الحرب الثقافية.. كيف فهم أردوغان مزاج الناخبين ووصل إلى الإعادة؟
ما أقدم عليه أردوغان -طوال عقدين من حكمه- كان له عظيم الأثر بشأن دخوله جولة الإعادة أمام ممثل المعارضة كمال كليجدار أوغلو، في الانتخابات الرئاسية

ترجمات - السياق
عقدان من الزمن، كانا كفيلين بأن يغيرا ثقافة دولة ويحولا مصيرها، ويحملاه من مسار ليضعاه في آخر، كل ذلك على يد رجب طيب أردوغان، الذي ترك بصمته في كثير من مناحي الحياة بتركيا، سواء بالقمع أم بالتحايل الثقافي، هكذا تقول "واشنطن بوست".
وتؤكد الصحيفة الأمريكية، أن ما أقدم عليه أردوغان -طوال عقدين من حكمه- كان له عظيم الأثر بشأن دخوله جولة الإعادة أمام ممثل المعارضة كمال كليجدار أوغلو، في الانتخابات الرئاسية التي جرت الأحد الماضي، رغم تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي التي سبقتها.
كيف ذلك؟
ترى "واشنطن بوست" أن تقدم أردوغان في الانتخابات، يعود لسنوات حكمه الطويلة، التي مكنته من "تعزيز قوته الناعمة، وفهم دقيق لمزاج الناخبين، والاستفادة من سلطته الهائلة ونفوذه للقيام بحروب ثقافية وشيطنة للمعارضة".
وبينت، في تحليل للكاتب إيشان ثارور، أنه رغم "نزاهة الانتخابات"، فإن "القيود المستمرة على الحريات الأساسية في التجمع، وتكوين الجمعيات والتعبير عن الرأي، أعاقت مشاركة بعض السياسيين والأحزاب المعارضة، والمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة في العملية الانتخابية".
وأشارت إلى أنه قبل يوم واحد من الانتخابات التركية، شعر النقاد والمحللون الليبراليون -داخل البلاد وخارجها- بإمكانية حدوث نقطة تحول تاريخية.
ونوهت إلى أنه بعد عقدين في السلطة، بدا أردوغان ضعيفًا، إذ تضاءلت صورته عن القيادة الكفؤة والمستقرة، بسبب سنوات من الخلل الاقتصادي، ورد الفعل الغاضب على الإدارة السيئة، والفساد الذي أعقب زلزال 6 فبراير المدمر الذي أودي بحياة آلاف المواطنين، ودمر مساحات شاسعة من جنوبي تركيا.
وأظهرت استطلاعات الرأي -التي سبقت الانتخابات- تقدم زعيم المعارضة كليجدار أوغلو بقوة في الجولة الأولى من السباق الرئاسي، بينما بدا أن زمن أردوغان بدأ الأفول.
ولكن، بعد يوم واحد من التصويت، جاءت النتائج بما لا تشتهي المعارضة، وبدلاً من أن يتخلف أردوغان عن كليجدار أوغلو، حقق تقدمًا مريحًا، بما يقرب من خمس نقاط مئوية، وكان في طريقه لتحقيق فوز ساحق، بحصوله على ما يقرب من 50 في المئة من الأصوات.
ونتيجة لذلك، يتواجه الاثنان بانتخابات الإعادة في 28 مايو، رغم أن معظم الخبراء يعتقدون أن عودة شاغل المنصب إلى السلطة أمر واقع، في إشارة إلى إمكانية استمرار أردوغان بمنصبه.
في الوقت نفسه، احتفظ حزب العدالة والتنمية -بزعامة أردوغان وحلفائه- بالسيطرة على البرلمان.
سنوات الخبرة
وأرجعت "واشنطن بوست" نجاح أردوغان إلى خبراته في السلطة، مشيرة إلى أن بقاءه في السلطة عقدين كاملين، منحه فهمًا دقيقًا لكيفية تعزيز مكانته بين الناخبين، والاستفادة من سلطته الهائلة ونفوذه.
وأشارت إلى أنه مثل الانتخابات السابقة، التي جرت عامي 2015 و2018، عمد أردوغان إلى شيطنة المعارضة، وأذكى الخوف بين قاعدة مؤيديه من القوميين المتدينين، مما سماه "انتقام النخب العلمانية" إذا وصلوا إلى السلطة.
ورغم إعلان المراقبين الدوليين، أن التصويت كان حرًا إلى حد كبير وخاليًا من المخالفات الكبرى، فإنهم أشاروا إلى أن القيود المستمرة على الحريات الأساسية، كانت سببًا رئيسًا في الوصول إلى هذه النتيجة، حسب تقييم منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وبينت المنظمة أنه رغم أن الحملة الانتخابية شهدت منافسة حرة، فإنها اتسمت بالاستقطاب الشديد، وشابها الخطاب السلطوي لحزب أردوغان، بخلاف إساءة استخدام الموارد الإدارية، والترهيب الذي واجهته أحزاب المعارضة.
وحسب الصحيفة، أظهرت النتيجة كيف أن أردوغان قادر على المناورة بأذرع النظام التركي، الذي يسيطر عليه منذ عقدين.
فقبل الانتخابات، كان المعارضون السياسيون الرئيسون معتقلين بالفعل، أو يتعرضون للتهديد بالملاحقة القضائية في قضايا كاذبة، خصوصًا أن أردوغان أمضى سنوات حكمه في زرع الموالين له داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء، وحوَّل الشركات الإعلامية التي كانت مستقلة، إلى منافذ إعلامية موالية لحكومته، ما ساعد في تقديم معلومات مغلوطة لصالحه.
تنافسية غير عادلة
في المقابل، واجه حزب الشعوب الديمقراطي اليساري الموالي للأكراد، سنوات من الهجمات المتلاحقة والحرب القانونية، بل إن الزعيمين الرئيسين للحزب -صلاح الدين دميرطاش وعبد البارى يغيت- يقبعان في السجن، كما شُطب عديد من أعضاء البرلمان والمسؤولين البلديين، أو تعرضوا أيضًا لإجراءات جنائية مشحونة سياسيًا.
وقد انضم مرشحو حزب الشعوب الديمقراطي إلى القوائم الانتخابية لحزب اليسار الأخضر، الذي واجه أيضًا حملة ضغط مدعومة من الحكومة، شهدت اعتقال بعض مرشحيه وأنصاره.
ونقلت "واشنطن بوست" عن الصحفية أمبرين زمان، المتخصصة في الشأن التركي، قولها: "بلا شك، كانت الانتخابات تنافسية من الناحية الفنية، وإن كانت غير عادلة عمليًا".
واتهمت زمان، أردوغان بأنه استخدم نظام حكم الرجل الواحد، الذي فُرض في أعقاب استفتاء مثير للجدل عام 2018 بتكريس كل المؤسسات لصالحه، وتوجيه وسائل الإعلام، وحشو القضاء والمؤسسات الأخرى بالمؤيدين له.
ونوهت الصحيفة الأمريكية، إلى أن "آلته الدعائية الضخمة كانت تضخ الأكاذيب عن المعارضة"، لافتة إلى أنه في أبريل الماضي، حصل أردوغان على 32 ساعة من البث التلفزيوني الرسمي مقارنةً بـ 32 دقيقة لمنافسه كليجدار أوغلو.
وذكرت "واشنطن بوست" على لسان عدد من الصحفيين الأتراك -الذين رفضوا ذكر أسمائهم لأسباب أمنية- قولهم: "استخدم أردوغان تكتيكات أخرى خلال الأسابيع التي سبقت التصويت، مثل رفع رواتب موظفي القطاع العام وتوفير الغاز المجاني لبعض الأسر".
وأضافوا: "نظرًا لأن خطابات الرئيس حظيت بتغطية شاملة في وسائل الإعلام التركية، فقد اضطر كليجدار أوغلو لنشر رسائله من خلال حسابه على "تويتر"، في خطابات مسجلة على طاولة مطبخ منزله، رغم أنه يتحدث في موضوعات مهمة جدًا مثل الاقتصاد".
النزعة القومية
من الأمور التي اعتمد عليها أردوغان أيضًا -حسب "واشنطن بوست"- استغلاله للنزعة القومية لمؤيديه.
فقد لاحظت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أن "أداء الرئيس أمام الكاميرات، وحديثه الدائم عن العلمانيين، كان له صدى كبير لدى قاعدته من الناخبين المحافظين المتدينين ذوي النزعة القومية القوية".
في المقابل -حسب "واشنطن بوست"- قد لا تتمكن طاولة الأحزاب الستة، التي توحدت حول كليجدار أوغلو من الحفاظ على تضامنها فترة أطول، خصوصًا أنهم يمثلون مزيجًا من الفصائل العلمانية والدينية والقومية غير المتآلفة، التي كانت قدرتها على التلاقي إنجازًا كبيرًا في حد ذاته، ورمزًا للرغبة الواسعة للمعارضة في إنهاء حقبة أردوغان، لكن -عند الشعور بالفشل- قد تظهر الانقسامات الأيديولوجية والتنافسات السياسية في المقدمة، وترى الصحيفة أن تلك العوامل خدمت أردوغان وما زالت، بشكل جيد.
وعن النزعة القومية، التي أجاد أردوغان اللعب عليها، دللت "واشنطن بوست" بتغريدة كتبها هوارد إيسنستات، باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، في "تويتر" أشار فيها إلى أن "نتائج الانتخابات أظهرت ارتفاعًا في المشاعر القومية".
وبينما نجح أردوغان في جذب قاعدة مهمة من الناخبين، بسبب لعبه على المشاعر القومية، فإن كليجدار أوغلو يعتمد أيضًا على جذب الأصوات الكردية.
وبينت "واشنطن بوست" أن أردوغان أمضى سنوات في عبور هذا التماس المشحون بالسياسة وباللعب على المشاعر القومية، فبينما بدأ حكمه -قبل نحو عقدين- بإلغاء قانون يحظر تعليم اللغة الكردية، اتخذ في السنوات الأخيرة خطاً أكثر قومية، حيث عد السياسيين المؤيدين للأكراد "إرهابيين"، وصعد حملة دموية لمكافحة التمرد جنوبي شرق تركيا، ضد جماعة انفصالية.
وخلال حملته الانتخابية، وجَّه أردوغان مخاوف الأتراك المتدينين من العودة إلى حقبة من العلمانية المتشددة، التي دافع عنها -على مدى عقود- أسلاف حزب الشعب الجمهوري بزعامة كليجدار أوغلو.
سياسة الهوية
وترى الصحيفة الأمريكية، أن إثارة الذعر والصراع الثقافي، تنجح في المناطق النائية لتركيا، حيث يستمد أردوغان الجزء الأكبر من دعمه، مضيفة: "يبدو أن الحذر الواضح بين بعض الناخبين المحافظين من هوية كليجدار أوغلو كعلوي -وهي طائفة صوفية تعرضت للاضطهاد في دولة ذات أغلبية سُنية مسلمة- كان أيضًا أحد العوامل التي خدمت أردوغان".
وحسب تغريدة للكاتب سونر كاغابتاي، الزميل الأول في معهد واشنطن، رغم نجاح تحالف اليسار واليمين المعارض في جذب الأصوات بالمدن الرئيسة -العاصمة أنقرة والمناطق ذات الأغلبية الكردية- فإنه جانبه الصواب ببقية البلاد.
وقال كاغابتاي: "في هذه الأماكن نجح أردوغان في شيطنة دعم حزب الشعوب الديمقراطي لكليجدار أوغلو وهويته العلوية، لخلط الناخبين على طول الانقسام بين اليمين واليسار، ما يفيد كتلته اليمينية".
وأضاف:" من الأمور التي لم يتصورها كثيرون، عدم تأثير الغضب العارم الذي تفشى بين الأتراك، بعد زلزال 6 فبراير في الانتخابات".
وكتب الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دارون أسيموغلو على تويتر: "لم يكن لسوء الإدارة الاقتصادية والفساد المستشري جاذبية واسعة، كما اعتقد كثيرون وأنا منهم"، مضيفًا: "كان هذا مهمًا في المناطق الحضرية، لكن ليس في الأماكن التي بنى فيها حزب العدالة والتنمية شبكات المحسوبية الخاصة به واستخدمها".
وهو ما علقت عليه "واشنطن بوست" بالقول: "أهم درس قد يؤخذ من الانتخابات التركية، أنه خلال هذه اللحظة المهمة من الديمقراطية التركية، تتفوق سياسة الهوية على كل شيء".