انفتاح وإسقاط ديون ومزادات... هل ينجح السودان في وقف نزيف الجنيه؟!
بات الجنيه السوداني في وضع لا يحسد عليه، بعد أن وصل سعره إلى 500 جنيه مقابل الدولار الأمريكي، ما صعَّب الأمور أكثر وأكثر على المواطني

السياق
الانفتاح على العالم، كان السياسة التي اتخذتها حكومة ما بعد عصر عمر البشير الإخواني، في السودان، فتم قبول كل شروط صندوق النقد الدولي، أملا في إصلاح اقتصادي متردٍ، دفع ثمنه السوداني البسيط، مشقة فوق مشقة، في ظِل وضع اقتصادي صعب بالأساس، فضلاً عن بعض القرارات السياسية الأخرى، التي تؤكِّد الانفصال التام عن السياسة، التي كان يتبعها نظام البشير في ما يخص التعامل مع المتطرفين والإرهابيين.
وتحمَّل السوداني، كل ذلك، أملاً في الخروج من عنق الزجاجة، إلا أن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وبات الجنيه السوداني في وضع لا يحسد عليه، بعد أن وصل سعره إلى 500 جنيه مقابل الدولار الأمريكي، ما صعَّب الأمور أكثر وأكثر على المواطنين، بعد أن أدى ذلك إلى ارتفاعات جنونية، في أسعار السلع والمواد الغذائية والوقود، ومناحي الحياة كافة.
المتتبع للشأن السوداني، لن يستغرب سوء الوضع الاقتصادي الراهن، خصوصًا حينما يعلم أن الانفتاح على العالم وقبول شروط صندوق النقد، لم يكنا كافيين لتحسين الاقتصاد المتردي من الأساس، وإنما كان على الداخل أن يحسن التصرُّف في بعض الأمور، خصوصًا الامتناع عن المضاربات من قِبلِ تجار العملة، لأن الانهيار تلى استقرارًا لم يدم طويلا -ربما شهرين فقط- إثر إعلان الحكومة السودانية تعويم الجنيه، في فبراير الماضي، كما أنه يأتي، بعد فتح البلاد للتعاملات مع الخارج.
تعويم وكورونا
التعويم وشروط الصندوق لم يكنا وحدهما سبب انهيار الجنيه السوداني، رغم رفع العقوبات الأمريكية عن هذا البلد العربي، وإنما عوامل أخرى أبرزها: انتشار فيروس كورونا، الذي أوقف اقتصاد العالم أجمع، وليس السودان فقط، ما دفع وزارة المالية إلى التقليل من حجم المخاوف من انهيار الجنيه، وقالت في بيان، إنها قادرة على تلبية احتياجات السودانيين، الراغبين في السفر والعلاج من العملة الأجنبية، إلا أن محللين سودانيين رفضوا هذا التبرير، واعتبروا أن قرار البنك المركزي السوداني، بوضع سعر جديد في فبراير الماضي، قدَّره بـ 377 جنيهاً للدولار، بعد أن كان سعره 55 جنيهاً، كان القشة التي أتت على ما تبقى من قيمة العملة السودانية، أمام العملات الأخرى، خصوصًا الدولار.
ولتدارك الموقف سريعًا، لجأ البنك المركزي السوداني إلى تنظيم مزادات عدة، لتوفير العملة الصعبة، آخرها كان في أول يونيو الجاري، إلا أن محللين اعتبروها خطوة نحو تكريس الاحتكار، ولن تقدِّم سوى مزيد من ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه.
كان اقتصاد السودان، يعتمد على إنتاج النفط، فمنذ انتهاء الحرب الأهلية التي دامت عقدين من الزمن واكتشاف حقول النفط، كان الاقتصاد السوداني يتوسع باطراد، ومع ذلك، لا يزال الكثير من السكان يعتمدون على الزراعة التقليدية، إلا أنه بعد استقلال جنوب السودان، عام 2011، وما تبع ذلك من خسارة ثلثي احتياطيات النفط، تباطأ النمو الاقتصادي مجددًا.
تطبيع وانفتاح
على مدى عقود، حافظت الحكومة السودانية، على موقف عدائي مع إسرائيل وحلفائها، وفي عام 1989، أعلن السودان، بقيادة الجنرال عمر حسن البشير، الحرب رسمياً على إسرائيل، منذ ذلك الحين جعلت تطورات عدة، تحسين العلاقات أمرًا صعبًا، وظلت الشكوك هي القاعدة، حيث ساءت العلاقات تمامًا، بعد إقامة أسامة بن لادن في السودان، كضيف على الحكومة السودانية، عام 1993، على سبيل المثال، ثم ما لبثت الولايات المتحدة أن وضعت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لكن في السنوات القليلة الماضية، شهدت العلاقات بين إسرائيل والسودان تحولًا كبيرًا إلى علاقات أكثر ودية، ما يدل على ارتفاع الاتصالات الرسمية بين الحكومتين على أعلى مستوى.
فبعد أن قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع إيران، عام 2016، اقترح وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، أن تنظر الحكومة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وكانت هذه المرة الأولى التي يذكر فيها مسؤول سوداني علناً، علاقة محتملة مع إسرائيل.
إثر ذلك زاد الزخم بشكل أكبر، عندما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير 2020 رئيس مجلس السيادة السوداني اللواء عبد الفتاح البرهان، واتفقا على تعزيز تطبيع العلاقات الثنائية. بعد ذلك بوقت قصير، سمحت الحكومة السودانية لأول طائرة إسرائيلية، بعبور المجال الجوي السوداني.
بالتزامن مع ذلك، أظهرت العلاقات الأمريكية السودانية بعض التطورات الإيجابية، ففي ديسمبر 2020، أزالت الولايات المتحدة السودان رسميًا من قوائم الإرهاب.
جاء ذلك، في أعقاب موافقة السودان على دفع تعويضات بنحو 335 مليون دولار لعائلات ضحايا تفجيرات عام 1998 لسفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا.
فوائد الانفتاح
قد تكون للتحول في موقف السودان، تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، علاقة كبيرة بالمنطق الاقتصادي، ففي عام 2019، بلغ معدل التضخم في الاقتصاد السوداني 170 بالمئة.
ومع تكثيف الحكومة السودانية جهودها، لإيجاد حل دولي لإنعاش اقتصادها المتعثر، شكَّل وجودها في قائمة الإرهاب عقبات، في سعيها للحصول على إعفاء من الديون والقروض الخارجية، من المؤسسات النقدية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
فقد كان إدراج السودان كدولة راعية للإرهاب، كابوساً، خصوصا في ظل ظروفها الاقتصادية، التي طال أمدها، فقد تم تقييد الاستثمار الأجنبي، والتجارة مع الدول الأخرى إلى حد كبير.
واعتُبرت إزالتها من هذه القائمة، النواة الأولى لبدء مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادي، وتمهيدًا للطريق لإعادة اندماج السودان في الاقتصاد العالمي، بعد عزله ما يقرب من ثلاثة عقود.
وبالفِعل، فإن إزالة السودان من قائمة الإرهاب، أتاح له على الفور فرصًا للحصول على قروض دولية. ففي أكتوبر 2020، أكدت وزيرة المالية السودانية هبة محمد، أن البلاد ستتلقى مساعدة مالية من الولايات المتحدة، كما وافق صندوق النقد الدولي، على برنامج الإصلاح الاقتصادي في السودان، ما يسمح لها بالحصول على إعفاء من الديون، والمضي قُدُمًا في إعادة بناء اقتصادها المنهك.
ديون السودان البالغة 60 مليار دولار تحت المجهر في اجتماع باريس للاستثمار
مؤتمر باريس
كل ما فات، كان لاشك مقدمة للوصول إلى مؤتمر باريس في مايو 2021، من أجل رفع بعض الديون عن السودان، التي تقدَّر بنحو 50 مليار دولار، فضلاً عن دعم اقتصاده المنهار، وتم الاتفاق على قرض فرنسي بـ 1.5 مليار دولار، كمحاولة لمساعدة السودان في سداد ديونه، بينما طالب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بإعفاء السودان من الديون مع نادي باريس "أكبر دائن" للبلاد وتمثِّل ديونه نحو 38 بالمئة من ديون السودان البالغة 60 مليار دولار.
كما ساهمت السعودية بدعم السودان، عبر تقديم منحة بـ 20 مليون دولار، للمساهمة في تغطية جزء من الفجوة التمويلية للسودان، لدى صندوق النقد الدولي.
في المقابل، يرى مراقبون أن تنفيذ مقررات باريس، له شروط، أهمها أن تكون لدى الدولة المدينة خُطة استراتيجية واضحة، لإزالة الفقر، فضلاً عن تحول ديمقراطي حقيقي، وهي أمور تحتاج لوقت ليس بالقليل.. فهل ينجح السودان في تحقيق ذلك، ونرى سودانًا جديدًا خلال أشهر أو عام من الآن، أم أن المستقبل لن يختلف كثيرًا عن الحاضر؟!