك صعب على الجميع، وأعتذر بشكل خاص للمتضررين من هذه القرارات".

وقال زوكربيرج للموظفين إنه كان يتوقع استمرار الطفرة في قطاع التجارة الإلكترونية والنشاط عبر الإنترنت خلال الجائحة، لكنه أقر بأنه "أخطأ" في تقديره، ويتحمل مسؤولية ذلك.

ولفت إلى أن هذه التسريحات ستؤثر في مختبر الأبحاث بمجموعة ميتا، الذي يركز على "ميتافيرس"، إضافة إلى تطبيقاتها بما فيها "إنستجرام" و"فيسبوك" و"واتساب".

قانون التوظيف

وترى أوكونور، أن سرعة تسريح العمال من قِبل شركات التكنولوجيا العالمية، اصطدمت بمبادئ قانون التوظيف في المملكة المتحدة وأوروبا.

وهو ما أكده البروفيسور فاليريو دي ستيفانو، أستاذ القانون بجامعة يورك في تورونتو، بقوله: "في العديد من البلدان في جميع أنحاء أوروبا، تحتاج إلى إرسال تحذيرات إلى الإدارات العامة أو مجالس العمل أو النقابات العمالية، حتى إذا لم تكن الشركة منضمة إلى نقابات، يجب أن تكون لديك خطة تخفف الأثر الاجتماعي لقرارات التسريح".

وأوضح، أن هذه القوانين لا تمنع الشركات من تسريح العمال، لكن دورها هو التأكد من حدوثها بشكل عادل، مع التحذير المناسب، مضيفًا: "لكن ما تفعله شركات التكنولوجيا مؤخرًا من تسريح لعمالتها، يتم بشكل فج ومتعجل، ومن دون أي استشارة"، متابعًا: "مجرد شخص يقول للعامل: آسف، لن تستمر، وينتهي الأمر".

أما بالنسبة للموظفين، فتؤكد التجربة -حسب الكاتبة- حقيقة أن الديكتاتوريات الخيرية -في إشارة إلى شركات التكنولوجيا الكبرى التي كانت تقدم خدمات غير عادية لعمالها- يمكن أن تتغير، وتوقف ما كانت تقدمه لموظفيها.

ولتأكيد ذلك، أفادت بأن الذين احتفظوا بوظائفهم أبلِغوا بتغيير بعض الميزات التي كانوا يحصلون عليها، مشيرة إلى أن إيلون ماسك أبلغ موظفي "تويتر"، في أول بريد إلكتروني يرسله إليهم، بأن العمل عن بُعد لم يعد مسموحًا به، وأنه من المتوقع منهم أن يوجدوا في مكاتبهم 40 ساعة على الأقل في الأسبوع.

من جانبها، تأمل النقابات العمالية أن تساعدهم عمليات التسريح في طرح الحجة القائلة إن النقابات لا تتعلق فقط بمحاولة تحسين ظروف العمل السيئة، بل تتعلق أيضًا بالحصول على صوت حقيقي ومقعد على الطاولة داخل الشركات، للحفاظ على حقوق العمال.

وفي ذلك، يقول مايك كلانسي، الأمين العام لاتحاد بروسبكت البريطاني، إن الاتحاد لديه بعض الأعضاء في "تويتر" ويأمل تجنيد المزيد في قطاع التكنولوجيا.

ففي المملكة المتحدة، انضم العديد من مستخدمي الشركة إلى النقابات لحماية حقوقهم بشكل أفضل، قبل الإلغاء الجماعي للوظائف، وفق ما صرح به مايك كلانسي، الأمين العام لنقابة "بروسبكت" المهنية، الذي قال إن "تويتر يُعامل مستخدميه بشكل مريع".

الدرس الآخر الذي يجب تعلمه من قرارات التسريح الأخيرة -وفق أوكونور- هو عدم الانغماس في لغة احترام الذات بشأن "الحرب من أجل المواهب"، التي كانت منتشرة بكل مكان في قطاع التكنولوجيا حتى وقت قريب.

وتابعت: "هناك موهوبون في جميع مناحي الحياة، لكن ما يهم للأجر هو العرض والطلب"، لافتة إلى أن العمال ذوي الأجور المنخفضة في الولايات المتحدة حصلوا على زيادات كبيرة في الأجور بالقيمة الاسمية فقط هذا العام، لكن "لا أحد يسمي ذلك حربًا على المواهب، وإنما يسمونه نقص عمالة".

وأشارت إلى أنه ربما قدمت شركات التكنولوجيا امتيازات مذهلة، لكن الناس لا يحتاجون إلى وظائف تحقق أحلامهم بقدر ما يحتاجون إلى وظائف تعاملهم بشكل لائق، معلقة بالقول: "الأحلام تختفي بمجرد الاستيقاظ".