بعد فشل الغرب في حشد العالم ضد روسيا والصين... هل تتشكل حركة عدم انحياز جديدة؟
لم يستطع الغرب نيل ولاء نِصف الكرة الجنوبي، من خلال مناشدات التضامن الديمقراطي، يتعين عليه أن يناله من خلال تقديم السلع، ومن ثمّ فإن المناشدة الديمقراطية أرخص بكثير

ترجمات - السياق
رأت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، أن ظهور حرب باردة جديدة بين الغرب وروسيا، يؤذن بظهور حركة عدم انحياز جديدة، على غرار ما حدث إبان خمسينيات القرن الماضي، من قِبل عدد من الدول التي أرادت أن تنأى بنفسها عن صراعات الدول الكبرى حينها.
وبينت المجلة أن الحرب الروسية في أوكرانيا تسببت في انفصال العديد من الدول النامية عن الغرب، والإصرار على موقف محايد بين الجانبين، مشيرة إلى أن عددًا من الدبلوماسيين والمتخصصين في هذه الدول طالبوا بضرورة إنشاء "حركة عدم انحياز جديدة".
وأشارت إلى أنه في الوقت الذي فرضت فيه ديمقراطيات الغرب عقوبات متصاعدة على روسيا، وأدانت سلوكها في الأمم المتحدة، امتنعت دولتان من أكبر الديمقراطيات جنوبي الكرة الأرضية، الهند وجنوب إفريقيا، عن التصويت لإدانة الغزو، كما فعلت دول عدة في إفريقيا وجنوبي شرق آسيا، حيث امتنعت 58 دولة عن التصويت لطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، رافضين الانضمام إلى العقوبات، بل وأضعفوها بشكل كبير من خلال استمرار التجارة مع موسكو.
المبدأ الأهم
ورأت "فورين بوليسي" أن المبدأ الأساسي الذي يحكم الدول الآن، قدسية الحدود وسيادة الدولة، وهو المبدأ الذي داسته روسيا تحت أقدامها، في إشارة إلى غزوها لأوكرانيا.
ونقلت عن خورخي هاينه، الدبلوماسي التشيلي السابق الذي يدرس في جامعة بوسطن، قوله: "الانقسام بشأن أوكرانيا ليس بين الديمقراطية والاستبداد ولكن بين الشمال العالمي وجنوبه"، وهو ما عدته المجلة الأمريكية ضربة شديدة للغاية لحملة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة تنظيم النظام العالمي بشأن المنافسة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية.
وحسب المجلة الأمريكية، فإنه وفقًا لدبلوماسيين وخبراء في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوبي شرق آسيا -إضافة إلى قراءة أدبيات عدم الانحياز الجديد- أصبح واضحًا أن المطلب الغربي لتوحيد الصفوف في أوكرانيا لم يثر رد فعل بين العديد من الدول النامية.
وأشارت إلى أن الاستقطاب العالمي قد يضر بمصالح الدول النامية أو تلك التي تسعى للاستقلال الاقتصادي، رغم محاولات المعسكرين الشرقي والغربي المستمرة لاستمالة تلك الدول المحايدة، مضيفة: "الدول الرائدة في العالم النامي لا تريد فقط أن تختار جانبًا في حرب باردة جديدة لكنها أيضًا -والأهم من ذلك بكثير- لا تشعر بأنه يتعين عليها ذلك".
وذكرت أن حركة عدم الانحياز حين اجتمعت لأول مرة في باندونغ بإندونيسيا عام 1955، كانت أكثر أيديولوجية من اللحظة الراهنة، إذ حملت في طياتها -بالنسبة لشخصيات بارزة مثل جواهر لال نهرو من الهند وكوامي نكروما من غانا- ليس فقط تجنُّب التبعية لواشنطن أو موسكو ولكن أيضًا اتباع مسار اشتراكي بين المياه الضحلة للرأسمالية والشيوعية، كما أرضت الفكرة التطلعات القومية للدول الاستعمارية السابقة لتحرير نفسها من القوى الغربية.
مع ذلك -تضيف المجلة الأمريكية- جعلت الأيديولوجيا حركة عدم الانحياز بلا أهمية، وقد أدى طلب إنشاء (نظام اقتصادي دولي جديد) و(نظام معلوماتي دولي جديد) في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى إقناع الغرب، في عصر مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أمريكا، بأن ما كان يُعرف بـ"العالم الثالث" قد بات أسيرًا لكوبا والدول الراديكالية الأخرى ويتعين مواجهته أو ببساطة تجاهله، إلا أنه سرعان ما بات يُنظر إلى المسار الاشتراكي باعتباره ميتًا حتى من جانب معظم العالم النامي.
ورأت المجلة الأمريكية، أن الأيديولوجيا القديمة لم تختفِ تمامًا، لافتة إلى أنه قبل نحو عقد من الزمن، أصدرت مجموعة من المفكرين السياسيين البارزين في الهند ورقة بيضاء بعنوان (عدم الانحياز 2)، تنبأت بأن يُحدد نجاح الهند كديمقراطية مزدهرة متعددة الإثنيات، إمكانات المستقبل للجنس البشري.
وبينت، أن الهند لا تزال (منبع نظرية عدم الانحياز)، لكن من دون التطلعات العظيمة التي تلاشت إلى جانب ديمقراطيتها متعددة الأعراق، مشيرة إلى أن وزير الخارجية الهندي، سوبرامنيام جايشانكار، نشر عام 2020، كتابًا بعنوان "طريق الهند"، جادل بواقعية صريحة، بأنه في (عالم الكل ضد الكل)، يتعين على الهند السعي وراء مصالحها من خلال الاستفادة من التنافس بين القوى الكبرى للحصول على أقصى قدر من المزايا لنفسها.
الروح الجديدة
ورأت "فورين بوليسي" أن ما سمتها (روح عدم الانحياز الجديدة) تُعد براغماتية وذاتية، رغم أنها عادة ما تكون مصحوبة بشكاوى مريرة بشأن غزو العراق وتقليص المساعدات التنموية والاتفاقيات التجارية المتحيزة وغيرها من خطايا الغرب الماضية والحالية، لافتة إلى أن الحرب في أوكرانيا لم تكن هي التي بلورت المعادلة الجديدة، بل الصعود اللافت للصين.
وأشارت إلى أن مبدأ (صعود الصين) كان لازمًا في جميع المحادثات مع المختصين، إذ أشار أديكيي أديباجو، مسؤول حفظ السلام السابق بالأمم المتحدة، الباحث بجامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، إلى أن الصين أصبحت أكبر شريك تجاري لإفريقيا قبل عقد من الزمن، وأن الفجوة بين الدور الذي تلعبه بكين والدور الذي يلعبه الغرب لا تزداد إلا اتساعًا بمرور الزمن.
بينما أشار خورخي هاينه إلى أنه رغم أن الوقوف إلى جانب الغرب في الحرب الباردة وفر مزايا رئيسة في التجارة والمساعدات، فإن المزايا الآن تمضي في الاتجاه المعاكس، مضيفًا: "حين يأتي مسؤولو بايدن إلى أمريكا اللاتينية، تكون الرسالة هي (احذروا من الصين)، وحين يذهب المسؤولون الصينيون إلى أمريكا اللاتينية، فإنهم يتحدثون عن الجسور والأنفاق والسكك الحديدية، ومن ثمّ يمكنك أن تتخيل أي النهجين يُستقبَل بشكل أفضل من الآخر".
وتساءلت المجلة الأمريكية، هل دبلوماسيو إدارة بايدن يقدمون المطالب الصفرية نفسها التي كان يقدمها دبلوماسيو فريق الرئيس السابق دونالد ترامب؟، واستشهدت بما صرح به وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في خطابه الأخير عن الصين، بأن واشنطن لا "تسعى لمنع الصين من ممارسة دورها كقوة رئيسة" ولا "تجبر الدول على الاختيار" بين القوتين الكبيرتين.
وبينت أنه إذا كانت إدارة بايدن، مثلما قال بلينكن، تريد منح البلدان "خيارًا"، فإن الغرب لم يخدم قضيته من خلال التدافع المسعور لحبس لقاحات كورونا وعدم تقديم تمويل كبير لجهود التأقلم مع التغير المناخي في العالم النامي، بينما في المقابل أغدقت الصين على العالم النامي عشرات المليارات في صورة تمويلات للبنية التحتية من خلال مبادرتها "الحزام والطريق".
وأضافت أنه بخلاف ذلك، فإن لدى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الآن 105 أعضاء ويملك رأس مال بـ100 مليار دولار، مشيرة إلى أنه من خلال محاولات الغرب اللحاق بالركب متأخرًا، أعلن بايدن الأسبوع الماضي عن صندوق بنية تحتية عالمي بـ 600 مليار دولار بدعم غربي.
لعبة الصين
وقالت "فورين بوليسي": "في لعبة الصين الطويلة، يوفر الصعود المستمر للجنوب كمركز قوة اقتصادية والتراجع النسبي للغرب ضمانة ضد ذلك النوع من المواجهة التي يُنظمها الغرب حاليًا ضد روسيا"، مشددة على أنه طالما كانت الصين صديقة لحركة عدم الانحياز، ولو أنها ليست عضوة بها، إلا أنها تشجع على نهوض الحركة بنشاط وحماسة.
وأمام ذلك، ترى المجلة الأمريكية، أنه بطبيعة الحال، من شأن عدم الانحياز الحقيقي أن يؤدي إلى الابتعاد عن واشنطن وبكين، لافتة إلى أن إحدى طرق التفكير بشأن المبدأ الجديد أن كثيرًا من الدول التي تخشى الصين كفاعل جيوسياسي وتستمر في السعي للحصول على الأمن من التحالفات الغربية، تعد الصين في الوقت نفسه شريكًا تجاريًا لا يمكن الاستغناء عنه.
وأشارت إلى أن دعم الصين النشط لروسيا لم يلق إعجابًا في العواصم التي رفضت الهجوم الروسي على أوكرانيا، فمن بين بلدان الأمم المتحدة الأعضاء البالغ عددهم 193، صوت 141 بلداً لصالح إدانة الهجوم، وجاء التصويت على إبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان بـ 93 مقابل 24 صوتًا.
وحسب تعبير كانتي باغباي، الباحث بجامعة سنغافورا الوطنية، فإنه قد يكون الدرس الأهم لبايدن أن التمييز بين الديمقراطية والاستبداد لن يثير كثيرًا من الدعم والصداقة في نِصف الكرة الجنوبي.
ولفت باغباي إلى أن بايدن اكتشف ذلك بنفسه، حين رفض دعوة الدول التي تصفها واشنطن بالمستبدة -كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا- إلى قمة الأمريكيتين التي عقدت في مدينة لوس أنجلوس الشهر الماضي، إذ حضر فقط 23 من أصل 35 رأس دولة، وشمل الغائبون رؤساء المكسيك وبلدان المثلث الشمالي والعديد من البلدان الكاريبية.
وقال بايدن للحضور حينها: الديمقراطية ليست فقط سمة مميزة لتاريخ الأمريكيتين، بل أيضًا مكون مهم لمستقبلهما، وتعليقًا على ذلك، ترى المجلة الأمريكية أن مستمعيه الديمقراطيين ربما اختلفوا معه في صمت.
اندماج الغرب
ورأت "فورين بوليسي" أن ما حدث منذ بدء الهجوم الروسي هو التحام الغرب وتشرذم البقية، فالبلدان التي تنظر إلى نفسها كضحايا للنظام العالمي، بقدر ما هي مستفيدة منه لا يمكن أن يتوقع منها أن تشاطر الغرب ذلك الرأي، ووفقًا إلى ما كتبه مستشار الأمن القومي الهندي السابق، شيف شنكار مينون، في مجلة فورين بوليسي الأمريكية، فإن النظام القائم لا يعالج حاجات هذه الدول الأمنية، أو مخاوفها الوجودية بشأن الغذاء والماليات، أو التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل التغير المناخي.
وأشارت المجلة، إلى أنه "إن لم يستطع الغرب نيل ولاء نِصف الكرة الجنوبي، من خلال مناشدات التضامن الديمقراطي، يتعين عليه أن يناله من خلال تقديم السلع، ومن ثمّ فإن المناشدة الديمقراطية أرخص بكثير".
وبينت أنه مع عدم إصلاح مجلس الأمن، ليكون أكثر عدلاً في تمثيل توزيع القوة العالمية، فإن الدول الصاعدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ستواصل السعي وراء مصالحها الاقتصادية الذاتية، حتى في الوقت الذي تتطلع فيه للحصول على الحماية من الولايات المتحدة والغرب.