اليورو الرقمي... هل يرى النور رغم الصعوبات؟

العملة التي لم تخرج للنور، واجهت احتجاجات من مئات الأشخاص، خلال تظاهرة شهدتها مدينة أمستردام بهولندا، أوائل فبراير الماضي

اليورو الرقمي... هل يرى النور رغم الصعوبات؟

ترجمات - السياق

بينما تتصارع القوتان العالميتان -الولايات المتحدة والصين- على احتكار أدوات الدفع الرقمي، لم يكن أمام الاتحاد الأوروبي سوى الإسراع في إصدار عملته الرقمية، فهل ينجح في إيجاد مكان له، أم أن خوف المؤسسات المصرفية التجارية من أن تتلاشى ودائع عملائها لفائدة المحافظ الافتراضية، بعد صدور "اليورو الرقمي" قد يُعيق ذلك؟

فها هو البنك المركزي الأوروبي، يُمضي قدمًا في تطوير العملة الإلكترونية، حتى في الوقت الذي يُشكك السياسيون في هدفها.

وأوضحت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أن العملة "التي لم تخرج للنور"، واجهت احتجاجات من مئات الأشخاص، خلال تظاهرة شهدتها مدينة أمستردام بهولندا، أوائل فبراير الماضي، حيث وجهوا حنقهم على شيء غير موجود (اليورو الرقمي).

وأعرب المتظاهرون عن مجموعة من الاعتراضات على خطة البنك المركزي الأوروبي، لإصدار نسخة إلكترونية من العملة الموحدة للقارة، فهناك من يخشون أن تستخدمها الدولة لتتبع إنفاقهم والسيطرة عليه، بينما شك آخرون في مؤامرة لاستبدال الأموال النقدية.

بينما قالت إحدى المتظاهرات لوسائل إعلام هولندية، إنها تخشى أن تمنعها السلطات من شراء اللحوم أو الكحول.

لكن ما زاد سخونة الأوضاع، أن ويليم إنغل -منظم الحدث الذي كان زعيمًا للمعارضة الهولندية للقاحات كورونا- طالب خلال التظاهرة بـ "تجنُّب الشركات التي لا تقبل النقد".

 

نظريات المؤامرة

وأشارت "فايننشال تايمز" إلى أن هذا المزيج من الشكوك ونظريات المؤامرة بشأن اليورو الرقمي، يأتي في لحظة حساسة للغاية بالنسبة لسياسيي البنك المركزي الأوروبي ومنطقة اليورو.

فمن ناحية، هم حريصون على تكثيف الاستعدادات للعملة الرقمية خلال الأشهر المقبلة، على أمل إطلاقها في أقل من ثلاث سنوات، وفي الوقت نفسه، يكافحون أيضًا لإيصال حجج مقنعة لأهمية استخدامها.

وذكرت الصحيفة، أنه رغم أن الصين تمتلك أكثر الخطط تقدمًا لعملة رقمية للبنك المركزي بين الاقتصادات الأكبر، فإن أوروبا الأبعد بين البنوك المركزية الغربية الرئيسة.

فقد تبنت كريستين لاغارد المشروع، منذ توليها منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي عام 2019 من الإيطالي ماريو دراغي، الذي لم يهتم بالفكرة حينها.

ومن المتوقع أن تعلن المؤسسة، التي تتخذ من فرانكفورت مقرًا لها في أكتوبر المقبل، أنها ستنتقل إلى مرحلة التنفيذ وتبدأ مخططًا تجريبيًا.

إلا أن لاغارد توقعت أن يكون البنك المركزي الأوروبي مستعدًا لاتخاذ القرار النهائي، بشأن إطلاق اليورو الرقمي بين عامي 2026 و2027.

ومن المقرر أن تضع المفوضية الأوروبية -هذا الصيف- مقترحات تشريعية تحدد بعض ميزات التصميم الرئيسة للعملة المفترضة، وهي خطوة بارزة نحو هذا الهدف.

وحسب الصحيفة البريطانية، يرى مؤيدو المشروع أنه سيحدث المدفوعات الأوروبية، من خلال منح الناس بديلاً إلكترونيًا للنقد لا ينطوي على مخاطر ومقبول عالميًا.

ونقلت عن فابيو بانيتا، عضو مجلس الإدارة التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، الذي يشرف على عمل اليورو الرقمي، قوله: "نحن بحاجة إلى أصل خالٍ من المخاطر غير العملة الموحدة".

 

غيرة أوروبية

وأرجعت "فايننشال تايمز" الاهتمام الأوروبي بالعملة الرقمية الجديدة (اليورو الرقمي) إلى غيرتها الشديدة من هيمنة الدولار الأمريكي على السوق العالمي، ولذلك فإن الأوروبيين حريصون على إيجاد طرق جديدة لتعزيز وزن اليورو على مستوى العالم.

لكن ليس الدولار وحده الذي يخيف الأوروبيين، إذ إن العملة الرقمية الصينية ستسمح لبكين بتوسيع دورها عالميًا.

ومثل البنوك المركزية الأخرى، يشعر البنك المركزي الأوروبي بالقلق أيضًا من أن العملات الرقمية الخاضعة للرقابة الخاصة ستكتسب قوة دفع في النظام المالي العالمي، حيث يتجنب المستهلكون النقد بشكل متزايد.

ومع ذلك، هناك أسئلة متزايدة بين المستهلكين والممولين والسياسيين، عما يهدف المشروع إلى تحقيقه، وما إذا كانت المخاطر المحتملة تفوق الفوائد.

وحسب الصحيفة البريطانية، نمت هذه الأسئلة فقط مع تلاشي التهديد المباشر من العملات المشفرة، جنبًا إلى جنب مع انخفاض قيمة البيتكوين وغيرها من أشكال المال المنافسة.

وبينما يصعب على صانعي السياسات شرح التفاصيل الدقيقة لعملات البنك المركزي، يعتقد كثيرون أنهم يستخدمون الأموال الرقمية من خلال بطاقة الدفع اللا تلامسية، أو تطبيق الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، بدلاً من النقد.

أمام ذلك، يخشى بعض صانعي السياسة الأوروبيين أن يقوض الفشل في تقديم حجة واضحة لليورو الرقمي، المشروع قبل أن يولد، وأن يُنظر إليه على أنه حل لا يعرف المشكلة التي يحلها.

وعن أهمية إصدار هذه العملة، نقلت الصحيفة البريطانية عن إجنازيو أنغيلوني، مسؤول سابق في البنك المركزي الأوروبي، وهو الآن أستاذ غير متفرغ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، قوله: "لا أرى أي إخفاقات كبيرة في السوق تتطلب من القطاع العام التدخل وتوفير يورو رقمي".

وبينت "فايننشال تايمز" أن فكرة إنشاء يورو رقمي ظهرت لأول مرة قبل بضع سنوات، كرد دفاعي على فكرة "فيسبوك" بإطلاق عملة افتراضية خاصة بها، يخشى صانعو السياسة أنها قد تقوض سيطرة البنك المركزي الأوروبي على المعروض النقدي.

ورغم تلاشي العملة الرقمية الخاصة بوسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية، المعروفة في البداية بـ "ليبرا" ثم "ديم"، فإن البنك المركزي الأوروبي يمضي قدمًا في خططه لإصدار عملته الرقمية.

وترى الصحيفة البريطانية، أن الدافع الرئيس للبنك المركزي الأوروبي، من إصدار هذه العملة، انخفاض استخدام النقد، الذي انخفض من 79 في المئة من جميع معاملات نقاط البيع في منطقة اليورو عام 2016 إلى 59 في المئة العام الماضي، وفقًا لمسح البنك المركزي.

كما انخفضت نسبة الذين يفضلون الدفع نقدًا من 32 في المئة إلى 22 في المئة، في السنوات الست الماضية.

ويعتقد مسؤولون أوروبيون، أن النقد يعمل كقوة استقرار مهمة في النظام المالي، من خلال منح الناس إمكانية الوصول إلى وسيلة دفع غير مجازفة، لأنها مدعومة من البنك المركزي، مشيرين إلى أن "الناس يسعدون بإيداع الأموال في البنوك التجارية جزئيًا، لأنهم يعرفون أن بإمكانهم سحبها كنقد في أي وقت".

وتبين الصحيفة البريطانية، تصميم اليورو الرقمي للحفاظ على هذا الدور مع انخفاض استخدام النقد.

وفي ذلك، يقول فابيو بانيتا: "رقمنة المجتمع تعني أن كل شخص يريد الدفع رقميًا، لكن لا توجد وسيلة دفع رقمية واحدة يمكنك استخدامها في كل مكان بمنطقة اليورو"، مشيرًا إلى التحكم في فيزا أو ماستركارد من قِبل شركات غير أوروبية وتستخدم على نطاق واسع، لكن متاجر عدة لا تقبلها، مضيفًا: "حتى النقود غير مقبولة في بعض الأماكن".

وحسب الصحيفة، يشعر صانعو السياسة بالقلق من أن أوروبا تفتقر إلى عملتها الرقمية الخاصة، ما يضطرها إلى الاعتماد بشكل مفرط على فيزا وماستركارد وباي بال، وأحيانًا آبل التي أطلقت مؤخرًا حسابات توفير وبطاقة ائتمان بالشراكة مع غولدمان ساكس.

تزيد هذه المخاوف مع انخفاض استخدام النقد، وتوجه بعض الأشخاص نحو وسائل أخرى للدفع، بما في ذلك العملات المستقرة، وهي رموز رقمية مدعومة بعملة ورقية، أو عملات رقمية أطلقتها دول أخرى، مثل الرنمينبي الرقمي الصيني.

ومن ثمّ يحرص البنك المركزي الأوروبي على تأكيد أن "اليورو الرقمي مكمل للنقد وليس بديلاً له".

ومن المقرر أن تُعرض على المستهلكين فرصة شراء اليورو الرقمي، من خلال البنوك التجارية الخاصة بهم، بدلاً من الشراء المباشر من البنك المركزي الأوروبي.

 

استجابة فاترة

وبينت "فايننشال تايمز" أن القطاع المصرفي أبدى استجابة فاترة للفكرة، إذ يشعر المسؤولون التنفيذيون بالقلق من أن اليورو الرقمي سيقلل عمليات البنوك الاعتيادية.

ويحذر الاتحاد المصرفي الأوروبي من "مخاطر كبيرة بالنسبة للبنوك بسبب التحول المحتمل لأموال كبيرة محتفظ بها حاليًا كودائع بنكية إلى حسابات/ محافظ باليورو الرقمية".

ولمواجهة ذلك، يفكر البنك المركزي الأوروبي في فرض حد على عدد اليورو الرقمي، الذي يمكن لأي شخص الاحتفاظ به، بنحو 3000 يورو، أو سعر فائدة عقابي على الممتلكات التي تزيد على مستوى معين.

لكن آخرين يرون أن المشروع معيب بشكل خطير، محذرين من أن البنك المركزي الأوروبي قد يضطر لإضافة مزيد من عمليات التعقيد على الحسابات البنكية، من خلال إنشاء نظام مدفوعات مكرر لا يستخدمه إلا اليورو الرقمي.

ويخشى المصرفيون الاضطرار إلى تحمل تكاليف هذا المشروع، خاصة أن البنك المركزي الأوروبي قال إن المدفوعات الأساسية باليورو الرقمي، يجب أن تكون مجانية.

ولأهمية ذلك، تناقش مجموعة اليورو -التي تعقد اجتماعات وزراء مالية الدول التي تشترك في اليورو- هذا الموضوع بشكل مكثف جنبًا إلى جنب مع البنك المركزي الأوروبي منذ عام 2021.

وقد هيمنت الجوانب الفنية على المناقشات السياسية، حيث يكافح الوزراء للسيطرة على مشروع يعدونه "معقدًا للغاية".

وأوضحت الصحيفة البريطانية، أن أبرز تحدٍ يواجهه وزراء المالية في دول اليورو، إمكانية إقناع المواطنين بهذا المشروع، خصوصًا أنه ليس مطلوبًا في الوقت الحالي.

وتعليقًا على ذلك، أبلغت وزيرة المالية الهولندية سيغريد كاغ، زملاءها خلال اجتماع خاص في مارس الماضي، بأنه من الصعب تقديم تفسير للمواطنين عن سبب الحاجة إلى اليورو الرقمي في الوقت الحالي، مشددة على أنه "من دون خروج السياسيين وشرح فوائد العملة للمواطنين بشكل ملموس، لن يمرر المشروع الجديد".

وللمضي قدمًا في إصدار العملة الجديدة، تعد المفوضية الأوروبية مشروع قانون، يهدف إلى توفير الإطار القانوني الذي يقوم عليه اليورو الرقمي.

ولكن، ما يعيق ذلك، كيفية وضع قيود على حسابات اليورو الرقمية، فضلًا عن معالجة مخاوف الخصوصية، التي قد تكون أكبر عائق أمام إصدار العملة الجديدة.

ويهدف البنك المركزي الأوروبي إلى معالجة مخاوف الخصوصية -الشاغل الرئيس لأكثر من 40 في المئة من المشاركين في الاستشارة الأولية- من خلال إبقاء هويات المستخدمين منفصلة عن بيانات الدفع، ما لم يكن هناك اشتباه في نشاط إجرامي.

ولكن، نظرًا لانتشار العملات الرقمية المدعومة من الحكومات في جميع أنحاء العالم، يشعر المسؤولون الأوروبيون بأنه ليس لديهم خيار آخر سوى المضي قدمًا في إصدار العملة الرقمية الموحدة.

ومن المعوقات التي تقف حائلا أمام إصدار العملة الرقمية الأوروبية "توقيت الإصدار"، فبينما تتمتع السويد بأدنى مستويات استخدام النقود في العالم -حيث يستخدمها ثلث السكان فقط بشكل منتظم، بعد أن كانت 80 في المئة تقريبًا عام 2016، فإن أغلبية دول القارة لا ترى حاجة ماسة لإصدار هذه العملات في الوقت الحالي، حسب الصحيفة.

وترى "فايننشال تايمز" أنه "إذا أصر البنك المركزي الأوروبي على المضي قدمًا في التعامل مع اليورو الرقمي، فإنه سينتظر ما يفعله الآخرون، إذ إنه على عكس الولايات المتحدة -التي تستفيد من المركز المهيمن للدولار في التجارة الدولية والاحتياطيات- فإن اليورو في وضع أضعف".

وأشارت إلى أنه مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، يشعر مسؤولو البنك المركزي الأوروبي بعدم الارتياح لمدى اعتماد أوروبا على الشركات الأجنبية في كثير من أنظمة المدفوعات الخاصة بها، حتى لو كان كثير منها في الولايات المتحدة، الحليف الوثيق للاتحاد الأوروبي.