الصدمات النفسية.. الحلقة المفقودة في العلاج النفسي  

السبب الرئيس في هذه الحالات، تأخر التشخيص لأسباب عدة، منها تأخر مراجعة المختصين، أو عدم اقتناع الأهل بالتشخيص، أو عدم الالتزام بالخطة العلاجية، التي تحتاج إلى تعاون متبادل ومتابعة مستمرة

الصدمات النفسية.. الحلقة المفقودة في العلاج النفسي   

السياق

نادرًا ما يكون التطرق إلى الصدمات التي مر بها المراجع، خاصة أن فكرة زيارة الطبيب النفسي -بحد ذاتها- ما زالت تحديًا كبيرًا لدى عديد من الذين يعانون مشكلات نفسية أو اضطرابات نفسية أو مشكلات في الشخصية و السلوك، لأسباب عدة، من أهمها عدم رغبة المراجع في الحديث عن أمور مؤلمة مخيفة، وفي بعض الأحيان يعدها المراجع مخجلة.

رغم أن الذي يعاني الصدمة النفسية، يتعذب في صمت، يعاني معه المقربون منه، بسبب الأفكار السلبية وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين، لأنه في معظم الأحيان يفضل عدم البوح بالمشاعر والأحاسيس، ويفضل الانطوائية والابتعاد عن العلاقات الاجتماعية.

دراسات حديثة عدة، خلصت إلى أن نحو 5% إلى 10% يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة، وأن شخصين إلى خمسة أشخاص يعانون معهم نفسيًا واجتماعيًا.

يمكن أن تكون الصدمة النفسية، الحلقة المفقودة في علاج عديد من الاضطرابات النفسية المزمنة، التي لا تتجاوب مع العلاج، أو تتجاوب بشكل جزئي.

هناك عديد من الحالات، التي تتحسن بنسبة تصل من 50% إلى 60%، لكن تبقى هناك أعراض يعانيها الذي يعالَج من الاكتئاب أو الخوف، رغم تغير الدواء أو الجرعة او إضافة أدوية أخرى.

والسبب عدم تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة، لم تؤخذ الصدمة أثناء الاستشارة في الاعتبار عند وضع الخطة العلاجية.

كون التحرش والتنمر والإهمال العاطفي والعنف المنزلي، من الصدمات المزمنة، التي تؤثر بشكل كبير في بلورة شخصية الأطفال، لأنها من أهم مسببات اضطراب مابعد الصدمة وأصعبها علاجًا، لأن التشخيص -في معظم الأحيان- يكون متأخرًا، والمراجع يعاني اضطرابات مركبة، منها الاكتئاب والخوف والشخصية الحدية، واضطرابات أخرى في الشخصية، وفي بعض المجتمعات الاستخدام المفرط للمهدئات أو حتى الإدمان.

هناك أسباب عدة، منها التهديد والسجن وحوادث السير والحروب والكوارث الطبيعية وممارسة المهن الخطرة، أو حتى متابعة الأخبار أو مشاهدة مقاطع مخيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة عند الأطفال.

الأرق ومشكلات النوم، من أكثر الأعراض، التي تتسبب في كثير من معاناة المراجعين، إضافة إلى الأفكار السلبية وتفادي خيبة الأمل، وعدم الثقة بالنفس والخوف من الفشل، وعدم الثقة بالآخرين والشعور بالوحدة، وفقدان الحافز وعدم الثقة بالمستقبل، ومشكلات في التواصل مع الأسرة والعائلة.

وكذلك تراجع المستوى الدراسي، بسب الإحساس المفرط بالرفض وعدم التقبل، خاصة الأطفال والمراهقين، الذين يعانون مشكلات في التصرفات، خاصة الذين يعانون اضطرابات في الشخصية، أو فرط الحركة أو التوحد، فمن الممكن أن يكونوا عرضة -بشكل أكبر-  للصدمات النفسية، إذ تزداد عندهم أعراض الاكتئاب والخوف، وتصل لدرجة الهوس، بسبب تعرضهم للإهانة أو التنمر أو التعنيف، فتزداد معاناتهم ومعاناة أهلهم.

السبب الرئيس في هذه الحالات، تأخر التشخيص لأسباب عدة، منها تأخر مراجعة المختصين، أو عدم اقتناع الأهل بالتشخيص، أو عدم الالتزام بالخطة العلاجية، التي تحتاج إلى تعاون متبادل ومتابعة مستمرة.

ومن جهة أخرى عدم توافر الوعي الكافي عند الأهل أو الأقرباء، في كيفية التعامل مع تصرفات الأطفال وسلوكياتهم، خاصة عند بلوغهم سن المراهقة، ولجوئهم إلى العنف الجسدي أو اللفظي في التربية، والتعامل من الأهل أو حتى المربين.

لذلك علينا في كل مقابلة، تسليط الضوء على هذه الحلقة المفقودة في التشخيص والعلاج، خاصة عند عدم تجاوب المراجع مع الخطة العلاجية، وعلينا إعادة النظر في التشخيص، والبحث عن السبب الرئيس وعلاجه، وعدم الاكتفاء بعلاج الأعراض كالاكتئاب أو الخوف أو الهوس أو الإدمان

من المؤشرات النفسية، التي تدل على احتمال وجود صدمات نفسية خفية، لم يتطرق إليها العلاج، عدم الشفاء التام من الخوف أو الاكتئاب أو العصبية والتوتر المستمر وتغيير الدواء أو تغير الجرعات، أو استخدام أدوية عدة في الوقت نفسه، أو تغيير الطبيب والانتكاسات المتكررة.

وهناك اضطرابات في الشخصية، من الممكن أن تكون مؤشرًا على اضطرابات ما بعد الصدمة، وأن تكون سببًا إضافيًا في تأخر العلاج، أو عدم فعالية الخطة العلاجية، لذا يجب الانتباه إلى اضطرابات الشخصية، التي يمكن أن تكون مرافقة، أو سببًا في الاضطرابات النفسية.

ما يميز الذين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، إضافة إلى الاكتئاب والخوف، خاصة على مستوى العلاقات الاجتماعية، هو تفادي العلاقات الاجتماعية، وعدم عمل علاقات جدية أو جديدة، والبرود في التعامل، واللجوء إلى أسلوب النأي بالنفس، والسلبية وتفادي النقد ومحاولة إرضاء الآخرين، ما يتسبب في مشكلات وأزمات على المستويات الثلاثة: الشخصي والعائلي والمجتمعي، تصل لحد عدم الاكتراث وإهمال النفس.

معظم المراجعين، ليس لديهم اطلاع كافٍ على مدى تأثير الصدمات التي مروا بها في الطفولة والمراهقة، في تكوين شخصيتهم وسلوكهم ومزاجهم، وطريقة تفكيرهم وأسلوب تعبيرهم عن أحاسيسهم ومشاعرهم، ومن الصعب عليهم إدراك خطورة هذه الصدمات عليهم، وعلى عائلتهم وأطفالهم، وحتى على تحصيلهم العلمي وأدائهم الوظيفي والمهني ومكانتهم الاجتماعية.

قدرتنا على  تقديم العلاج المناسب والمستدام، المتمثل في تحسين مستوى المعيشة والاستمتاع بالحياة والتقليل من المعاناة، مرتبطة  بنشر الوعي بتأثير الصدمات النفسية بشكل عام، واضطراب ما بعد الصدمة النفسية بشكل خاص، وتأثير الصدمات النفسية في الطفولة والمراهقة، في الصحة النفسية وفي الشخصية، إذ يمكن أن تكون سبب معاناة  طوال العمر، إذا لم تتدارك ولم تعالج، حسب المعايير والمناهج الحديثة والمعتمدة وبشكل فعال.

________

د. آرام حسن 
استشاري طب نفسي و معالج نفسي مدرس جامعي مدير أكاديمية كوتيم